Take a fresh look at your lifestyle.

الاتجاه اللغوي والقرآني في تفسير الحروف المقطعة

0 950

    البحثُ في الحروف المقطعة ليس ترفاً فكريًا، وإنما هو البحث عن مقاصد آيات الله سبحانه التي دعانا لتدبرها، وقد كُتبت في الحروف المقطعة وخصائصها والأقوال المفسرة لها مجموعة من الدراسات والبحوث، ولم يختلف المفسرون في آية من آيات القرآن مثلما اختلفوا في تفسير الحروف المقطعة لعدم وجود نص قطعي عن المعصوم(عليه السلام)، لذلك تعددت الأقوال فيها حتى وصلت إلى أكثر من عشرين، بل إنَّ بعضهم أعرض عن تفسيرها وعدّها من المتشابه الذي أختص الله بعلمه ويجب التوقف فيه، وفي ذلك مخالفة صريحة لآيات القرآن الكريم الداعية إلى التدبر والتفكر، الأمر الذي جعل هذا القول محل رفض من قبل أكثر المفسرين.
ولتفسير الحروف المقطعة اتجاهات تفسيرية عديدة منها الاتجاه الروائي، ومنها الاتجاه الاجتهادي، ومنها اللغوي، ومنها القرآني، وتحت كل واحد منها أقوال عديدة، اقتصر البحث على أتجاهين هما: الاتجاه اللغوي، والاتجاه القرآني، اختصاراً بما يناسب المقام.

الاتجاه اللغوي:

اعتمد هذا الاتجاه على المرجعيات اللغوية، وافترض أن لكل حرف مرجعية لغوية تنبئ عن معنى معين لتلك الحروف، وجاء تحته قولان هما:

أولاً: المرجعية اللغوية بلغة العرب:

واستدل أصحاب هذا الاتجاه على قولهم إن القرآن نزل على قريش وهم أهل فصاحة وبلاغة ولو لم يكن لتلك الحروف مرجعية لغوية لاحتجوا بأنه كلام ليس له معنى ولم يسلموا بفصاحته وبلاغته واعتبروا أن تلك الحروف لها مداليل لغوية، إذ قالوا: (ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ) أشار بهذه الحروف الثلاثة إلى كل الوجود من حيث هو كل لأنّ (أ) إشارة إلى ذات الذي هو أول الوجود على ما مرّ. و(ل) إلى العقل الفعّال المسمى جبريل وهو أوسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى، و(م) إلى محمد الذي هو آخر الوجود تتم به دائرته وتتصل بها)(1).

ويمكن أن يرد عليه بما يأتي:

1) إن هذه الأقوال غير قائمة على دليل.
2) إن هذه الحروف يمكن أن تكون لها معاني إجمالية، والعربي آنذاك يعرفها ولا يعرف تفصيلاتها وبذلك لا يكون في القرآن ما لا يمكن فهمه وليس بالضرورة أن تكون لها مرجعيه لغوية حتى يكون معجزًا.
3) لو رجعنا إلى معاجم اللغة لما وجدنا لهذه الحروف معنى، فهل يُعقل أن تترك المعاجم الألفاظ العربية في القرآن الكريم دون ذكر لمرجعيتها اللغوية، وفي مقابل ذلك تدون من الألفاظ حتى المعرّب والدخيل.


ثانياً: إن لها مرجعية لغوية بغير لغة العرب:

يرى البعض أن هذه الحروف من الألفاظ غير العربية التي وردت في القرآن الكريم, فإن أصحاب هذا القول يرون أن في القرآن الكريم ألفاظ غير عربية (استبرق) بلغة العجم و (أكواب) بلغة النبط و(أباريق) بالفارسية و(أسفارا وعدن) بالسريانية و(الربانيون) باللغة العبرانية(2) وقالوا إن الحروف المقطعة نزلت باللسان السرياني وأن لكل حرف منها معنى باللغة السريانية، فقالوا: (لو علم الناس معنى (ص) والسرّ الذي يشير إليه ما اجترأ أحد على مخالفة أمر ربه أبدًا)(3)، وقالوا أيضًا: (إن اللغة السريانية هي لغة الأرواح, وبها يخاطب الأولياء من أهل الديون فيما بينهم لاختصارها وحملها المعاني الكثيرة التي لا يمكن أداؤها بمثل ألفاظها في لغة أخرى)(4)،
وقالوا أيضًا: (إن اللغات كلها مطنبة بالنسبة للسريانية لأن الكلام في كل لغة غير السريانية يتركب من الكلمات لا من الحروف الهجائية وفي السريانية يتركب من الحروف الهجائية, فكل حرف هجائي في السريانية يدل على معنى مفيد)(5).
ويرد عليه بما يـأتي:
1) لو كان القرآن مالا يفهمه العرب لكان تحدي القرآن لهم بغير المقدور والتكليف بغير المقدور قبيح عقلًا وحاشا لله أن يكلف أحدًا ما لا يستطيع، وكون بعض القرآن بالسريانية فهو تحديهم بغير المقدور؛ لأن القرآن يخاطبهم بغير لغتهم, ولهذا المعنى أشار القرآن بقوله: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ).
2) لا يوجد في القرآن الكريم لفظة واحدة غير عربية أو غير معربه فكل ألفاظه إما عربية أصلاً أو معربة قبل نزول القرآن الكريم ونزل بها القرآن بعد تعربها, فإن اللغات وبسبب الاحتكاك الحضاري تقترض بعض الألفاظ من اللغات الأخرى وتعربها لتكون جزءًا من منظومتها اللغوية (فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية، لكن استعملتها العرب وعرّبتها فهي عربية بهذا الوجه)(6).
فالقرآن وإن كان فيه ألفاظ غير عربية لكنها معربة قبل نزول القرآن الكريم واختار هذا الرأي أكثر المتأخرين؛ لأنه يحفظ للقرآن عربيته وللألفاظ أصولها.

الاتجاه القرآني:

ويرجع إلى القرآن في فهم معنى الحروف المقطعة؛ لأن الحروف المقطعة من المتشابه الذي لابدّ من ارجاعه إلى المحكمات ليكون بيِّناً وتحته أقوال منها :
أولاً: الارتباط بين الحروف المقطعة ومضامين السورة ويذهب إلى هذا الرأي السيد الطباطبائي وبعض الباحثين المعاصرين, فأصحاب هذا القول يرون أن هناك ارتباط وثيق بين الحروف المقطعة ومضامين السور المفتتحة بالحروف نفسها, يقول السيد الطباطبائي: (ثم إنك إن تدبرت بعض التدبر في هذه السور التي تشترك في الحروف المفتتح بها مثل الميمات والراءات والطواسين والحواميم، وجدت في السور المشتركة في الحروف من تشابه المضامين وتناسب السياقات ما ليس بينها وبين غيرها من السور. ويؤكد ذلك ما في مفتتح أغلبها من تقارب الألفاظ كما في مفتتح الحواميم من قوله: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ) أو ما هو في معناه، وما في مفتتح الراءات من قوله: (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ) أو ما هو في معناه، ونظير ذلك واقع في مفتتح الطواسين، وما في مفتتح الميمات من نفي الريب عن الكتاب أو ما هو في معناه. ويمكن أن يحدس من ذلك أن بين هذه الحروف المقطعة وبين مضامين السور المفتتحة بها ارتباطًا خاصًا، ويؤيد ذلك ما نجد أن سورة الأعراف المصدرة بـ (المص) في مضمونها كأنها جامعة بين مضامين الميمات وص، وكذا سورة الرعد المصدرة بـ (المر) في مضمونها كأنها جامعة بين مضامين الميمات والراءات…)(7)،
ثم يعقب على ما يقول في تفسير تلك الحروف قائلاً: (ويستفاد من ذلك أن هذه الحروف رموز بين الله سبحانه وبين رسوله(صلى الله عليه وآله) خفية عنا لا سبيل لأفهامنا العادية إليها إلا بمقدار أن نستشعر أن بينها وبين المضامين المودعة في السور ارتباطًا خاصًا…)(8)، ويؤيد ما ذكره السيد الطباطبائي أحد الباحثين المعاصرين فقد استعان بالعقل الالكتروني ولمدة ثلاث سنوات ليتوصل إلى حقائق تثبت وجود علاقة بين الحروف المقطعة وبين حروف السورة التي تصدرت بالحروف المقطعة ومن ذلك ما وجده في الحرف (ق) فإن أكثر نسبة لهذا الحرف في سورة (ق) وإن نسبة حرف (ص) في سورة (ص) أكثر من غيرها… وهكذا(9).
ثانياً: إنها جاءت للدلالة على التحدي بدلالة ما بعدها غالبًا ذكرًا للقرآن الكريم أو ما يتعلق به مثلًا: (ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) (البقرة: 1-2), وقوله تعالى: (الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ) (يونس: 1، يوسف: 1، الحجر: 1) ومفاد هذا التحدي أن القرآن الكريم مركب من هذه الحروف التي عجزتم أن تأتوا بسورة من مثله، وذهب إلى هذا الرأي الكثير من أهل اللغة والتفسير قديماً وحديثاً فمن اللغويين الخليل وأبو علي الفارسي وقطرب والمبرد والفراء والزجاج(10)، ومن المفسرين الطبرسي(11)، والطوسي(12)، والزمخشري(13)، والرازي(14)، والراغب الأصفهاني(15)، وغيرهم، وقال القرطبي (هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم، ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم )(16)>

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تفسير القرآن: ابن عربي، في تفسير الآية (ألم* ذلك الكتاب).
2- يُنظر: الإتقان: السيوطي: 1/ 273 وما بعدها.
3- الأبريز: أحمد بن المبارك المالكي: 191.
4- المصدر نفسه: 182.
5- المصدر نفسه: 183.
6- المحرر الوجيز: 1/ 51.
7- الميزان: 18/ 9.
8- المصدر نفسه: 18/ 9.
9- يُنظر: تفسير الأمثل: 2/ 233- 235.
10 – يُنظر: تفسير القرطبي: 1/ 55، ووجوه الإعجاز والتحدي: فهد الرومي: 25.
11 – يُنظر: مجمع البيان: 1/ 77.
12 – يُنظر: التبيان: 1/ 48.
13- يُنظر: الكشاف: 1/ 95- 97.
14 – يُنظر: تفسير الرازي: 2/ 8.
15- تفسير الراغب: 1/ 403.
16- تفسير القرطبي: 1/ 155.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.