أخذت مسألة القول بخلق القرآن أو أزليته في الفكر الإسلامي أبعاداً لم تقتصر على البُعد العقائدي فحسب، بل تعدت إلى البُعد السياسي والتطرف الذي أدى إلى الإقصاء العقدي والجسدي!
ولعل أول من أثار هذه المسألة هم فِرقة المعتزلة، وإن كان من المعلوم أن لا خلاف بين المعتزلة وخصومهم من الفِرق الإسلامية على أن الله تعالى متكلم وأن له كلام وأن القرآن كلامه، لكن الخلاف حول معنى الكلام وحقيقة المتكلم وهل القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟
أجمع المعتزلة على أن القرآن كلام الله؛ أي خلقه الله، فهو مخلوق لله تعالى، يقول القاضي عبد الجبار: (ولا خلاف بين جميع أهل العدل في أن القرآن مخلوق محدث مفعول؛ لم يكن ثم كان، وأنه أحدثه بحسب مصالح العباد، وهو قادر على أمثاله، وأنه يوصف بأنه مخبر به وقائل وآمر وناه من حيث فَعله، وكلهم يقول: إنه عز وجل متكلم به)(1).
وقد أوردوا أدلة كثيرة على حدوث كلام الله، نورد نماذج منها فيما يأتي:
1- أنه لو كان الكلام أزلياً فلا بد من أن يصادف مأموراً مخاطباً في الأزل، والكلام من غير مخاطب سفه يتعالى الله عن ذلك.
2- اختلاف خطاب الله تعالى للأنبياء (عليهم السلام)،
فخطابه لموسى(عليه السلام) غير خطابه للنبي
محمد (صلى الله عليه وآله)، ومنهاجه مع الرسولين مختلف، ويستحيل أن يكون معنى واحدًا هو في نفسه كلامه مع شخص على معان ومناهج، وكلامه مع شخص آخر على معان ومناهج أخر ثم يكون الكلامان شيئًا واحدًا ومعنى واحدًا(2)، وهنا ينفي المعتزلة أن يكون الكلام صفة لأنه لو كان صفة لكان كلامه واحدًا، ولاستحالة مع وحدته أن يحوي حقائق مختلفة، لذا لا بد أن يكون فعلًا حادثًا.
3- تحدي الله سبحانه للعرب بالقرآن يدل على حدوثه، لأن التحدي بالقديم مستحيل.
4- القرآن المجيد غير الله سبحانه لأنه يختص بصفات الحدوث التي تستحيل على الله تعالى، فهو متجزئ متبعض، له ثلث وربع، مفصل ومحكم.
5- لو كان قديمًا لوجب كونه مثل الله تعالى، لاشتراكه في صفة القدم الذاتية، وما خالف الله في بعض صفاته الذاتية يجب استحالة كونه قديمًا(3).
6- ربط المعتزلة بين مشكلة خلق القرآن ومشكلة اللغة، وهل هي توقيفية أي أن الله هو الواضع لها، أم اتفاقية أي أن العقلاء من الناس هم الذين وضعوها، والمعتزلة يقولون بأن اللغة اتفاقية، وكون اللغة اتفاقية يقتضي ذلك حدوث كلام الله تعالى، لأنه لابد أن تكون لغة متقدمة يتفق على وضعها العقلاء، ثم يوجه الله تعالى كلامه بها للمخاطبين المكلفين، لأن فائدة الكلام لا ترجع إليه تعالى، بل ترجع إلى غيره من المكلفين، وهذا يعني أنه لابد من تقدم مواضعه يرتب كلامه تعالى عليها، ليصح أن يستدل على مراده بكلامه، وتتم الفائدة للمكلف(4).
وهنا يرى الدكتور علي عبد الفتاح المغربي في هذا المقام أن للمعتزلة السبق في إبداء هكذا رأي، فيقول: (ويبدو في هذا مواطن الابتكار لدى المعتزلة وتناولهم لمشكلات تصلح للبحث في فلسفة اللغة)(5).
7- الاستدلال بآيات من القرآن الكريم على حدوث كلامه تعالى وأن القرآن مخلوق، أن الله تعالى ذكر في كتابه بعد أن بين أن الذكر هو القرآن ما يدل على حدوثه بقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، وقوله سبحانه: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ) (الأنبياء: 50)، وبين أن الذكر محدث بقوله: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) (الأنبياء: 2)، وقوله سبحانه: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)(النساء: 164)(6)، يدل على حدوث كلامه، لأن (كَلَّمَ) يقتضي أنه أحدث كلاماً ما كلّم به غيره، وقوله تعالى: (تَكْلِيمًا) يقتضي أن ما كلّم به غيره حادث، لأن المصادر لا تكون إلا حادثة(7).
8- الدليل من السنة ما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله) من قوله: (كان الله ولا شيء ثم خلق الذكر)، وهذا يدل على حدوث القرآن(8).
اتضح مما تقدم أن المعتزلة تقول بخلق القرآن الكريم، ويعدونه فعلًا أحدثه الله لا في محل، وأنه حادث، واستدلوا بأدلة لذلك، وأما الأشاعرة ومن مالأهم يذهبون إلى (أن الله متكلم وله كلام، والدليل على ذلك هو إرساله للرسل، وأيضاً تكليفه للعباد بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وهذا يدل على أنه آمر ناه وأن له كلام، وعدم الكلام معنى الخرس والسكوت وهي نقائض يتنزه عنها الله تعالى)(9).
وبهذا قد أثبت الأشاعرة ما أثبته المعتزلة من الكلام اللفظي على اعتقاد أنه حادث ثم يثبتون معه كلامًا نفسيًا قديمًا، وهذا ما أكده الأيجي بقوله: (والذي قالته المعتزلة لا ننكره نحن بل نقول به، ونسميه كلاماً لفظياً، ونعترف بحدوثه وعدم قيامه بذاته تعالى، لكنا نثبت أمرًا وراء ذلك، وهو المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ ونقول هو الكلام حقيقة، وهو قديم قائم بذاته تعالى)(10).
وإن كان الكلام عندهم هو ما قام بذات الله تعالى، وهو كلام له حقيقة وليس بحرف ولا صوت، وأما ما بين دفتي المصحف فهو عبارة عن كلام الله تعالى، وليس حقيقة كلام الله، وهو المعروف عندهم بالكلام النفسي(11).
ومهما يكن من أمر فإن المتتبع لرأي الأشاعرة يلحظ أنهم يعدونه صفة أزلية قائمة بذاته تعالى، وأن كلامه ليس من جنس كلامنا المكون من أصوات وحروف، وإن لم يصرحوا بأنه قديم، إلا أن الماتريدي (تخطى الحجزات فقرر أن كلام الله تعالى هو المعنى القائم بذاته، سبحانه وتعالى، وهو بهذا صفة من صفاته متصلة بذاته، قديمة بقدم الذات العلية، غير مؤلف من حروف ولا كلمات، لأن الحروف والكلمات محدثة لا تقوم بالقديم الواجب الوجود، لأن الحادث عرض، والعرض لا يقوم بذاته سبحانه وتعالى)(12).
رأي الشيعة الإمامية: أن الباحث المتتبع لمسألة خلق القرآن يجدها لا تحمل طابعاً علميّاً ودينياً بقدر ما تحمل طابعاً ودوافع سياسية صِرفة، أهمها تصفية حسابات الخليفة العباسي المأمون مع أهل السنة لأسباب عديدة لا يمكن ذكرها في المقام، على أن أهل السنة قد استفادوا من الإصرار على القول بعدم خلق القرآن اعتبارات سياسية أخرى، إذ كان المتوكل العباسي الذي رفض سياسة المأمون قال بعدم خلق القرآن وقرّب الذين رفضوا الخضوع لقول المأمون السياسي وأسبغ عليهم طابع الإصرار على عدم التساوم في دين الله… إلى آخرها من الأمور التي استفاد بها بعضهم سياسيًا كمعارضين ومؤيدين لسياسات هوجاء غير صحيحة، فكانت هناك تصريحات بتكفير مَن يقول بخلق القرآن الكريم(13)، والأمر لا يستوجب هكذا فتوى تمزق كيان الأمة وتشتت شملها.
لذا فقد أريقت دماء لقضية ليس لها أثرها العلمي والديني بحال، فخلق القرآن وعدم خلقه لا يعني إلّا لعبة سياسية مقيتة ليس لها آثارها على المجتمع الإسلامي، وبذلك فإن أهل البيت (عليهم السلام) يعرفون دوافع هذه القضية فأمروا شيعتهم بتجنب هذه المزالق السياسية صونًا لحياتهم الشريفة، وبالمقابل فإن أهل البيت (عليهم السلام) رفضوا الدخول في هذه اللعبة السياسية التي ترجع عوائدها إلى النظام لا غير.
لذا فإن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) تدارك هذه القضية حينما سُئل عن القرآن أهو مخلوق أم لا؟ فقال: (القرآن كلام الله محدث غير مخلوق وغير أزلي مع الله تعالى ذكره وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، كان الله عز وجل ولا شيء غير الله معروف ولا مجهول، وكان عز وجل ولا متكلم ولا مريد ولا متحرك ولا فاعل عز وجل ربنا فجميع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه عز وجل ربنا، والقرآن كلام الله غير مخلوق، فيه خبر من كان قبلكم وخبر ما يكون بعدكم، أنزل من عند الله على محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله))(14).
وهكذا نلحظ الإمام يبتعد عن التسمية بلفظ المخلوق إلى القول بأنه محدث لما فيه من الإيهام بكونه منحولًا، وهذا يستفاد أيضًا من كلام الشيخ الصدوق (ت381هـ) وهو في معرض تعليقه على كلام الإمام (عليه السلام)،
فيقول موضحًا: (معنى قوله (عليه السلام) (غير مخلوق) غير مكذوب، ولا يعني به أنه غير محدث، لأنه قد قال: (محدث غير مخلوق وغير أزلي مع الله تعالى ذكره) وإنما منعنا من إطلاق المخلوق عليه لأن المخلوق في اللغة قد يكون مكذوبًا ويقال (كلام مخلوق) أي مكذوب، قال الله تبارك وتعالى: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) (العنكبوت: 17) أي كذباً)(15).
ويرى الشيخ المجلسي بهذا أن في قول الإمام (عليه السلام) تقية، فيقول: (الظاهر أن فيه نوعًا من التقية أو الاتقاء لامتناع المخالفين من إطلاق هذا اللفظ على القرآن أشد الامتناع)(16).
وبذلك تجد أن الإمام(عليه السلام) قد اجتنب الدخول في هذه اللعبة السياسية التي أريقت بسببها دماء دونما طائل.
نعم، إن الأئمة (عليهم السلام) أكدوا على قضايا حيوية مثل البداء والأمر بين الأمرين وغيرهما من القضايا الإسلامية الحيوية، في حين تجنّب الأئمة (عليهم السلام) إقحام أنفسهم وشيعتهم بقضايا لم تجد لها أي تأثير على المستويين العلمي والعقائدي كما قلنا.
وبكلمة فإن الشيعة الإمامية يذهبون بالقول إن القرآن مخلوق، ويرون أن من وصف الكلام بالقدم (فقد أثبت مع الله تعالى قديماً آخر، وذلك خلاف ما أجمعت عليه الأُمّة في عصر الصحابة والتابعين، ومن بعدهم إلى أيام الأشعري)(17).
ومن لطيف ما قاله ابن عاشور في هذا المورد هو: (أنه كلام الله أوجده الله ليدلّ على مراده من الناس وأبلغه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله)
بواسطة المَلَكْ، فلم يكن من تأليف مخلوق ولكن الله أوجده بقدرته بدون صنع أحد، بخلاف الحديث القدسي)(18).
وعلى كل حال نعتقد أن مسألة خلق القرآن أو أزليته ذات صلة بالأحداث السياسية والنحلية والطائفية والعنصرية التي حدثت في القرون الإسلامية الأولى، وكان لتسرب الأساليب الكلامية والكتب الفلسفية الأجنبية أثر قوي فيها، وأنها لا تتصل بآثار نبوية موثقة ثابتة في ذاتها، فضلًا عما هناك من آثار عن المعصوم تنهى عن التورط في بحوث قد تنتهي إلى الخوض في ماهية الله والقرآن ومحتوياته وإنه يكفي للمسلم أن يظل فيها في حدود التقريرات القرآنية من أن القرآن كلام الله ومن عند الله، ومن أن الله ليس كمثله شيء، وإن ما عدا ذلك متصل بسرّ الوجود وواجب الوجود وسرّ الوحي والنبوة مما لا يستطاع إدراكه بالعقل البشري، وإنه لا طائل من الجدل والخلاف فيه ولا ضرورة له، وإنما الذي يعنينا هنا هو تقرير أن هذه المسألة الخلافية قد تكون أدت بين حين وآخر وبقصد وبغير قصد إلى إغفال الآيات القرآنية وصلتها بأحداث سيرة المعصوم، وعدَّ هذه الأحداث والظروف شأنًا عابرًا .
وأن هذا قد أدى إلى ما قيل من أقوال وضمّن من تخمينات حول أسرار القرآن وحروفه ورموزه ومغيباته وماهيات ما جاء فيه من مشاهد الكون ونواميس الخلق وقصص التاريخ والأمثال ومطوياتها مما لا يتسق مع حقائق الأمور وأهداف القرآن الواضحة في الهداية والإرشاد والدعوة إلى الخير والحق وأسباب السعادة، ومما فيه تشويش على الأهداف وعلى الناظر في القرآن والراغب في تفهمه وتفهم سيرة المعصوم (النبي والإمام) والأسس والمبادئ القرآنية، وما كان من سير التشريع القرآني>