طوال الأيام التي مرت كنت أمني النفس بأن ما شاع من الأخبار إن هو إلا كابوس يزول يوما وإني سأصحو صبيحة يوم ما وأجد أن ما كان لم يكن….. فأستأنف رغد العيش الذي لم أشعر به يوماً رغدا إلا بعد أن حدث الذي حدث….وعندما تأكد الأمر كانت مرارة تصديق ذلك لا تطاق.. لم أحتمل رؤية دموع الفجيعة ولا سماع عويل النساء الثكلى لذا هربت.. انزويت في ركن بعيد في المنزل ولم يفتقدني أحد لساعات خلت.
ومرت ساعات ثقيلة على كاهلي وتفكيري شعرت أن رئتي امتلأتا بالدموع حتى كادت تخنقني وضاق نفسي، أذهلتني… الصدمة وبقيت فترة غير قصيرة أحدق في سقف الغرفة الذي بدا كئيباً باكياً.
أخيراً تحررت دموعي استطعت البكاء سمعت صوت نحيبي وشعرت بجسدي يهتز من شدة النشيج…. كنا نعيش الانتظار بأقسى صوره ونتشبث بأي بارقة أمل ونحلم بكل جوارحنا أن يكون حديث الآخرين وما تناقلوه ضرباً من الوهم الخيال……. كانت الحقائق واضحة…
ولكن ككل المفجوعين لم نشأ التصديق… واخترنا الحلم على الواقع المرير…. كان لنا نصيب من الشهداء من بينهم عمي وأخي… أخي… معيلنا الوحيد…
أنا وأمي وزوجه وابنه…. وبما أننا نعيش متجاورين مع بقية الأقارب فقد امتلأ بيتنا بالنساء وضج بعويلهن ولم أحتمل ذلك فخلوت مع أفكاري رحت أتصور الفاجعة؛ وما تخلفه من أيتام وأرامل وألم وقسوة وضياع…….. ولم أستطع تخيل أي طريقة غدروه بها… كان الأمر صعبًا.. وأقسى من أن أتصوره….
فبكيت لمجرد التفكير… ولكن لماذا غدروهم؟… والأولى أن يدافع عنهم لا أن ينكل بهم، يا لعمق الجرح وشدة نزفه….. ألفا شهيد !؟؟
كيف احتملت الأرض دماءهم….! إنه ﻷمر موجع…!…ليس لأن كل الشهداء شباب في ربيع العمر ومن بعدهم شاب الوطن وشاخ فحسب. بل يعني أيضاً أكثر من ألف أرملة وقرابة ثلاثة الآف يتيم….. “إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون أيخون إنسان بلاده؟ إن خان معنى أن يكون….. فكيف يمكن أن يكون” أيخون إنسان بلاده؟ أيبيع إنسان بلاده؟ والى أي وطن ينتمي بعده….! وتساءلت مع نفسي ألف مرَه – هل الخائن يحيا مثلنا أتراه يغفو ليلا” وينام رغدًا.. ويأكل ويشرب… أتراه يصلي ويتضرع إلى الله…. أتراه يعرف الله؟؟… وهل يبتسم ويرق قلبه لرؤية صبية يلعبون ويضحكون بل هل عنده قلب !؟ هل عنده أسرة….. زوجٌ وأطفال..عنده أطفال؟!! ويدرك معنى الأبوة. أيضمهم إلى صدره…. وتمتلئ رئتاه بعطر البراءة….أتراه يداعب أطفاله ويلاطفهم !!!؟.. ألا تلوح في ضميره صورة أيتام من تسبب بمقتلهم ودموعهم التي يهتز لها عرش الرحمن… هل يتابع ما حدث ويرى صور الفجيعة التي تؤرق من يراها ليالي طوالًا…. وتحرمه لذة العيش… فكيف لمن تسبب بذلك ألا يشعر بشيء؟…. هذا التفكير أذهلني لساعات كنت أتمنى لو أتخيل صورته هل يبدو عادياً كمثل الناس….ألا أجد في ملامحه صفات الوحوش وإذا كشر بدت له أنيابٌ بدل الأسنان.
آه يا سبايكر! لا أخال جرحك سيبرأ يوماً؛ وإن نهض العراق وأشرقت شمسه ستبقى تلك الندبة على قسمات وجهه وصمة عار في تاريخ الخونة.ويومًا للشهادة والفداء و نقشًا محفورًا في ذاكرة كل عراقي… وذكرى تتجدد في كل يوم وكل ساعة.
سبايكر… ستكون نشيدنا الوطني الذي يردده الصغار عندما يعانق العلم السماء.. وتكون أول حروف نعلمها للهجاء وفي كل كتاب قراءة يحضنه طفل سيكون هناك حكاية اسمها سبايكر (عن أب أيتم أطفاله… أو أم قدمت ولدها قربانًا للوطن..أو زوجًا ضحت بزهرة أيامها… و.. و… ألف حكاية وحكاية) في كل منهج يدرس يجب أن نضع سبايكر بين صفحاته لكي نحيا باقي أيامنا ‘ مدركين أن لكل لحظة ثمن باهض دفع مسبقاً….. نزرعها في قلوب الأطفال بذرة حتى لا تغدر أجيالنا الجديدة…وتعرف أي ثمن دفع للحياة… ولا تنسى دماء الشهداء.
نظرت إلى ابن أخي.. حدقت في براءته…. إنه صغير جداً لا يعرف معنى اليتم مازال يحبو بيننا ويدير بصره حائراً لا يعرف ما يجري كان قد أتحف والده بكلمة (بابا) أول مرة قبل رحلته الأخيرة إلى المعسكر وطوال غياب والده؛ تحايلنا عليه ليكررها دون جدوى وأحسبها الآن جفت على شفاهه الصغيرة فلا ينطقها أبداً… كان قد بدأ يخطو أولى خطواته رغم كل ما حوله… يقوم ويقع أكثر من مرة ولكن يحاول.. ويحاول..
سيسير قريبا…. جلت ببصري بالمنزل الكبير الذي بدا كئيباً…. أمي في زاوية تندب… زوج أخي…. نساء أخريات كثر ما أحسب دموعهن ستجف يومًا…. ولا دماء الشهداء كذلك.