Take a fresh look at your lifestyle.

مبدأ الرعوية الشاملة لمواطني الدولة في عهود الرسول (صلى الله عليه وآله) لأهل المدينة

0 579
الباحث: محمد رضا الشريفي
المركز الوطني لعلوم القرآن – بغداد

           جاء في الإعلان العالمي لحقوق الانسان الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها المرقم 217 في 1948م عدد من المبادئ منها:

المادة الأولى:

           يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وُهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء.

المادة الثانية:

         لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء. وفضلًا عما تقدم فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد سواء كان هذا البلد أو تلك البقعة مستقلًا أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود.

المادة الثالثة:

           لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه.

         وقد أصبح هذا الإعلان مرجعًا حقوقيًا يمثل آخر ما تفتقت عنه العقلية البشرية الوضعية والإرادة الإنسانية في العصر الحديث، وأصبحت حقوق المواطنة اليوم من أهمّ مطالب الحضارة ومعالم النظام السياسي العالمي المعاصر ومشاغله، وأصبحت الدول والأنظمة تباهي بمدى اعترافها بحقوق مواطنيها وعدلها وتسويتها بينهم في الحقوق والواجبات، وأصبح الحكم على صلاح تلك الأنظمة مستندا إلى درجة التزامها بتلك المبادئ.

         وها هو الإنسان يهجر مسقط رأسه ومرابع صباه حاملًا معه عياله والقليل من متاعه، إذا ما ذُكر له في تخوم الأرض بلدٌ يصون له كرامته ويضمن له حقوقه بغض النظر عن جنسه ولونه وعرقه وديانته، فيعاني في سبيل بلوغ تلك الأرض الموعودة ما يعاني من شظف العيش وفراق الأهل والأحبة، وربما فقد حياته في البر أو البحر وهو في طريقه لتحقيق تلك الغاية البعيدة.

         لكن الباحث المنصف يجد أن الإسلام قد أقام هذه المبادئ الأولية إضافة إلى مبادئه المركزية الأخرى وقرر مبدأ الرعوية الشاملة لجميع مواطني الدولة الإسلامية بغض النظر عن ألوانهم وأديانهم وأعراقهم ومكانتهم الاجتماعية ووضعهم الاقتصادي والقانوني. فالمواطنون في النظام الإسلامي متساوون في جميع الحقوق المدنية من العيش والأمن والسكن والتنقل والعمل والتملك. كما أن تميز المواطن ومكانته في المجتمع يحددها معياران هما:

   الأول:

        هو درجة تقواه ومستوى إيمانه لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(الحجرات:13).

   الثاني:

          هو مقدار الخدمات التي يقدمها للمجتمع ومدى التزامه بالقوانين والأنظمة العامة، لقوله تعالى: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)(النساء: 95)، وقوله: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(الحديد:10).


          ومنذ اليوم الأول لمقدم الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة وتأسيسه للنظام الإسلامي فيها قرر بأن المواطنة حقٌ أصيل وثابت لكلّ فرد من أفراد المجتمع مهما كان وضعه، وإن الإنسان يحصل على ذلك الحق مع ولادته إن كان مسلمًا، ومع سكنه على أراضي الدولة الإسلامية إن كان معاهدًا أو ذميًا، وهذه الرعوية الشاملة لجميع أفراد المجتمع هي مما انفرد به الإسلام يوم مجيئه كما إنها كانت غريبة عن النظام الذي كان يحكم دول العالم آنذاك، وقد التفت الإسلام منذ ذلك الحين إلى سد أيّة ثغرة يمكن أن ينفذ منها أيُّ أحد للتشكيك ببنائه النظري الاجتماعي والسياسي المبرم من خلال إثارة مسألة أوضاع الشعوب غير المسلمة التي تعيش في كنف الأمة (الدولة) الإسلامية، فجاء بفتح فريد وغير مسبوق هو الآخر بإبداعه لمصطلح (أهل الذمة) الذي كفل جميع الحقوق المدنية لغير المسلمين بعدّهم مواطنين أصليين في الدولة الأم، وذلك ما نصت عليه أول وثيقة سياسية في تأريخ الإسلام وهي (وثيقة المدينة).

          وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)(البقرة:62)، وأعاد تأكيده بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)(المائدة:69)، فالمتساوون في الحق الديني أولى بالتساوي في الحق المدني، وهذا ما أكدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بناءٍ وتأسيسٍ حضاري ومدني قد يجد بعض من ضاق بهم الأفق فلم يبصروا الحقيقة أنه تأسيس مدني غريب عن الدين وأطروحته، وما علموا إن من أسمى أهداف الدين هو إقامة الحياة المتمدنة المزدهرة والعادلة على هذا الكوكب، والذي يقرأ هذه النصوص السياسية التي كتبها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لشعب الجزيرة ـ بل للعالم كلّه ـ بمختلف أديانه وأعراقه يقف مذهولًا أمام ذلك الفكر الخلّاق وتلك الروح السامقة التي جاء بها الإسلام ورسوله العظيم،

         ومن تلك النصوص هذا الكتاب:

         (بسم اللّه الرحّمن الرّحيم، وبه العون، نسخة سجل العهد كتبه محمد بن عبد الله رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى كافة النصارى: هذا كتاب كتبه محمد بن عبد الله إلى كافة الناس أجمعين بشيرًا ونذيرًا، ومؤتمنًا على وديعة الله في خلقه، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزًا حكيمًا، كتبه لأهل ملته، ولجميع من ينتحل دين النصرانية من مشارق الأرض ومغاربها، قريبها وبعيدها، فصيحها وعجميها، معروفها ومجهولها، كتابًا جعله لهم عهدًا، ومن نكث العهد الذي فيه، وخالفه إلى غيره، وتعدى ما أمره، كان لعهد الله ناكثًا، ولميثاقه ناقضًا، وبدينه مستهزئًا، وللّعنة مستوجبًا، سلطانًا كان أم غيره من المسلمين المؤمنين، وإن احتمى راهب أو سائح في جبل أو واد أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو ردنة أو بيعة، فأنا أكون من ورائهم ذابًا عنهم، من كل عدة لهم: بنفسي وأعواني وأهل ملتي وأتباعي، كأنهم رعيتي وأهل ذمتي، وأن أعزل عنهم الأذى في المؤن التي تحمل أهل العهد من القيام بالخراج إلّا ما طابت به نفوسهم، وليس عليهم جبر ولا إكراه على شيء من ذلك ولا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا حبيس من صومعته، ولا سائح من سياحته ولا يهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم، ولا يدخل شيء من مال كنائسهم في بناء مسجد ولا في منازل المسلمين، فمن فعل شيئا من ذلك فقد نكث عهد الله، وخالف رسوله، ولا يحمل على الرهبان والأساقفة ولا من يتعبد جزية ولا غرامة، وأنا أحفظ ذمتهم، أينما كانوا: من بر أو بحر، في المشرق والمغرب، والشمال والجنوب، وهم في ذمتي وميثاقي وأماني من كل مكروه…)(1)

           ومنها أيضا ما كتبه لأُسقف نجران:

         (بسم الله الرّحمن الرحّيم. من محمّد النبيّ إلى الأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم، أنّ لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانيّتهم وجوار الله ورسوله، لا يغيّر أسقف من أسقفيّته، ولا راهب من رهبانيّته ولا كاهن من كهانته، ولا يغيّر حق من حقوقهم ولا سلطانهم ولا شيء ممّا كانوا عليه ما نصحوا وصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين)(2)

         ومن الواضح جدًا أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يكتب هذه العهود لنفسه ولم يقصرها على عهده بل ألزم بها جميع المسلمين وجميع أمرائهم وسلاطينهم في جميع الأعصار والأمصار. وبالفعل فقد عاش النصارى واليهود وغيرهم من أهل الأديان في الأراضي الخاضعة لسلطان المسلمين على مرّ العصور بأفضل مما عاش أقرانهم في البلدان الأخرى!

        إن مبدأ المواطنة يقوم من أساسه على حاجة الفرد للتمتع بمزايا الانتماء للجماعة وحمايتها وحاجة الجماعة للتمتع بولاء الأفراد وخدماتهم بما يضمن الحرية والمساواة لهم جميعاً. ومهما بدا العنصر الديني كعنصر مركزي في النظام الإسلامي لكن الظاهر الذي لا لبس فيه من هذه العهود والمواثيق النبوية الكريمة إن مبدأ المواطنة يتجاوز ذلك العنصر لدواع تتعلق ببناء المجتمع وازدهاره ونشر الدعة والسكينة بين مكوناته.

          ولعل أبرز تجسيد لهذا التأسيس النبوي لمبدأ الرعوية الشاملة قد ظهر في نهج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وسيرته إبان أيام حكمه وخلافته، وقد أخذه من القرآن الكريم وانتهجه من معلمه الأول رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فمن كلام مهمٍّ له وجهه إلى الخوارج نعرف أنه كان مدركًا جدًا لمبادئ نظريته السياسية المتحضرة في المواطنة واستحقاقاتها، فقد قال لهم:

        (فإن أبيتم إلّا أن تزعموا أني أخطأت وضللت، فلم تضللون عامة أمة محمد بضلالي وتأخذونهم بخطئي، وتكفرونهم بذنوبي. سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب. وقد علمتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجم الزاني المحصن ثم صلى عليه ثم ورثه أهله. وقتل القاتل وورث ميراثه أهله. وقطع السارق وجلد الزاني غير المحصن ثم قسم عليهما من الفيء ونكحا المسلمات، فأخذهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذنوبهم، وأقام حق الله فيهم ولم يمنعهم سهمهم من الاسلام، ولم يخرج أسماءهم من بين أهله)(3)،

         فالمواطنة في الإسلام حق دائم لا يسقط حتى عن المذنبين والمخالفين للقانون. ولا يُشترط فيه وحدة الدين والفكر والعرق والعقيدة، ففي ذات يوم (مر شيخ مكفوف كبير يسأل فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):

         ما هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين نصراني، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):

        استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!! انفقوا عليه من بيت المال)(4)، فهذا هو البر وهذا هو القسط الذي قرره القرآن الكريم بقوله: (لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(الممتحنة: 8).

 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1)مكاتيب الرسول/ الأحمدي الميانجي/ ج3ص758.
2)ن.م/ ج3ص148.
3)نهج البلاغة/ الشريف الرضي ، ج 2 ، ص 7،8 .
4)تهذيب الأحكام/ الشيخ الطوسي/ ج6ص293.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.