م.م. حامد عادل النصراوي
جامعة الكوفة – كلية التربية
إنّ المتابعَ والمحلل للسلوك السياسي يجد أنَّ هنالك تباينًا واختلافًا في استقراء هذا السلوك، فالمدرسة الإسلامية تجده وسيلة لتحقيق مصالح الناس وتأمينها بشكل يحقق العدالة والمساوة بين الجميع من دون محاباة واستئثار بالسلطة، في المقابل قدمت المدرسة الغربية نظرة مغايرة بنسبة كبيرة، اذ عدّه بعضهم سلوكًا ذا خواص سلبية متمثلًا بخدمة المصالح الذاتية، إلا إنّ معظم الباحثين بدأوا يلاحظون أنّ التصرفات السياسية يمكن أن تنتج نهايات إيجابية، فالباحثون الذين بدأوا يدعمون دراسة السلوك السياسي الإيجابي تبنوا فكرة رئيسة تتمثل بأن السياسة هي مهارة ضرورية في القيادة بدلًا من وصفها مصدرًا للشر(1).
وبالرغم من ذلك فإن مختلف الباحثين يدركون أن السياسة هي سلبية بصورة عامة(2)، إذ غالبًا ما ينظر لها بأنها مرادفة للأعمال القذرة والطعن بالخلف، لذلك تعد أمرًا مكروهًا ومن الأفضل تركه(3)، فضلًا عن ذلك، فإن الجذور اللاتينية لكلمة سياسة Politics تشير إلى أن poli تعني (الكثير) و tics تعني (مصاصي الدماء)، لذا فإن هذا السلوك يعد سلوكًا سلبيًا بشكله العام(4).
دوافع السلوك السياسي:
إن السلوك السياسي عادة ما ينطوي على أفعال متعمدة من أجل تعزيز النفوذ أو حماية المصلحة الذاتية للقادة أو الرعية أو الجماعات، لذا يعُدّ أسلوبًا ضروريًا لمنح الفرد أو القائد القوة اللازمة لتحقيق ما يصبو إليه من أهداف وعلى اختلاف أنواعها(5)،
وعليه يتضح لدينا في ضوء أدبيات السلوك السياسي وتحديدًا الغربية منها بأن هنالك دافعين يكمن وراءهما هذا النوع من السلوك والّلذين سوف نستقرئهما في ضوء الإدارة السياسية للدولة إبان ولاية الإمام علي (عليه السلام)، وكما يأتي(6):
1.تلبية الاحتياجات الفردية والتنظيمية المشروعة وغير المشروعة.
في ضوء ذلك فإن سيرة الإمام علي (عليه السلام) كانت تواقة لتقديم مصالح الرعية وعامة الناس من الفقراء وغيرهم على مصالحه واحتياجاته، لا بل كان يوظف حتى حقوقه لفقراء المسلمين،
فمما يروى من مظاهر سياسة الإمام علي (عليه السلام) وعدله وإنسانيته الراقية في التعامل مع رعيته وعماله أنه قدم خادمه قنبرًا على نفسه في لباسه وطعامه، إذ في أحد الأيام اشترى الإمام علي (عليه السلام) ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين، فأعطى الإمام الثوب الذي بثلاثة دراهم إلى قنبر وأخذ الثوب الذي بدرهمين لنفسه، فقال قنبر:
(أنت أولى به يا أمير المؤمنين، تصعد المنبر وتخطب الناس، فقال (عليه السلام):
يا قنبر أنت شاب ولك شرة الشباب، وأنا أستحيي من ربي أن أتفضل عليك)(7)،
إذ نجد من خلال هذه الحادثة البسيطة كيف يقدم الإمام علي (عليه السلام) خادمه قنبر عليه في ملبسه وهو قائد دولة، لذلك نستقرئ أن الإمام (عليه السلام) هو أحوج ما يكون إلى اللباس الجيد كونه خليفة المسلمين ويجب أن يظهر بمستوى عالٍ فيما يخص المظهر الخارجي، لكنه لا يرى أن إدارة الدولة بحاجة إلى الملبس بقدر حاجتها إلى سلوك سياسي عادل يحقق الرفاه والعيش الرغيد للأمة، لذا أراد أن يعطينا درسًا كيف يقدم قائد الدولة الرعية على نفسه ويفضلهم عليه مشيعًا بذلك روح التكافل والإيثار بالذات، وهي في الواقع أبسط صورة ومفردة سلوكية يعطيها الإمام علي (عليه السلام) للقادة المتصدين لإدارة الممالك والدول.
كذلك من الصور السياسية الأخرى التي يصورها لنا الإمام علي (عليه السلام) ما حدث في معركة صفين عندما سبق جيش معاوية جيش الإمام إلى ميدان القتال واستولوا على مشرعة الفرات ومنعوا جيش الإمام علي (عليه السلام) من الوصول إلى الماء، فضج أصحاب الإمام وأفراد جيشه من ذلك السلوك العدواني الذي قام به معاوية وجيشه، بعدها قام الإمام فخطب بجيشه وقال ما نصه:
(اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ، فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّة، وَتَأْخِيرِ مَحَلَّة، أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ، فَالمَوْتُ في حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، وَالْحَيَاةُ في مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ، أَلاَ وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وَعَمَّسَ فعَلَيْهِمُ الْخَبَرَ، حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ)(8)،
فاستنهض الإمام بكلامه همم الرجال بجيشه للوصول إلى مشرعة الفرات للاستيلاء عليها، وعندما حصل ذلك وجلا جيش معاوية بقوة السلاح والسيطرة عليها، (قال أصحاب الإمام علي (عليه السلام) له: امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك.
فقال (ع): (لا، خلوا بينهم وبينه لا أفعل ما فعله الجاهلون فسنعرض عليهم كتاب الله وندعوهم إلى الهدى فإن أجابوا وإلا ففي حد السيف ما يغني إن شاء الله)، ….
فو الله ما أمسى الناس حتى رأوا سقاتهم وسقاة أهل الشام ورواياهم وروايا أهل الشام يزدحمون على الماء ما يؤذي إنسان إنسانا)(9)،
هنا تتضح لدينا صورة في قمة النُبل، فوفقًا للمصالح التنظيمية لقيام وانتصار دولة الإمام (عليه السلام) أن تقطع المشرعة على الأعداء في إشارة إلى تضييق الخناق عليهم وقطع مختلف سُبل الانتصار لديهم وذلك لتحقيق الانتصار بأقل التكاليف، لكن في ضوء المنظومة الفكرية والسياسية للإمام (عليه السلام) فأن هذا السلوك يتعارض ومتبنياته السياسية في إدارة صراع الدولة مع خصومها، فهو بذلك يعرض لنا صورة في قمة الروعة تمثلت في عدم توظيف الوسائل المشروعة (الماء) بأسلوب غير مشروع (قطع الماء) بشكل يلحق الأذى بالأعداء رغم أن أعداء الدولة قد وظفوها ضدهم في بادئ الأمر، لكن خلق الإمام (عليه السلام) في إدارة حلبة الصراع التي تمثل في حقيقة الأمر جانباً مهما من جوانب إدارة الدولة كانت تقوم على توظيف الأدوات بأسلوب نبيل، فكان أمره أن لا يمنع الأعداء من الوصول إلى المشرعة، وهذا إن دلَّ على شيء فإنه يدل على مبادئ سلوك سياسي تقوم وفق معادلة في قمة الإنسانية حتى مع ألدَّ خصومه وهو معاوية بن أبي سفيان، وهو بذلك حطم الدافع الأول للمنظومة الفكرية التي تتبناها أدبيات السلوك السياسي الغربي من خلال تقديم مصلحة الرعية على نفسه والتعاطي بنحوٍ إيجابي مع خصومه.
2.خدمة الأغراض الأخلاقية وغير الأخلاقية
فالسلوك السياسي يعد أخلاقيًا ومناسبًا في ظل شرطين:
أولهما:
إذا كان يحترم حقوق جميع الأطراف المتأثرة.
ثانيهما:
إذا التزم بشرائع العدل (الحكم المنطقي لما هو عادل ومنصف) والعكس بالعكس، ففي رواية (عن الأصبغ بن نباتة، أنه قال: كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إذا أتي بالمال أدخله بيت مال المسلمين، ثم جمع المستحقين، ثم ضرب يده في المال فنثره يمنة ويسرة، وهو يقول: يا صفراء، يا بيضاء، لا تغريني، غري غيري، ثم لا يخرج حتى يفرق ما في بيت مال المسلمين ويؤتي كل ذي حق حقه، ثم يأمر أن يكنس ويرش، ثم يصلي فيه ركعتين، ثم يطلق الدنيا ثلاثا، يقول بعد التسليم :يا دنيا لا تتعرضي لي ولا تتشوقي ولا تغريني، فقد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي عليك)(10)،
لكن هذه السياسة العادلة والأخلاقية للإمام (عليه السلام) في توزيع المال سبَّبت له أزمات سياسية واجتماعية مع البعيدين والقريبين منه، فقد خلقت مصاعب مع جيشه وتنكر له الأعيان من البلاد وقاطعته قبائل قريش الاقطاعية التي استأثرت بالمال والهبات في العهد الذي سبق ولايته، ونتيجة للسياسة العادلة في توزيع المال دفع الإمام علي ثمنًا باهضًا في تخاذل جيشه وتوجهه صوب معاوية، فـ (لما عوتب على التسوية في العطاء قال (عليه السلام):
أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ؟!…. لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ الله)(11)، في لحاظ هذا الموقف الكبير نجد الإمام عليًا (عليه السلام) لم تعرف مفردات سياسته إلا الصور الأخلاقية العادلة التي تمثل في حقيقتها أخلاق السماء والرسالة المحمدية.
العوامل المؤثرة في تنامي السلوك السياسي:
أفرزت أدبيات السلوك السياسي جملة من العوامل المؤثرة في خلق وتنامي السلوك السياسي لدى بعض القادة والتي سوف نناقشها ونحللها في ضوء سياسة الإمام علي (عليه السلام) التي نورد بعضًا منها بالآتي(12):
أ- عوامل على المستوى الشخصي: وتتضمن ما يأتي:-
1-الحاجة للسلطة:
بعض القادة يكون لديهم حاجة وميول للسلطة، كما حددها ماكليلاند. فهي كما تدفع الأفراد للبحث عن التأثير في الآخرين، فهي تحفز أيضًا استخدام هذه السلطة لتحقيق مكاسب سياسية، لكن الإمام علي (عليه السلام) لم ينظر إلى السلطة كمغنم، إذ لم يتصارع من أجلها، كما فعل الكثيرون، وإنما هي التي تصالحت معه، فالسلطة عبر التأريخ لم تتصالح مع أحد، سوى مع علي (عليه السلام)، فالسلطة عنده (عليه السلام) وسيلة وليس هدف، يقول الإمام (عليه السلام):
(اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّه لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ ولَا الْتِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ ولَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ ونُظْهِرَ الإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ)(13)،
إن فلسفة الإمام (عليه السلام) السياسية في التعاطي مع السلطة لم تكن بدافع الحاجة لها فهو أسمى من ذلك، لكن طبيعة السلطة المنوطة به تفرض عليه توظيفها بصورة سياسية تجعل منها وسيلة لتحقيق الإصلاح ورد المظالم وإقامة الحدود وبما يكفلُ سلام وصلاح الأمة الإسلامية.
2- مشاورة العلماء والحكماء:
فقد ورد في عهد الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر النخعي (رض) ما نصه:
(وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَمُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلَادِكَ وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ)(14) .
من خلال هذا المقطع من العهد يتضح بأن صلاح أمر البلاد (الغاية) لا يكون من دون مجالسة ومدارسة العلماء والحكماء (الوسيلة) في أمور الأمة، لذا يعود الإمام (عليه السلام) من جديد ويعطينا ومضة ودرساً جديداً تمثل في إشاعة فكرة ومفهوم مشاورة العلماء والحكماء في التعاطي مع المفردات والأحداث العامة التي تواجه الأمة .
ب- عوامل على مستوى الأمة (الدولة): وتتضمن ما يأتي:
1.التنافس القوي على الموارد النادرة
كانت السياسة المالية التي انتهجها الإمام (عليه السلام) امتدادًا لسياسة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي عني بتطوير الحياة الاقتصادية، وإنعاش الحياة العامة في جميع أنحاء البلاد، بحيث لا يبقى فقير أو بائس أو محتاج، وذلك بتوزيع ثروات الأمة توزيعًا عادلًا على الجميع، فليس لأحد على أحد فضل أو امتياز، وإنما الجميع على حدٍّ سواء. فلا فضل للمهاجرين على الأنصار، ولا للعربي على غيره، وعلى أي حال فإن السياسة الاقتصادية التي تَبنّاها الإمام (عليه السلام) قد أثارت غضب الرأسماليين من القرشيين وغيرهم وثقلت على القوى المنحرفة عن الإسلام، فانصرفوا عن الإمام وأهل بيته (عليهم السلام)، والتحقوا بالمعسكر الأموي الذي يضمن لهم الاستغلال، والنهب، وسلب قوت الشعب، والتلاعب باقتصاد البلاد،
من خلال ما سبق يتضح أن هنالك تهافت ومنافسة كبيرة على الأموال دفعت الإمام (عليه السلام) إلى وضع الأمور في نصابها الصحيح وتأمين حقوق الناس لضمان حياة آمنة ومستقرة وتكفل العدالة وعدم الظلم بين الجميع من دون استثناء، وهذا لا يتحقق ما لم تكن هنالك معالم لسياسة اقتصادية تسير في ضوئها الدولة لا كما كان إبان فترات الحكام السابقين إذ تفشت الطبقية وانتشر الفقر وشاعت الفاحشة، لذا يؤشر لدينا مرة أخرى كيف تعامل الإمام (عليه السلام) مع الرعية بلغة السياسة ولكن بلمحة اقتصادية تعطي كل ذي حق حقه من دون زيادة أو نقصان أو إجحاف.
2.حجم المؤسسة (الدولة):
إن السلوك السياسي أكثر تناميًا في الدول والمؤسسات الكبيرة مما عليه في الصغيرة، ولعل سائلًا يسأل، لماذا؟
إن طبيعة الديمغرافية المتنوعة لكل مصر من الأمصار وأعداد الناس الكبيرة ونوعية الولاة اللذين يكلفهم، تحتم على قادة الدول اتباع أساليب سياسية متنوعة تراعى فيها مصالح الأمة، لذلك تباين شكل الدولة عند الإمام علي (عليه السلام) حسب قدرات أصحابه ومكانتهم لديه (عليه السلام)، فقد اتبع أسلوب الإدارة المركزية مع بعض ولاته، واتبع أسلوب الإدارة اللامركزية مع مالك الأشتر النخعي (رض) في عهده إليه وتوليته مصر، فـ (مالك) عند (علي) (عليه السلام) مثل (علي) (عليه السلام) عند (محمد) (صلى الله عليه وآله)، فالإمام (عليه السلام) قال بحق مالك:
(لقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلى الله عليه وآله))، وقد انفرد مالك الأشتر بهذه المنزلة عند الإمام من بين جميع أصحابه، فالإمام (عليه السلام) وضع ثقته المطلقة بـ (مالك)، حيث يقول له:
(…فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم، وأسد به الثغر المخوف…فإني إن لم أوصك اكتفيت برأيك)(15)،
فلا ضرورة ولا حاجة للإشراف على سلوكه وأعماله في الولاية، وعليه يُبين لنا هذا التعاطي من قبل الإمام (عليه السلام) مع ولاته في الأمصار المختلفة، والذين يملؤون أرجاء الأمة الإسلامية، صورًا سياسية متنوعة توضح مستوى عاليًا جدًا من النضج والإدراك والفهم والاستيعاب للمنظومات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية لهذه الولايات. لذلك كان الإمام سباقًا وسياسيًا حاذقًا في تعامله مع هذا التنوع والتعدد الديمغرافي الذي يحتم عليه إيجاد فرشة سياسية متنوعة تتناسب وهذه التركيبة المختلفة سواء على مستوى الولاة أو الأمصار.