هو: أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبريّ العالم المشهور، والعلامة المجتهد، والإمام الفقيه، والمفسّر المحقق، والمؤرخ الثّبت، عبر عنه الخطيب البغدادي بكلمات جمع فيه كل فضله وعلمه ما نصه:
(وكان أحد أئمة العلماء: يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله. وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات، بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله، وكتاب سماه تهذيب الآثار لم أر سواه في معناه إلا أنه لم يتمه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء، وتفرد بمسائل حفظت عنه)(1).
تمتد حياة الطبري العلمية لأكثر من خمسين عاما لتشكل أنموذجاً فريداً شهدته الحياة الفكرية في بغداد في ظل الإرهاصات والتقلبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، هذه السنوات الخصبة في حياة الطبري كانت بحق تمثل صفحة مهمة في حياة وسيرة علمائنا المتقدمين الذين أسهموا بصورة مباشرة أو غير مباشرة في رفد الحياة الفكرية بمختلف صنوف المعرفة.
استقر الطبري في آخر حياته في بغداد(2)، وكانت هذه المرحلة من أهم مراحل حياته العلمية و مصدر خصب وعطاء على الرغم مما عاناه من اضطهاد فكري وعقيدي، لكن هذا لم يمنعه من نشر كتبه، وتصنيف ما جمعه من المعلومات في رحلاته ويقرر مذهبه الذي انتهى إليه، وفكره الذي وصل إليه بعد لقاء الشيوخ وتمحيص الأقوال وتحقيق الآثار والأحاديث للخلوص بعد ذلك إلى مذهبه الجريري المستقل ببغداد مما أدى إلى أن يواجه مشكلة عظيمة.
كانت المدرسة الحنبلية المدرسة المهيمنة في بغداد، نتيجة ما لاقته من دعم من قبل الخلفاء العباسيين، هذه الهيمنة دعتها إلى فرض آرائها ولو بالقوة على المتنافسين من قبل المذاهب الأخرى، بل أخذ مريدوها ضرب المخالفين لهم وتكفيرهم سواء كان فكريا أم مذهبيا.
واستمرت حالة الاحتقان الطائفي والتسلط من قبل الحنابلة في بغداد حتى تولي الراضي بالله الخلافة ـ أي بعد وفاة الطبري، وقد شكى اليه كثير من أتباع المذاهب الأخرى مما لاقوه من اضطهاد فكري وعقيدي على أيدي الحنابلة، لذا كان لابد على الخليفة اتخاذ بعض الإجراءات وإيقاف هذه التجاوزات، وهنا تدخل بنفسه عندما أصدر بيانا يحمل توقيعه بنفسه وجاء فيه:
(ينكر الخليفة الراضي على الحنابلة فعلهم ويوبخهم باعتقاد التشبيه وغيره فمنه تارة أنكم تزعمون أن صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين وهيئتكم الرذيلة على هيئته وتذكرون الكف والأصابع والرجلين والنعلين والشعر والقطط والصعود إلى السماء والنزول إلى الدنيا، ثم طعنكم على خيار الأئمة ونسبتكم شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الكفر والضلال وإنكاركم زيارة قبور الأئمة وتشنيعكم على زوارها بالابتداع ثم تجتمعون على زيارة قبر رجل من العوام ليس بذي شرف ولا نسب ولا سبب من رسول الله وتأمرون بزيارته ـ يقصد الإمام أحمد ـ وأمير المؤمنين يقسم بالله قسماً عظيماً يلزمه الوفاء به لئن لم تنتهوا عن مذموم مذهبكم ومعوج طريقكم ليوسعنكم ضرباً وتشريداً وقتلاً وتبديداً وليستعملن السيف في رقابكم والنار في منازلكم ومحالكم)(3).
ولم يقف الأمر عند هذا فحسب بل أضطر إلى منع تجمعات الحنابلة، خشية شغبهم بالطرقات والمساجد، وقد أسهمت هذه الإجراءات الصارمة في ردع هؤلاء والعمل على تحجيمهم داخل المجتمع البغدادي الذي ضاق بهم ذرعاً.
وقد كان للحنابلة مع الإمام محمد بن جرير الطبري مواجهات نتجت فيما ما يُعرف بـ(محنة الطبري)، كان لزاماً على إمام مجتهد مثله، أن يصطدم بهؤلاء القوم، الذين أعماهم التعصب المذهبي والذين كانوا لا يحصون كثرة في بغداد كما ذكر ذلك ابن الأثير في كتابه الكامل فشغبوا عليه وقالوا فيه ما أرادوا ووقعوا فيه(4).
وقد اتهم الطبري بعدة اتهامات، وكان من بينها اتهامه بالتشيع ويمكن حصر هذه الأسباب بما يأتي:
1ـ تصنيفه في فضائل الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
2ـ إثباته الأسانيد والروايات لحديث غدير خم.
3ـ مناظرته مع ابن داود الظاهري الذي نتج عنها أن صــنف ابن داود الظاهري كتاباً في الــرد على الطــبري و رمـاه بالعـــــــظائم والرفض , كما ذكر ذلك عوام الحنابلة في بغداد.
وسنفصل بعض الشيء في محنة الإمام الطبري، لأنهما يوضّحان آراء الطبري، وشجاعته في دفاعه عن الحق، وإيمانه بالفكر الأصيل في العقيدة والمذهب. وهي محنتان:
أولهما: كتابه (اختلاف الفقهاء).
وثانيهما: كتابه (أحاديث غديرخمّ ).
القراءة المتفحصة لحياة الطبري العلمية يمكن من خلالها ان نستقرء منها عدة أمور وادوار مهمة في حياته، نستكشف منها أحوال هذه الشخصية والمزايا والصفات التي تمتع بها وفاق على علماء عصره، ويكفيه ماألفه في مختلف صنوف المعرفة إذ لم تنحصر أفكاره وآراؤه وتصانيفه في حقل علمي واحد بل توزعت اتجاهاته، فتجده محدثا، ومفسرا، ومؤرخا، وفقيها، وو…..
وهذا ان دل فهو يدل على سعة معارفه وكثرة اطلاعه، هذا الكم الوافر من هذه العلوم التي تمتع بها انعكس انعكاسا تاما على آراؤه فكان له الجرأة الكبيرة في دحض آراء المتعصبين من بعض العلماء الذين يحاولون طمس الحقائق بسبب الخلافات المذهبية والعقيدية، والتي لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة، فلا غرابة بعد هذا كله إن رأينا أن هذين الكتابين كانا مصدر محنتين، وأسهما إلى حد كبير إلى بذر العداوة بينه وبين بعض المتعصبين، وخاصة أتباع المذهب الحنبلي، الذين حولوا هذا الاختلاف الفكري الى حرب شعواء ضده نال مانال منها الطبري في حياته وبعد مماته.
المحنة الأولى
إن الطبري كان قد وصل بعد التمحيص والبحث إلى أن الإمام أحمد بن حنبل كان حافظاً محدثاً ولم يكن فقيهاً ولذلك لما صنف الإمام الطبري كتابه (اختلاف الفقهاء)، إذ لم يذكر فيه الإمام أحمد بن حنبل، وهذا رأيه الذي وصل إليه وكان يؤيد ذلك أن الإمام أحمد لم يصنف كتاباً واحداً في الفقه إنما كان همه الحديث،
وقد سأل الحنابلة الطبري عن سبب ذلك، قال:( لم يكن ابن حنبل فقيهاً، وإنما كان محدثاً)(5)، وهذا متعارف عليه أن الإمام أحمد بن حنبل لم يُصنَّف في الفقه البتة، ولم يُقْعِد لمذهبه قواعد، وإنما غاية همِّه كان مُنصبَّاً على الحديث فقط، ويمكن أن نرى ذلك واضحا من مصنفاته، وما ذكره أصحاب كتب التراجم عند التعرض لسيرة حياته، والطبري لم يكن عدوا لأحمد إنما أرخ لواقع قد اطلع عليه، فأحمد كان راوياً للحديث، وكان إذا سئل يجيب بما يروي من أحاديث الرسول أو أقوال الصحابة والتابعين، ولم يشتهر أمره كفقيه.
ولم يكن له أصحاب يدونون أقواله ويأخذون عنه مبانيه الفقهية وطرقه في الاستنباط، كما فعل غيره من أئمة الفقه. لقد كان اعتراض الطبري وجيهاً، فلم يجد معه الحنابلة جوابا سوى إرهابه والشغب عليه، حتى تدخلت الشرطة. لذلك نجد أن ابن خزيمة وهو أحد أئمة الحديث يقول عنه: ما أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة(6).
فكان لهذا الرأي الجريء والصريح انعكاساً سلبياً على الطبري، إذ عمد أتباع المذهب الحنبلي إلى النقمة عليه ووصل الأمر بهم، إلى أن حاصروه في بيته، ومنعوه من الخروج، وسدّوا باب بيته بالحجارة، ولم يُخلِّصه من ذلك الحصار غير صاحب الشرطة، ومئات من أعوانه.