Take a fresh look at your lifestyle.

شيخ الخطاطين في عصره الوزير ابن مقلة ودوره الإبداعي في تطوير الخط العربي

0 2٬336

         يتمتع الخط العربي بسحر وجمال وجاذبية ما جعله يخطف أبصار ناظريه منذ عهد بعيد حيث يستوقف الناظر ويثير فيه الدهشة والإعجاب، ولو تأملنا تلك النصوص المكتوبة على الحجر والبردي أو التي كتبت على الرق ومن ثم على الورق لرأينا إبداعها وهي تكشف عن مفاتن خطوطها وإيحاءاتها، حتى يكاد المشاهد لا يدري بأي جانب يعجب بجمال الخط ودقته، أم بحسن الزخارف ورونقها، أم بأصالة الكلمة ودلالتها، حتى أنها أصبحت كبطاقة تعريف ينظر من خلالها المتتبع مدى رقي وتقدم الحضارة العربية وخصوصاً في العصر الإسلامي، الذي امتاز فيه الخط بالجمع بين رصانة ودلالة المقروء مع إبداعية الفنان الخطاط فيتحقق بذلك إبداع الصورة والمعنى اللفظي.

         لذا سنلقي الضوء في هذه المقالة على جانب مشرق من حياة مبدع جعل موهبته فيما سطرته أنامله من فن غاية في الرقي من خلال رشاقة الخط وتناسق سطوره ومداته وحركاته.

        لقد أشرق فجر العصر العباسي بنبوغ فنان كان له الدور الكبير في إضفاء لمسات غاية في الإبداع والجودة والإتقان في تطوير الخط العربي، إنه صاحب الخط المليح الخطاط الوزير، أبو علي محمد بن علي بن الحسين بن عبد الله بن مقلة (272 – 328هـ.)(1).

        ولد الوزير أبو علي محمد بن مقلة في أسرة لها باع في حسن الخط وإجادته وتوارثه جيلًا بعد جيل، فأخذ الخط عن أبيه حيث كان خطاطاً مليح الخط، وقد ذكر ابن النديم(2) أنه رأى مصحفًا بخط علي بن مقلة، ومقلة لقب والد الوزير أبو علي محمد.

         وتعلم هذا الفن أيضاً من أستاذه الأحول المحرر والذي يعد صاحب بدايات التحول في الخط العربي من الخط الكوفي إلى خط النسخ وغيره من الخطوط، كما وتعلم الخط على يد إسحاق بن إبراهيم التميمي، معلم المقتدر وأولاده والذي يعد أكتب زمانه وله رسالة في الخط سماها (تحفة الوامق)(3).

         وأخذ علومه على يد كبار علماء عصره، وتتلمذ على يد ثعلب صاحب الفصيح وابن دريد صاحب الجمهرة. فقد أتقن اللغة نحوها وصرفها وأبدع في الأدب شعره ونثره حتى أنه بلغ مرتبة عالية في العلم والفن وامتاز بفضائل كثيرة فاق بها نظراءه من أهل عصره.

         وقد أشاد الصولي الذي يعتبر من أكثر المؤرخين المعاصرين لابن مقلة، وهو أيضا نديم الخليفة الراضي فقال: (ما رأيت وزيرًا منذ توفي القاسم بن عبيد الله أحسن حركة، ولا أظرف إشارة، ولا أملح خطاً، ولا أكثر حفظاً، ولا أسلط قلماً، ولا أقصد بلاغة، ولا آخذ بقلوب الخلفاء من محمد بن علي يعني ابن مقلة، قال: وله بعد هذا كله علم بالإعراب وحفظ اللغة)(4).
         لقد كان لابن مقلة دور كبير في تطوير الخط العربي فهو أول من هندس حروف الخط العربي ووضع لها قوانين وقواعد حيث وضع قواعد دقيقة في بدايات الحروف ونهاياتها ونسبة كل حرف وقياسه وأوضاعه وأبعاده بالنقط وضبطها ضبطا محكما فسمي خطه هذا بالخط المنسوب، بالإضافة إلى ذلك أجاد خطاً سمي بالدرج، وذكر القلقشندي، عن الوزير ابن مقلة وأخيه، نقلًا عن صاحب «إعانة المنشئ» قال: (وولَّدا طريقة اخترعاها، وكتب في زمانهما جماعة فلم يقاربوهما. وتفرد أبو عبد الله بالنسخ، والوزير أبو علي بالدّرج؛ وكان الكمال في ذلك للوزير؛ وهو الذي هندس الحروف وأجاد تحريرها، وعنه انتشر الخطُّ في مشارق الأرض ومغاربها)(5).

        بلغ أبو علي محمد بن مقلة في خطه شأناً عظيماً ودرجة عالية في نفوس الناس حتى وصفوه بأنه أجمل خطوط الدنيا وعنه انتشر، وإليه انتهت رئاسة الخط العربي في عصره وعلى طريقته سار الخطاطون من بعده.

        فقد ذكر القلقشندي: (ثم انتهت جودة الخط وتحريره على رأس الثلاثمائة إلى الوزير أبي عليّ محمد بن مقلة وأخيه أبي عبد الله)(6).

         وذكر ياقوت الحموي: (كان الوزير أوحد الدنيا في كتابة الرقاع والتوقيعات، لا ينازعه في ذلك منازع ولا يسمو إلى مساماته ذو فضل بارع)(7).

         وقال الثعالبي: (خط ابن مقلة يضرب مثلاً في الحسن، لأنه أحسن خطوط الدنيا، وما رأى الراؤون، بل ما روى الراوون مثله في ارتفاعه عن الوصف، وجريه مجرى السحر)(8).

        ويروي الثعالبي أن ابن مقلة: (كتب كتاب هدنة بين المسلمين والروم بخطه، وهو إلى اليوم عند الروم في كنيسة قسطنطينية يبرزونه في الأعياد ويعلقونه في أخص بيوت العبادات ويعجبون من فرط حسنه وكونه غاية في فنه)(9).

         ولاشك أن ابن مقلة الوزير كان له الإبداع في نقل الخط العربي وتطويره حيث ظل خط النسخ سائداً تكتب به المصاحف والوثائق واللوحات وغيرها، حتى انبرى الخطاط ابن مقلة إلى وضع قواعد خط النسخ وسماه (البديع) والذي استحسنه الناس لجماليته وسهولة كتابته لذا يعتبر المؤسس لقاعدتي الثلث والنسخ(10)، كما أنه وضع قواعد دقيقة للحروف وله وصف بديع في الأقلام وأنواعها وفي بري القلم وصناعة الأحبار(11).

         وذهب إدوارد روبرتسن إلى القول إن: (ابن مقلة قد اخترع طريقة جديدة للقياس بواسطة النقط، ونظرياً فإن النقطة تتكون من وضع رأس الريشة على الورق، وبتحريك الريشة إلى الأسفل مع الضغط لفتحها إلى أقصى حد حيث يرفع مباشرة وبسرعة وبهذا يمكن عمل مربع أو معين، وبجعل الريشة وحدة للقياس، فقد جعل ابن مقلة حرف الألف الكوفي مستقيما بعد إن كان منحنيًا من الرأس نحو اليمين كالصنارة، وقد اتخذه مرجعًا لقياساته، وخطا ابن مقلة خطوة أخرى حيث هذب الحروف، وأخذ الخط الكوفي كقاعدة وأخرج من هذه الحروف أشكالاً هندسية، وبذلك أمكنه قياس هذه الحروف ومن هذه القياسات استنبط نسبًا لكل حرف بالنسبة للألف، وفي حالة الحروف المقوسة مثل الراء والنون والسين فقد جعل قطر كل حرفٍ ألفا وهكذا)(12).

         لقد ابتدع ابن مقلة القوانين الهندسية للحروف وقعد لها القواعد واخترع طريقة أجاد تحريرها كما وأجاد الآراء الفنية الهندسية، حيث يعتبر ذلك عاملا مهما يدل على قدرته وإلمامه بالعلوم الهندسية مضيفاً إليها آراءه في تاريخ الخط وأنواعه وتطوره، ويعتبر المهندس الأول للخط المنسوب(13)، ومن أوائل الذين وضعوا مصنفًا في قواعد الخط العربي حيث كانت له أراء هامة في هذا المجال، ومن آثاره رسالة في علم الخط والكتابة والتي ضمنها مصطلحات لم تكن معروفة، وكذلك قوانين هندسة ووزن الحروف العربية بميزان فني هندسي والتي تعتبر بحق آية في هذا الميدان، حيث ذكر فيها بأن حسن الكتابة وجودتها من جهتين:

الجهة الأولى:

            حسن التشكيل:

           قال الوزير أبو علي محمد بن مقلة(14): وتحتاج الحروف في تصحيح أشكالها إلى خمسة أشياء هي:

الأول: التوفية، وهي أن يوفى كل حرف من الحروف حظه من الخطوط التي يركب منها من مقوس ومنتصب ومنحنٍ ومنسطح.

الثاني: الإتمام، وهو أن يعطى كل خط حظه وقسمته من الأقدار التي يجب أن يكون عليها من طول وقصر ومن كبر ومن صغر.

الثالث: الإكمال، وهو أن يؤتى كل خط حظه من الهيئات التي ينبغي أن يكون عليها من انتصاب وتسطيح وانكباب واستلقاء وتقوس.

الرابع: الإشباع، وهو أن يؤتى كل خط حظه من صدر القلم حتى تتساوى صورته ولا يكون بعض أجزائه أدق من بعض وأغلظ من بعض إلا فيما يجب أن يكون كذلك من أجزاء بعض الحروف من الدقة عن باقيه مثل الألف والراء ونحوهما.

الخامس: الإرسال، وهو أن يرسل يده بالقلم في كل شكل يجري بسرعة من غير احتباس يضرسه ولا توقف يرعشه.

الجهة الثانية:

          حسن الوضع:

          قال الوزير ابن مقلة، ويحتاج إلى تصحيح أربعة أشياء:

الأول: الترصيف، وهو وصل كل حرف متصل إلى حرف.

الثاني: التأليف، وهو جمع كل حرف غير متصل إلى غيره على أفضل ما ينبغي ويحسن.

الثالث: التسطير، وهو إضافة الكلمة إلى الكلمة حتى تصير سطرًا منتظم الوضع كالمسطرة.

الرابع: التنصيل، وهو مواقع المدات المستحسنة من الحروف المتصلة.

أما ما يخص هندسة الحروف ومعرفة اعتبار صحتها فقد ذكر ابن مقلة في رسالته هندسة كل حرف وقاعدته وهي كالتالي: 

حرف الألف: وهو شكل مركب من خط منتصب يجب أن يكون مستقيمًا غير مائل إلى استلقاء ولا انكباب وليست مناسبة لحرف في طول ولا قصر.
قال ابن مقلة: واعتبارها أن تخط إلى جانبها ثلاث ألفاتٍ فتجد فضاء ما بينهما متساويًا.

حرف الباء: هي شكل مركب من خطين منتصب ومنسطح، ونسبته إلى الألف بالمساواة. واعتبار صحتها أن تزيد في إحدى سنيها ألفا فتصير لاما.

حرف الجيم: هي شكل مركب من خطين منكب ونصف دائرة، وقطرها مساوٍ للألف.
قال ابن مقلة: واعتبار صحتها أن تخط عن يمينها وشمالها خطين فلا تنقص عنهما شيئاً يسيرًا ولا تخرج.

حرف الدال: هي شكل مركب من خطين منكب ومنسطح، مجموعهما مساوٍ للألف.
قال ابن مقلة: واعتبار صحتها أن تصل طرفيها بخط فتجده مثلثًا متساوي الأضلاع.

حرف الراء: وهي شكل مركب من خط مقوس وهو ربع الدائرة التي قطرها الألف وفي رأسها سنة مقدرة في الفكر.
قال ابن مقلة: واعتبار صحتها أن تصلها بمثلها فتصير نصف دائرة.

حرف السين: وهو شكل مركب من خمسة خطوط منتصب ومقوس ومنتصب ومقوس ثم مقوس.
قال ابن مقلة: واعتبار صحتها يعني صحة رأسها أن تمر بأعلاها وأسفلها خطين فلا تخرج عنهما شيئا ولا تنقص.

حرف الصاد: هي شكل مركب من ثلاثة خطوط مقوس ومنسطح ومقوس.
واعتبار صحتها أن تجعلها مربعة فتصير متساوية الزوايا في المقدار.

حرف الطاء: واعتبارها كاعتبار الصاد.

حرف العين: وهي شكل مركب من خطين مقوس ومسطح أحدهما نصف الدائرة واعتبار صحتها كاعتبار الجيم.

حرف الفاء: هي شكل مركب من أربعة خطوط منكب ومستلقٍ ومنتصب ومنسطح.
واعتبار صحتها أن تصل بالخط الثاني منها خطاً فتصير مثلثًا قائم الزاوية.

حرف القاف: وهو شكل مركب من ثلاثة خطوط منكب ومستلقٍ ومقوس. واعتبار صحتها كاعتبار النون.

حرف الكاف: هي شكل مركب من أربعة خطوط منكب ومنسطح ومنتصب ومنسطح.
واعتبار صحتها أن ينفصل منها ياءان.

حرف اللام: هي شكل مركب من خطين منتصب ومنسطح.
واعتبار صحتها أن تخرج من أولها إلى آخرها خطًا يماس الطرفين فيصير مثلثًا قائم الزاوية، وتكتب على الأنواع الثلاثة التي تكتب عليها الياء.

حرف الميم: هي شكل مركب من أربعة خطوط منكب ومستلقٍ ومنسطح ومقوس. واعتبار صحتها كاعتبار الهاء.

حرف النون: هي شكل مركب من خط مقوس، هو نصف الدائرة وفيه سنة مقدرة في الفكر.
واعتبار صحتها أن يوصل بها مثلها فتكون دائرة.

حرف الهاء: هي شكل مركب من ثلاثة خطوط منكب ومنتصب ومقوس. واعتبار صحتها أن تجعلها مربعة فتتساوى الزاويتان العليا كتساوي الزاويتين السفلاوين.

حرف الواو: هو شكل مركب من ثلاثة خطوط مستلقٍ ومنكب ومقوس.

حرف الياء: شكل مركب من ثلاثة خطوط مستلقٍ ومنكب ومقوس.
واعتبار صحتها كاعتبار الواو.

           إضافة إلى ما ذكره ابن مقلة في حسن الخط وجودته وهندسة الحروف ومعرفة اعتبار صحتها فقد ذكر أيضا أصناف الأقلام وأجناسها، وطرق بريها وكيفية إمساك القلم عند الكتابة ووضعه على الورق وكذلك طريقة صناعة المداد وذكر أصناف الكتاب ومراتبهم.

         يعد خط ابن مقلة أنموذجا يحتذى في الإبداع وجمالية الخط، وقد استمرت رئاسة الخط له حتى القرن الخامس الهجري، حيث اشتهر علي بن هلال (المعروف بابن البواب) المتوفى سنة 413 هجرية فهذب طريقة ابن مقلة في الخط، ونقحها وكساها طلاوة وبهجة وأنشأ مدرسته للخط(15).

           رغم هذا الإبداع الجمالي والسحر الفني فقد بقي ابن مقلة طيلة حياته عرضة للمحن والفتن إلى أن أصدر الخليفة الراضي العباسي بسجنه وقطع يده سنة 324 هجرية وكان ابن مقلة يشد القلم إلى ساعده ويكتب بها، وكتب بيده اليسرى وقد أجاد الكتابة بها وفي ذلك يقول:

ليس بعد اليمين لذة عيش                يا حياتي بانت يميني فبيني

          ثم قطع بعد ذلك لسانه وتوفي في السجن مقطوع اليد واللسان ومن الغريب أن ابن مقلة تقلد الوزارة ثلاث مرات في عهد المقتدر، والقاهر، والراضي، ودفن ثلاث مرات(16).

           وفي ختام المطاف إننا حيث تناولنا في هذه المقالة جانبا لمبدع من مبدعي هذا الفن ورائدًا من رواد الخط العربي الأصيل فإن ذلك يحتم علينا أخلاقيًا أن ننبه إلى حجم الخطر الذي يحدق بالخط العربي وما يواجهه هذا الفن العريق من المحن والضياع لذلك ندعو كل من له اهتمام في هذا الجانب إلى تحمل مسؤولية إبرازه والارتقاء به، وكذلك هي دعوة لأبناء عصرنا من أبناء الأمة الإسلامية وخصوصًا أبناء الأمة العربية بالمحافظة على هذا التراث القيم من أجل أن لا يسحق تحت عجلات الخطوط الحديثة وما تنتجه الآلة والحاسوب والطابعة، كي يبقى تراثنا نبراسًا نستمد منه الهمم وعاملًا محفزًا للرقي والإبداع نفتخر به جيلًا بعد جيل ما بقيت الدنيا ومن الله تعالى نستمد العون والرشاد إنه ولي التوفيق وهو المسدد للصواب.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) خيرالدين الزركلي، الأعلام، ج6/ ص723.
2) فهرست ابن النديم، ص12.
3) ابن النديم البغدادي، الفهرست، ص 711.
4) يوسف بن تغري بردي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ج3/ ص268.
5) صبح الأعشى في صناعة الإنشا، ج3 / ص18.
6) صبح الأعشى في صناعة الإنشا، ج3 / ص18.
7) معجم الأدباء، ج9 / ص29.
8) ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، ص 166.
9) المصدر السابق، 345.
10) سهيلة الجبوري، الخط العربي وتطوره في العصور العباسية في العراق، ص71.
11) القلقشندي، صبح الأعشى،ج3
12) نقلاً عن: سهيلة ياسين الجبوري، الخط العربي وتطوره في العصور العباسية في العراق ص 96
13) ينظر: المصدر السابق،ص70؛
14) ينظر مخطوطة ابن مقلة، رسالة في الخط والقلم؛ القلقشندي، صبح الأعشى، ج3.
15) ينظر: ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ج3/ص342؛
16) ينظر: النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب،ج23/ص147؛ الصفدي، الوافي بالوفيات، ج4/ص83؛ يوسف بن تغري بردي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة،ج3/ص262.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.