تتسم العلاقات التي تربط الإنسان بأفراد عشيرته أحيانا بنوع من الحساسية، وغالباً ما يكون المسبب لذلك المشاكل الطارئة المادية منها أو المعنوية، حيث تؤثر تأثيراً مباشراً على التواصل والتقارب بين طرفي هذه العلاقة.
بمرور الوقت يبقى المسيطر على الطرفين هاجس معين يحاول جاهداً تارة التقريب بينهما، وأخرى يبعدهما إلى درجة تنذر بالقطيعة الدائمة، فلا تواصل أو لقاء في فرح أو ترح وكأن وشائج الرحم وأواصر القربى تحولت إلى حالة مضطربة تتحكم بها ثنائية النفور – الحقد التي تلغي المصالحة والأمل بالعلاج شيئاً فشيئاً حتى تكون محصلة ذلك موت العلاقة ووأدها في مقبرة الإحن والإضغان.
ولكن الإمام الصادق(عليه السلام) يسير في سلوكه تجاه أقاربه بشكل عام، والذين تجرؤا عليه وأضمروا له السوء، وكان هو(عليه السلام)
على عكس ذلك تماماً، فهو المبادر وإن ألغى الآخر المبادرة، ولنا بين هذا وذاك وقفة نستجلي بها ما سطره التاريخ من مواقف نبيلة حملت بصمة الإمام الصادق(عليه السلام) لتبقى محفورة في النفوس كما هي مخلدة في الكتب،
تعطي درساً بليغاً في كيفية إدارة العلاقة الأسرية مع أبناء العشيرة، الكيان الذي ينتمي إليه الفرد وبه يقوى في مواجهة المشاكل الاجتماعية متى ما برزت على السطح وانتشرت.
أول ما نلمح من نوع في علاقته مع الهاشميين هي العلاقة مع عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن السبط، فقد كان عبد الله يرى في ولده محمد أهلاً ليكون خليفة علوياً، تطمح إليه النفوس وترنو إليه العيون، وتعلق عليه الآمال في استعادة الحق السليب وذلك بعدما لاحت في الأفق القريب تباشير زوال الخلافة الأموية،
ولكن الإمام الصادق(عليه السلام) حذره مما يتمناه وأخبره أن الخلافة ستجر أذيالها نحو العباسيين شاء عبد الله أم أبى، فظن عبد الله أن الصادق(عليه السلام) يحسد ولده، فقابل الإمام(عليه السلام) بكلمات قاسية يصعب على المقابل تحملها، وما ذلك إلا لعدم إدراكه حكمة الإمام من خلال بذل النصح ومحاولة تجنيب الأسرة الحسنية عملية الإبادة الشاملة التي تعرضت لها فلم تترك سوى الأطفال والصبيان.
ولما رأى الإمام ما فُعل بآل الحسن جلس حزيناً كئيباً يبكي لما حدث لأبناء عمه، وهذا ما نقلته لنا خديجة بنت عمر الأشرف بن الإمام علي السجاد(عليه السلام) حيث قالت: (لما وقفوا عند باب المسجد ـ أي بنو الحسن ـ أطلع عليهم أبو عبد الله (الصادق) وعامة ردائه مطروح بالأرض ثم اطلع من باب المسجد وقال:
(لعنكم الله معاشر الأنصار ثلاثاً ما على هذا عاهدتم رسول الله ولا بايعتموه، أما والله إن كنت حريصاً ولكني غُلبت وليس للقضاء مدفع، ثم قام وأخذ إحدى نعليه فأدخلها رجله والأخرى في يده وعامة رداءه يجره في الأرض، ثم دخل بيته فحمّ عشرين ليلة لم يزل يبكي في الليل والنهار حتى خفنا عليه)(1).
وهذا النص كشف عن لوعة الإمام بفقده بني عمه وما سيؤول إليه أمرهم، وقد بين(عليه السلام) نصحه لهم من خلال قوله: (أما والله إن كنت حريصاً)، فلم يدخر وسعا في ثني عبد الله المحض وولديه عما كان يراود آمالهم.
أما علاقته(عليه السلام) مع الحسينيين ـ وهو فرع منهم ـ فتتمثل بوضوح مع عمه زيد بن علي(عليه السلام)، الذي كان يترحم عليه كلما يتذكره فيذرف الدمع، فقد نقل لنا فضيل عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: (دخلت على أبي عبد الله بعدما قتل زيد بن علي فأدخلت بيتاً في جوف بيت، فقال: يا فضيل قُتل عمي زيد، فقلت: نعم جعلت فداك، فقال: رحمه الله، أما إنه كان مؤمناً وكان عارفاً وكان صدوقاً أما إنه لو ظفر لوفى أما أنه لو ملك لعرف كيف يضعها)(2).
مما تقدم يمكن لمس الجانبين التاليين: إن عبارة فضيل: (…فأدخلت بيتاً في جوف بيت) تدل على مدى الإرهاب الذي مارسه الأمويون اتجاه الإمام الصادق(عليه السلام)، والظاهر إن الإمام كان مراقباً من عيون الأمويين، وربما كان مقتل زيد جعل الأمويون يرصدون تحركات الإمام نتيجة لمساندته(عليه السلام) عمه الثائر ضد حكمهم المستبد.
إبراز صفات زيد بن علي على لسان الإمام مما يمنع التقولات على شخصيته ومشروعية حركته وقد أحكم الإمام ذلك بقوله(عليه السلام):
(أما أنه لو ظفر لوفى).
أما النص الآخر الذي يبين حزن الإمام(عليه السلام) لفقده عمه فهو: (لما بلغه قول الشاعر حكيم بن العباس الكلبي:
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ولم أر مهدياً على الجذع يُصلبُ
وقستم بعثمـان عليــاً سفــاهة وعثمــان خير من عـلي وأطيبُ
فرفع الصادق(عليه السلام) يديه إلى السماء وهما يرتعشان فقال: (اللهم إن كان عبدك كاذباً فسلط عليه كلباً) فبعثه بنو أمية إلى الكوفة فبينما هو يدور في سككها إذ افترسه أسد واتصل خبره بجعفر فخر لله ساجداً ثم قال: (الحمد لله الذي أنجز لنا ما وعدنا)(3).
ولما جاءه نبأ مقتل ابن عمه يحيى بن زيد، بكى واشتد وجده به وقال: (رحم الله ابن عمي وألحقه بآبائه وأجداده)(4).
أما الحسين بن زيد فقد رباه وكفله بعد قتل والده، فقد كان صغيراً ولما شب وترعرع غذاه من لباب علمه حتى عده الرجاليون واحداً من أصحابه الذين يروون عنه(عليه السلام)(5).
ولكنه(عليه السلام) عانى كثيراً من عيسى بن زيد لما أجبره على مبايعة محمد بن عبد الله المحض وهدده بالسجن تارة وبالقتل أخرى إن لم يفعل، متجاهلاً تماماً موقع الإمام الريادي في الأمة الذي يمثل أمتداداً طبيعياً للنبوة، ولما ضاق(عليه السلام) ذرعاً بتصرفات عيسى وكلماته غير المؤدبة، كان لابد له(عليه السلام) أن يحسم الأمر فقال له:
(يا أكشف يا أزرق لكأني بك تطلب جحراً تدخل فيه وما أنت من المذكورين في اللقاء، وإني أظنك إذا صفق خلفك طرت مثل الهيق(6) النافر(7))(8).
لقد أخبر الإمام(عليه السلام) فيما تقدم عن مغيب وقع بالفعل، فلم تمض الأيام حتى فشلت حركة محمد بن عبد الله وقتل، ففر عيسى الذراع الأيمن لمحمد ولا يدري أين يختبأ من طلب العباسيين حتى أدى به الأمر إلى التخفي بالكوفة، متخذاً من سقاية الماء ونقله على راحلته مهنة يقتات منها إلى أخر أيام حياته.
وهكذا عاش الإمام الصادق(عليه السلام) صائناً حق القرابة، مؤدياً صلاتها إلى حين وفاته(عليه السلام) فقد (قالت سالمة مولاته: كنت عند أبي عبد الله حين حضرته الوفاة فأغمي عليه، فلما أفاق قال: أعطوا الحسن (الأفطس) بن علي بن علي (السجاد) سبعين ديناراً، وأعطوا فلاناً كذا وكذا فقلت: أ تعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة يريد أن يقتلك، فقال: تريدين أن لا أكون من الذين قال الله عز وجل: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)، نعم يا سالمة أن الله تبارك وتعالى خلق الجنة، وطيّبها وطيّب ريحها، وأن ريحها ليوجد على مسيرة ألفي عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم)(9).
يبين النص السابق مدى التسامح الذي يحمله الإمام، فيأمر لمن أراد قتله قبل سنين بأموال، وهو بذلك يجسد مثالاً صادقاً في صلة الرحم.
كما قال أبو بصير:
دخلت على أم حميدة (زوجة الإمام) اعزيها بأبي عبد الله، فبكت وبكيت لبكائها ثم قالت: يا أبا محمد لو رأيت أبا عبد الله عند الموت، لرأيت عجباً، فتح عينيه، ثم قال أجمعوا كل من بيني وبينه قرابة، قالت فما تركنا من احد إلا جمعناه، فنظر إليهم ثم قال: إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة)(10)، وفي هذا الحديث نرى:
حرصه(عليه السلام) على حضور أقربائه عنده في ساعاته الأخيرة. أن يبلغ الحاضرين من العلويين أن القرابة ليست مدعاة للاعتماد على الشفاعة .
————————————