لا تتم عملية اختيار المدن كعواصم للثقافة من غير مؤهلات وشروط لابد من توفرها في هذه المدنية وعلى رأسها تاريخية المدينة ودورها الحضاري ومشاركتها في بناء وتشكيل الفكر الإنساني وهكذا جاء اختيار مدينة النجف الأشرف كعاصمة للثقافة الإسلامية عام (2012م) بوصفها مدينة مقدسة أدت أدواراً هامة على طول التاريخ الإسلامي ورفدت الإنسانية بأفكار ومشاركات عقلية كما هو حال المدن المهمة المساهمة في بناء الحضارة الإنسانية.
فالنجف الأشرف بوجود الضريح المقدس لأمير المؤمنين علي بن أبي
طالب(عليه السلام) وما ترتب على وجود هذا الضريح من قيام حوزتها العلمية ومقر المرجعية الدينية العليا كانت ولا زالت مثار اهتمام كل العالم وتحظى الأفكار الصادرة عنها بعناية لأنها تأتي متميزة ومؤثرة في تشكيل الرأي العام الإسلامي والحقيقة إن ما يصدر عن هذه المدينة المقدسة من آراء وفتاوى دينية تؤثر بشكل مباشر بالمؤمنين في كل أرجاء العالم الذين يتجهون بأسئلتهم واستفساراتهم وأنظارهم الى مقر المرجعية الدينية العليا لاستطلاع ما يصدر عنها من آراء حول القضايا الخطيرة في العالم لارتباطهم الروحي بها ولما تمثله هذه الآراء من اتزان وعقلانية وبذلك فقد تكونت الرؤية العامة لمدينة النجف الأشرف التي كان اختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية عام (2012م) كحالة وفاء لها واستذكاراً لتاريخها الطويل وتراثها المتراكم ولكن السؤال الذي يطرحه الكثيرون سواء من داخل النجف الأشرف أو خارجها ماذا تم إعداده واستحضاره لكي تخرج المدينة بما تستحق من صورة ومضمون؟ وما مدى حرص القائمون على إدارتها وفئاتها المثقفة ومراكز البحوث ودور الفكر ومدارسها وبيوتاتها العلمية والفكرية على إنجاح هذا الاختيار؟
ولكن قبل الدخول في مناقشة هذا الأمر وغيره لابد من التأكيد إن مدينة النجف الأشرف قد احتضنتها الصحراء الغربية وانقطعت عنها الأنهار من كل الجهات بينما استلقت المدن الأخرى على شواطئ الأنهار وهي في كل هذا أرض هضبية غير مزروعة لكن إرادة الله تعالى وحكمته المتعالية شاءت أن يكون لهذه المدينة قدسيتها وعلوها بين المدن فشرفها الخالق عز وجل ورفعها حين أراد إمامنا العظيم علي بن أبي طالب(عليه السلام) أن يكون ثراها لجسده الطاهر مدفناً وبالتالي مدفناً لشيعته ومحبيه وبفعل هذه الإرادة الإلهية تحولت النجف الأشرف من حالة الجدب والفقر والصورة الصحراوية الى مدينة للغنى والخير الوفير حيث رزقها يأتيها من كل مكان ولتصبح أرضها هي الأغلى والأندر يتقاطر للسكن فيها المؤمنون من كل حدب وصوب طلباً للثواب والشفاعة وتقرباً من مرقد أمير المؤمنين(عليه السلام) ويقدم إليها الناس أفواجاً وزرافات من كل عام وبالإضافة الى ما سبق فإن المدينة تضم العديد من المراقد المقدسة وكل هذا يرفع من مكانتها ويمنحها ميزات جديدة لابد من مراعاتها ووضعها موضع الاعتبار حين الإعداد لعامها المنتظر فالجهود لابد وأن تبدأ من الآن للبناء والأعمار والتطوير وإحياء تراثها واستعادة المفقود منه.
فتاريخ وتراث المدينة المقدسة الذي تعرض للتخريب والتلاعب زمن البعث البائد يشكل جرحاً في نفوس أهلها ومحبيها فعلى سبيل المثال فإن البعثيين قد دمروا سورها الذي كان يحميها بحقد وعداء رغبة بقطع صلتها بتراثها وهو ما أثار المنظمات الدولية المهتمة بشؤون الثقافة والتراث ونددت بأعمال التخريب تلك والآن فإن الواجب يحتم المحافظة على ما تبقى من آثار وتراث ممتد الى مئات السنين لكن الذي نلاحظه إن العبث بهذا التراث قد استمر الى أيامنا هذه وهو الأمر الذي يمكن ملاحظته فيما جرى من عمليات هدم وبناء داخل أحد أروقة الصحن الحيدري الشريف إذ تم إزالة وهدم المنطقة الجنوبية المعروفة بجامع الرأس من السور العلوي الشريف والاستعانة بدل عنها بالكتل الكونكريتية وأطنان الحديد وجرى تغيير معالم هذا الجزء من الصحن الحيدري الشريف بطريقة لا تدل على روح الحفاظ على التراث وقدسية المكان والحقيقة إن هذا كله يثير في النفس الحزن والأسى ويبعث حالة من عدم الرضا لأن المساس بهذا الجزء التراثي قد تم بلا روية أو تقدير لقيمة الأشياء.
ثم الأمر الآخر الذي يدعو للحيرة ما يجري من عمليات إكساء للصحن الحيدري الشريف واستبدال المرمر الذي عرف به هذا الصحن المقدس بآخر تم جلبه من تركيا عن طريق تجار إيرانيون وهو لا يحمل تلك المواصفات المعروفة عن المرمر القديم وكان من المفروض أن تجلب أرقى الأنواع لإكساء الصحن الحيدري الشريف وبالمقابل فإن فتح مكتبة الروضة الحيدرية وتطورها المستمر يدعو للإعجاب والارتياح لتضاف الى سلسلة المكتبات الكبيرة والفريدة التي تحويها عاصمة العلم والثقافة فالنجف الأشرف تفخر وتعتز بوجود نظام مكتبي رفيع المستوى كدلالة على خاصية المدينة العلمية والثقافية وكونها منبعاً لنشر المعارف والحقيقة إن ذلك يدعو إلى إبراز هذا الجانب المهم وذلك من خلال تطوير هذا النظام المكتبي ودعمه بالمستحدثات التقنية والعلمية سواء من قبل الحكومة أو من قبل الجمعيات والمنتديات والمراكز المهتمة بالفكر والعلم والثقافة والآداب فالمكتبات النجفية تعد رمزاً للأهمية العلمية لمدينة النجف الأشرف ودور المرجعية الدينية العليا في إنشاءها ونشر الثقافة بين الجميع.
ثم يأتي دور البناء والإنشاءات التي لابد من توفرها للاحتفالات واستقبال ضيوف المدينة في عامها الثقافي وهذا يستدعي إنشاء القاعات والأماكن الخاصة بالثقافة ولعل عملية أعمار البيوت والمباني التراثية التي تشكل جزءاً من تاريخ المدينة يأتي من هذا الباب فهناك بيوت العلماء والمفكرين النجفيين لابد من أعمارها والأمر ينطبق على المنتديات والجمعيات التي توقف بعضها عن ممارسة نشاطه فأرشفة وتدوين وتوثيق تاريخ وتراث هذه المنتديات والجمعيات يتطلب تشكيل اللجان المختصة لتأخذ على عاتقها الجمع والبحث من الآن فهناك آلاف النشرات لإصدارات والمطبوعات والوثائق والصور التي تؤرخ لنشاط النجف الثقافي والأدبي ولرموزها العلمية فعشرات الصحف والمجلات قد صدرت على طول قرن من الزمان بعضها يلفه الضياع وبعضها في طريقه الى الاندثار إذا لم تجري معالجته بطريقة علمية وحفظه في أماكن خاصة وما يجري على الصحف والمجلات يجري على المخطوطات النادرة والتي تعد الخزين الاستراتيجي لمدينة النجف الأشرف ودليل عشقها للعلم والعلماء وجذور ثقافتها الممتدة الى بدايات قيام حوزتها العلمية.
أما مدارسها الدينية فهي الأخرى والتي تشكل منابع الثقافة النجفية ومصدر الإبداع فيها فإن إعادة أعمارها وإظهارها بشكل يؤكد قيمتها العلمية والتاريخية على أن يكون ذلك مترافقاً بتدوين وتوثيق أسماء وصور هذه المدارس وتاريخ إنشاءها والرموز العلمية التي درست فيها وبغية تحقيق ذلك لابد من الإفادة من المهتمين بتاريخ المدينة وحوزتها العلمية والمختصين القادرين على إبراز الدور الريادي لهذه المدارس التي كونت اللبنات الأولى للثقافة النجفية باعتبار أن النجف الأشرف المدينة قامت على أساس ديني مقدس وهو الصبغة التي اصطبغت بها وتميزت عن غيرها من المدن فحتى أسماء الشوارع جاءت متوافقة مع هذه الصيغة ولذلك فإن هذه الشوارع لابد أن تستعيد ألقها وتظهر بالمظهر الحقيقي لها كشوارع وأزقة نظيفة ومرتبة ومنظمة والحقيقة إن الكثير من النجفيين وعشاق النجف يطمحون لتخليد المكونات الأولى للبيئة النجفية التي سكنها النجفيون الأوائل ونعني بها الأطراف الأربعة المحيطة بالصحن الحيدري الشريف.
فالحفاظ على هذا التراث المنبثق عنه هذا المجد الطويل والذي شهد أحداث مهمة وخطيرة وفي داخل هذه الأطراف ولد وعاش العلماء والمثقفون وقدموا علومهم للناس لتمتد الى أبعد مكان في العالم فتكونت سمعة المدينة العظيمة وراح العالم يحسب لرأيها حساباً فمن المناسب أن تتم استعادة هذا التراث وأعمار الأطراف الأربعة لتكون النجف الأشرف في حلة تجمع بين التراث والمعاصرة كما هو فكر علماؤها ورجالها البارزين الذين يجمع بين الاثنين.
وإذ نتحدث عن بعض الأسس والشروط الواجب توفرها حتى عام (2012م) فإن ذلك لا يعني أن تقع المسؤولية على عاتق الجهات الحكومية وحدها بل لابد من تضامن وتكاتف وتعاون الجميع في هذا المجال خدمة لمدينة أمير المؤمنين(عليه السلام) فكل يعمل من موقعه ومكانه وقدرته وكذلك الحال بالنسبة للجمعيات والمنتديات والأندية التي يقع عليها جزء من هذه المهمة الكبيرة فالعمل والجهد والمثابرة المخصوصة بهذا الجانب تهدف إلى إبراز الدور المتميز والتنويري للنجف الأشرف ودفاعها عن الإسلام المحمدي الأصيل والقيم الروحية وفكر الاعتدال والتسامح وحفاظها على اللغة العربية من خلال مدارسها المنتشرة في كل أرجاء المدينة فهذا الهدف هو ما تحاول كل العواصم الثقافية إبرازه وإخراجه ليرى العالم الحقيقة.