Take a fresh look at your lifestyle.

الإمام الحسين (عليه السلام).. صورة أخرى

0 4٬221
            إن صورة الشخصية التاريخية التي تتبوأ مكانة مميزة في المجتمع الإنساني، وكذلك صورة الحدث التاريخي المفصلي في تاريخ المجتمعات البشرية، تتشكل من مجموعة رموز كل واحد منها يضع خطا في تلك الصورة حتى تكتمل ملامحها.
          فلو أخذنا صورة الإسلام مثلا فهي ترسمها مجموعة رموز منها المفاهيم التي يدعو إليها الإسلام ومنها سيرة نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله) ومنها الطقوس والشعائر والعادات التي يمارسها المسلمون فهي تضيف الكثير من الخطوط لتلك الصورة.
           بل أحيانا تكون تلك العادات والطقوس هي وحدها من يرسم صورة الإسلام كما هو حاصل الآن عند الكثير من الغربيين فان تصورهم عن الإسلام مقتصر على ممارسات المسلمين ولذا كانت صورة الإسلام في الغالب مشوشة، مرتبكة، وأحيانا قاتمة. مما ولد انطباعات سلبية عندهم عن الإسلام.
           وكذلك هو الإمام الحسين(عليه السلام) وحركته الإصلاحية المباركة، فان من العناصر الهامة التي شكلت صورته في الأذهان وخلقت تصوراً عنه وعن حركته ـ فضلا عما ورد في حقه من نصوص في القران الكريم أو عن جده المصطفى(صلى الله عليه وآله) ـ هو الطقوس والشعائر والعادات والتقاليد التي تمارس باسم الحسين وهي لا تقل أهمية عن نصوص القران والسنة الشريفة ان لم تزد عليها أهمية أحيانا.
         خصوصا وان الناس في الغالب لا تمارس عملية البحث العلمي لترسم صورة للإمام(عليه السلام) من خلال الغور في أعماق النصوص وتنقيحها وغربلتها لتصل إلى الصورة الحقيقية لتلك الشخصية العملاقة، بل الغالب من الناس يكتفون بما يسمعون أو يشاهدون ليكتمل عندهم التصور عن حدث عاشوراء وصانع ذلك الحدث الإمام الحسين(عليه السلام).
           وغير خاف على احد إن أوضح اللوحات التي رسمناها للإمام الحسين(عليه السلام) وقدمناها لأجيالنا وللشعوب كافة من خلال ما نمارسه من طقوس وشعائر وعادات وتقاليد باسم الحسين(عليه السلام) تشكلت خطوط تلك اللوحة من مشهد أحمر اللون عناصره السيوف والدماء وبذلك رسمنا صورة نمطية.. مبتورة.. مزيفة لأبي الأحرار وسيد شباب أهل الجنة.
           صورة الإنسان الذي لا يفارقه مشهد الدم، الإنسان الذي يقدم السيف على الكلمة والقتل على الحوار والعنف على السلم. رسمنا مائزاً بين صورته وصورة أخيه الإمام الحسن(عليه السلام) أن صورته حمراء تجللها الدماء وصورة أخيه بيضاء تعبر عن الشخصية المسالمة والمتسامحة ويالها من مفارقة فيها الكثير من التجاوز على شخصية الإمام الحسين(عليه السلام) المسالمة والمفعمة بالقيم الإنسانية  وعلى مشروعه الإصلاحي.
            نظرة سريعة في سيرة هذا الإمام العظيم تكفينا لنقف على ملامحها الإنسانية ومشروعها التسامحي، يروي لنا أنس بن مالك فيقول: كنت عند الحسين فدخلت جارية فحيته بطاقة ريحان فقال(عليه السلام): أنت حرة لوجه الله فقلت: تحييك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها؟ قال(عليه السلام): كذا أدبنا الله قال الله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ) وكان أحسن منها عتقها(1).
          فأي نفس مفعمة بحب الخير هذه وأي شعور إنساني راق هذا الذي واجه به الإمام جاريته، وبهذا الحس الإنساني النبيل كان يتعامل الإمام الحسين(عليه السلام) مع من يسيء إليه فضلاً عمن يحسن له مما شجع بعض خصومه لاستغلاله،
           روى المؤرخون أن مروان بن الحكم وهو عدوه وعدو آبائه اللدود فزع للإمام الحسين ولأخيه الحسن(عليهما السلام) بعد هزيمة معركة الجمل وطلب منهما أن يشفعا له عند أبيهما أمير المؤمنين(عليه السلام) فلم يترددا في الاستجابة فخفا للإمام وكلماه بشأنه وقالا:
           يبايعك يا أمير المؤمنين، ومازالا يلطفان به حتى عفا عنه(2)، فلا يمكن أن يصدر مثل هذا الموقف إلا من قلب لا يعرف الحقد والكراهية قلب لا يحمل إلا الحب والرأفة لبني الإنسان.. يجير من استجار به.. يمد يده لكل ذي حاجة… يرد لهفة كل ملهوف.
            والشواهد على ذلك كثيرة في حياته المباركة بل ان الحلم والرأفة والعطف والتواضع هي الأسس التي كان ينفتح الإمام من خلالها على أبناء المجتمع مهما كان لونهم الثقافي أو الديني أو العرقي والأمثلة على ذلك أكثر من ان تستوعبها مقالة مبنية على الاختصار.
         ثم لابد أن تكون لنا وقفة ـ ونحن في معرض الحديث عن التسامح في شخصية الإمام الحسين(عليه السلام) ـ على حركته المباركة وما تضمنته من مواجهات دامية كانت حصيلتها عشرات الشهداء من أهل بيته وأصحابه وضعفهم من القتلى في الجيش الأموي .
         إذ قد يقول قائل كيف يتفق هذا مع من نهجه التسامح ونبذ العنف ان تكون معارضته للنظام السياسي القائم بالمواجهة المسلحة؟ ولم لم يختار المعارضة السلمية ضد الأمويين؟
         وجوابا على ذلك نقول إن خيار المواجه المسلحة لم يكن هو الخيار الأول الذي لجأ إليه الإمام بل كان هو الخيار الأخير بعد إن لم يبق الأمويون أي فرصة للكلمة أن تأخذ دورها وللحوار ان يستمر، فهم الذين ألجأوا الإمام إلى الخيار المسلح، إذ من الثابت تاريخيا أن الحسين(عليه السلام) عاش بصفته إماماً عشر سنوات مع أخيه الحسن من شهادة الإمام علي سنة 40 هـ إلى شهادة الإمام الحسن سنة 50 هـ، ثم تفرد بإمامة المسلمين بعد أخيه الحسن سنة 50هـ إلى سنة 60 هـ فالملاحظ طيلة هذه العشرين سنة كان الإمام يرفع لواء المعارضة السلمية ضد النظام الأموي ولم يعرف عن الإمام(عليه السلام) انه دعا إلى ممارسة العنف أو الحرب أو غير ذلك،
          وللأسف الشديد اننا أغفلنا مشروع الإمام السلمي هذا في معارضة النظام الأموي الجائر رغم إن عمر هذا المشروع يمتد لعقدين من الزمن إما جهلا أو تعمدا حيث كان الإمام طيلة هذه الفترة يعلن معارضته ويحتج على الظلم الأموي والتلاعب بمقدرات المجتمع بالخطاب والكتب التي كان يبعثها إلى رئس النظام معاوية بن أبي سفيان كالكتاب الذي أرسله احتجاجا على قتله حجرا واستلحاقه زياداً كما أن الإمام كان يعقد مؤتمرا سنويا بعرفات في موسم الحج للإعلان عن موقفه من سياسات السلطة الأموية.
            هذه هي ملامح منهج الإمام في المعارضة. وما حصل أن الأمويين هم الذين زجوا الإمام في موقف حرج إذ لم يتركوا أمامه أكثر من خيارين إما النزول على حكمهم وغض الطرف عما يتعرض له الإسلام من تزوير وتلاعب وما يمارس مع المجتمع من غصب للحقوق وتعسف وقتل أو أن يقتل هو ويراق دمه الطاهر وكيف لربيب العزة والكرامة أن يختار الذل والخنوع.
          لقد كانت رسالة طلب البيعة من الإمام الحسين(عليه السلام) التي بعث بها يزيد بن معاوية إلى والي المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان تشكل بداية التحول في موقف الإمام في معارضته للنظام الأموي بعد أن خيره يزيد بن معاوية بين البيعة له أو أن يضرب عنقه، فيقرر الإمام الهجرة إلى مكة بحثا عن مقر بديل ينطلق منه لأداء واجبه في كشف زيف الأمويين وسلب شرعيتهم ويستمر مسلسل التهديدات لاغتيال الإمام (عليه السلام)  فقد أنفذ يزيد بن معاوية عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر وأمَّره على الحاج وولاه أمر الموسم وأوصاه بالفتك بالحسين(عليه السلام) أينما وجد(3).
           وقد علم الإمام(عليه السلام) بتصميم الأمويين على قتله وهو بمكة وانه مهدد بالاغتيال في أي لحظة كما جاء في جوابه لابن الزبير ويقال لابن عباس حين طلب منه أن يتريث في الخروج من مكة فقال: إن أبي حدثني ان بمكة كبشا ـ الكبش يعني الضحية ـ به تستحل حرمتها فما أحب أن أكون ذلك الكبش ولئن اقتل خارجا منها بشبر أحب إلي من ان اقتل فيها وأيم الله لو كنت في ثقب هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا في حاجتهم والله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت(4).
           ومثله ما ورد في جوابه لمحمد بن الحنفية حين اقترح عليه عدم الخروج من مكة فقال(عليه السلام): أخاف أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي تستباح به حرمة هذا البيت(5). ومرة أخرى في جوابه لابن عباس بنفس الصدد قال: والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي فاذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلهم(6). وقد صور الإمام الموقف الذي كان يواجهه لأبي هرة الأسدي حين قال له: ان بني أمية اخذوا مالي فصبرت وشتموا عرضي فصبرت وطلبوا دمي فهربت(7).
            من كل ذلك يتبين أن الإمام لم يلجأ إلى خيار العنف والقتال إلا بعد أن ألجأه إليه يزيد بن معاوية  وفرضه عليه فرضا. فحينها أطلق كلمته (ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السِلَّة والذِلَّة وهيهات منّا الذلَّة...). واختار أن يواجههم مواجهة الواثق من حق قضيته ..مواجهة البطل الشجاع الذي لا يعرف الخوف إلى قلبه مسربا.
         وقد رأينا أن الإمام قضى زمناً ليس بالقليل كان فيه ثائراً في أسلوب داعية في خط التغيير. من هنا ينبغي على كل من يلتزم بالإمام الحسين(عليه السلام) رائداً له في مواجهة الظلم والانحراف أن لا يكون خياره الأول العنف بل يبقى هذا الخيار هو أخر الخيارات المطروحة يلجأ إليه بعد أن يستنفد كل الخيارات السلمية الأخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كشف الغمة 2/31.
(2) حياة الإمام الحسين للقرشي 1/126.
(3) مقتل الحسين للمقرم ص 165.
(4) ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر: ص308، تاريخ الطبري:ج4 ص289.
(5) بحار الأنوار: ج44 ص364، اللهوف: ص82، لواعج الأشجان: 72
(6) ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر ص 309، البداية والنهاية:ج8 ص183، إرشاد المفيد:ج2 ص76، إعلام الورى باعلام الهدى:ج1 ص448.
(7) مقتل الحسين للمقرم: 170 عن الخصائص الحسينية للششتري، بحار الانوار:ج44 ص368، لواعج الاشجان:84، الفتوح: ج5 ص79، اللهوف: 92.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.