النجف الأشرف مدينة قلّ نظيرها في دنيا الله على هذه المعمورة، أنجبت الفحول من العلماء والرواد من أهل المعرفة والعلم. لم تخل ساحة من ساحات السباق العلمي إلا ووجدت فيها عالمًا قد استقى علمه من نميرها العذب، هي مدينة العلم والعلماء، ومدينة السهل الممتنع في كلّ ذلك، لا تبارى بما عندها، ولا يباريها أحد خجلًا وحياءً؛ لأنها استمدت جلّ علمها من علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأهل بيته الكرام، وهي وريثة الكوفة ومدرستها العلمية التي شغلت الدنيا بعلمها وحلقات درسها ومشايخها.
الشيخ محمد رضا المظفر واحد من أولئك الأبناء البررة الذين ولدوا على أرضها وتربوا وترعرعوا فيها، ونهلوا من علمها، وتفضلت عليه بكلّ ذلك، فأرجع الفضل فضلين، فأهداها أن يكون علمًا من أعلامها، وأن يكون مجددًا في منهجها ودرسها العلمي العتيد.
والشيخ محمد رضا هو ابن الشيخ محمد بن الشيخ عبد الله بن الشيخ أحمد، وُلد في مدينة النجف عام 1904م، الموافق لسنة 1323هـ، بعد وفاة والده بستة أشهر، فلم يكحل ناظريه برؤيته، غير أنه كان يراه في بصيرته بما أهدى له من علم وفهم وكرامة. وله ثلاثة إخوة من أمه وأبيه هم: الشيخ محمد حسن والشيخ محمد حسين، والشيخ محمد علي وكان تاجرًا، وقد كفلهم جميعا أخوهم الأكبر الشيخ عبد النبي الذي أصبح عالما مجتهدًا فيما بعد.
تتلمذ الشيخ محمد رضا على ثلة من علماء عصره في بدء دراسته وهم:
1ـ الشيخ محمد حسن المظفر (أخوه الأكبر).
2ـ الشيخ محمد طه الحويزي.
3ـ مرتضى الطالقاني.
وحضر الأبحاث العالية في الفقه والأصول والفلسفة على العلماء الأعلام:
1ـ الشيخ محمد حسين النائيني (ت1355هـ).
2ـ الشيخ ضياء الدين العراقي (ت1361هـ).
3ـ محمد حسين الأصفهاني (ت1361هـ).
4ـ الشيخ محمد حسن المظفر.
5ـ السيد عبد الهادي الشيرازي.
ودرس العلوم الرياضية ومبادئ العلوم الطبيعية على الطريقة الحديثة، فضلًا عن دراسته الدينية، وبرع في فنون العربية وعلومها كالشعر والعروض والبيان وغيرها. وكان ذا قلم جميل وأسلوب رائع، وكان يقرض الشعر، وله كثير ومنه القصيدة التي قالها في رثاء الإمام الجواد (عليه السلام) واستهلها بقوله:
أيها المدجلون للمنهل العذ ـب قفوا لي فللرفيق أناة
أنا ذيّاك مثقل طوت بي للتواني الآهات والعاهات
وخذوا في يد الضعيف رفقا هذه في طريق العثرات
أوقدوا لي من الحياة ولا مصبا ح فقد أظلمت بي الطرقات
ظلمات هذي الحياة ولا مصبا ح إلا ما أوقدته الهداة
عنصر في الوجود كوّنه الله فكانت بنوره النيرات
مثل النور والزجاجة والمصباح أنتم وأنتم المشكاة
أنتم النور للكليم على الطور وأنتم لآدم الكلمات
أنتم باب حطـّة من أتاه كان أدنى الجزاء فيه النجاة
وكفى مفخرا بغير ولاكم لا يتمّ الصيام والصلوات
آثاره العلمية:
اشتغل الشيخ محمد رضا المظفر بالدرس والتأليف بعد أن استكمل أدواته العلمية تدعمه ذاكرة وقـّادة وحسّ مرهف بما يعمل، فهو لا يترك صغيرة ولا كبيرة في ما يدرس إلّا أشبعها درسًا وفهمًا ومراجعة، فبرع في فنون عصره من فقه وأصول ومنطق وفلسفة، حتى بزّ كثيرًا من أقرانه، وخلّف مجموعة من كتب الأصول والمنطق والفقه وغيرها منها:
1.السقيفة ألفه عام 1952م.
2.المنطق.
3.عقائد الشيعة، وطبع فيما بعد باسم عقائد الأمامية.
4.على هامش السقيفة، وهو رسالة في جواب على بعض الردود.
5.أصول الفقه.
6.حاشية المكاسب على الخيارات فقط.
7.أحلام اليقظة في ترجمة الحكيم صدر الدين الشيرازي صاحب (الأسفار).
8.فلسفة ابن سينا (في ترجمته ونقد بعض آرائه).
مساهماته التجديدية في الحركة الفكرية بالنجف:
أسهم الشيخ محمد رضا المظفر إسهامة كبيرة في حقل المعرفة العلمية، وقد وجّه جل اهتمامه إلى تجديد المنهج العلمي الذي شغل الدرس في حاضرة النجف الأشرف منذ أكثر من ألف عام، فرأى أن ينفث فيه من روح العصر ما يجعله مواكبًا لتطوراته، إذ رأى أن هناك فجوة حاصلة بين ما عليه الدرس الحوزوي النجفي، وبين الدرس العلمي المعاصر، ووجد أن البقاء على ذلك سيؤدي إلى توسيع الهوة بينهما، وأنه لابد من أن يبعث الحياة فيها مرة أخرى كي تساير تقدّم العلوم والفنون العصرية، فتقدم خطوة تجاه تجديد الدرس العلمي في النجف الأشرف،
فلمع في ذهنه تأسيس مؤسسة علمية تعنى بتدريس العلوم الدينية، فاتفق مع مجموعة من العلماء الأعلام على تأسيس جمعية باسم (منتدى النشر)، وهم الشيخ عبد الحسين الحلي والسيد علي بحر العلوم والشيخ محمد جواد الحجامي وكانت برئاسة الأخير وسكرتارية الشيخ محمد رضا المظفر، ولكن بعد ذلك دبّ الخلاف بينهم فأنسحب أكثرهم ولم يبق منهم إلّا الشيخ محمد رضا المظفر وحده في الميدان، وكان ذلك عام (1954م)، وانتخب المظفر لرئاستها منذ سنة 1357هـ وجدّد انتخابه في كلّ دورة.
وكان هدفه من إنشاء هذه الجمعية (منتدى النشر) إصلاح النظام التعليمي في النجف، وفي هذا السبيل وضع كتابيه أصول الفقه، والمنطق الّلذين أصبحا وما يزالان محور الدراسة في أكثر الحوزات العلمية في العراق وبلاد الحجاز والبحرين ولبنان وإيران وغيرها من الحوزات العلمية الشيعية في العالم.
لكن عندما بدأ الشيخ بهذا المشروع العلمي التربوي الضخم بدأ الصراع بين الذين يريدون أن تبقى المناهج على ما هو عليه من القديم، وبين الذين يرون أن تجري الأمور وفق أهداف الدين الصحيح التي لا تتنافى مع التطور والتجديد، وقد لقي الشيخ المظفر عقبات كبيرة وأذى في طريقه، لكن من حسن الحظ وبتوفيق من الله تعالى أن هذه الفكرة قد لقيت رضا وتأييدا لدى السيد أبي الحسن الأصفهاني حتى أفتى بإنفاق الوجوه الشرعية على هذه الدراسة، وهذا مما دفع بمشروعه بخطوات متقدمة نحو الأمام وبعث في الشيخ المظفر الأمل مرة أخرى، فازداد حماسة أكثر تجاه مشروعه التجديدي، ومن ثم آمن بفكرته كذلك الشيخ عبد الحسين الحلي فسدّد للمنتدى ومدرسته الخطى، وأقسم من أدارها وعمل بها أن يعملوا مخلصين متبرعين ودون أن يهدفوا إلى شيء سوى تحقيق الفكرة ونجاح المشروع.
أما في الجانب الآخر من حياته العلمية الزاخرة فقد أهمل الشيخ دروسه الخاصة بعد أن كان درسه يغصّ بالطلاب والمريدين، بل كان كثير من الطلبة يتوسطون لديه بأن يكونوا تلامذة عنده قصد الإفادة والتعلـّم، وكان حينها أستاذًا ومجتهدًا وربما كانت المرجعية ستؤول إليه، لكنه ألقى وراء ظهره هذه الفكرة وأقبل بكلـّه على المنتدى يغذيه بروحه ويحدب عليه كالوليد، فلولا المنتدى لما كان بينه وبين أن يكون مرجعًا روحيًا كبيرًا ما يمكن أن يحول دون ذلك، إذ بلغ درجة الاجتهاد، حتى بدأ المؤتمون يأتمون به على هذا الأساس، إذ شغل بعد أخويه الشيخ محمد حسن والشيخ محمد حسين ـ رحمهما الله تعالى ـ مكانهما في الصلاة والتصدّي للمراجعات الدينية، لكن المنتدى قد أخذ منه كلّ شيء.
إذ اتخذ منه منبرًا للإصلاح والتجديد، فبعد أن امتلك كل الأدوات لذلك شرع في تطبيق أسس التجديد والتطوير في الدرس العلمي، وكان يسانده في ذلك صديقه وجاره الشيخ محمد شريعة، الذي تولى مديرية منتدى النشر، وكان هذا الشيخ مصلحًا ومجدّدًا فالتقى الشيخان على منهج واحد، فعملا سوية بهذا الاتجاه التطويري الجديد، ورافقه في تأسيس المنتدى كأعضاء إداريين ما لا يزيد على بضعة أشخاص، منهم السيد هادي فيّاض الذي لم يألُ جهدًا في تطوير المدرسة حتى تطورت فأسس (كلية الفقه)، وكان الشيخ المظفر أول عميد لها حتى وفاته، ثم تلاه في عمادتها مؤسسوها وبعدهم تلامذته الذين تخرجوا فيها من بعد.
لقد تخرج في المنتدى وكلية الفقه ثـُلة ممّن جمع بين فضيلة العلم والتجارة منهم الأديب الحاج محمد صادق القاموسي، والتاجر محمد رضا المسقطي، والسيد محمد حسن القاضي والسيد محمد حسين الصافي، ومن الوعاظ وخطباء المنابر الشيخ أحمد الوائلي والسيد جواد شبر، والسيد عبد الحسين الحجار، والشيخ محمد جواد قسّام، والشيخ مسلم الجابري وغيرهم.
ومنهم من دخلوا الجامعات وحصلوا على الدرجات العليا في دراسة الماجستير والدكتوراه كالشيخ أحمد الوائلي، والسيد محمد بحر العلوم ومحمود المظفر والسيد مصطفى جمال الدين والشيخ عبد الحميد الحر.
حاولت الهيئة المشرفة في المنتدى التي يرأسها الشيخ المظفر أن توسّع من نشاط المنتدى، فأسست مجموعة من المدارس سميت بـ (منتدى النشر) فضلًا عن تأسيس مستوصف صحي باسم المنتدى كذلك.
وأهم ما أسند إلى المنتدى جريدة (الهاتف) التي كانت اللسان الناطق عنه، وكان الشيخ المظفر من أعزّ أصدقاء الجريدة، وآزرها كثيرًا وكتب فيها كثيرًا وبمواضيع شتى، وكانت منبرًا للشيخ بحق إذ كانت حواراته العلمية تدور من على صفحاتها، حتى أن من أراد أن يعرف حياته ودراسته وأفكاره فمنها، ومن هذه الحوارات ما كان يجري بينه وبين الدكتور مصطفى جواد عن كلمة (فوضى) التي قال عنها المظفر: إنه لا يجوز تعريفها بدخول الألف واللام عليها، في حين كان يرى الدكتور مصطفى جواد بجواز ذلك، عبر أعدادها، وبقي النقاش طويلًا والحوار متجدّدًا بينهما، وكل منهما مصرٌ على رأيه، ولكن عندما علم الشيخ المظفر بأن موقف الدكتور مصطفى جواد كان منه اجتهادًا، استراح من ذلك العناء، غير أنهما أثريا المجلة بعلمهما وأفادا طلبة العلم كثيرًا بما باحت قريحتهما.
بدأ المشوار العلمي للشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ في التأليف والكتابة في سنيّ عمره الأولى عندما كان شابًا يافعًا، إذا بدأ يكتب سلسلة من النماذج الأخلاقية تحت عنوان (اسمعني) وهو لم يزل في السنة الثالثة عشرة والرابعة عشرة من عمره. ثم ألف سلسلة كتبه ومؤلفاته التي ذكرت سابقًا.
كان الشيخ المظفر اجتماعيًا يتواصل مع أصدقائه وأقربائه ويحضر مجالس أفراحهم ووفياتهم والمجالس الحسينية، بل كان يدعو لها ويشجع القائمين عليها ويدعمها ـ بل إنه لما ثارت الفتنة حول أداء الطقوس الخاصة بواقعة الطف من لطم وسيوف وتطبير وغيرها كان يدعو إليها مع تهذيبها وإظهارها بشكل حسن، وكان أول من أثارها وأشعل أوارها عالمان كبيران في البصرة هما الشيخ عبد المهدي المظفر والسيد مهدي القزويني، وكانت بينهما منافسة كبيرة، إذ إنّ السيد القزويني قد حرّمها، في حين كان الشيخ عبد المهدي المظفر يدعو إلى التمسك بضرب السيوف والسلاسل وغيرها.
واتسعت هذه المسألة بين التحريم وعدمه حتى ظهرت آثارها في بلاد الشام فاشتعل أوارها بين السيد محسن الأمين ومعارضة السيد عبد الحسين شرف الدين والشيخ عبد الحسين صادق.
كان آل المظفر يدعون إلى هذه الطقوس حتى استطاعوا أن يستخرجوا فتوى الشيخ حسين النائيني باستحباب هذه الطقوس والحث على إقامتها أحياءً لذكرى أبي عبد الله الحسين (عليه السلام). وكان الشيخ محمد رضا المظفر واحدًا من أولئك الداعين إلى التمسك بها.
فهكذا بقي الشيخ دؤوبًا في عمله وموزعًا نفسه بين التدريس والكتابة ومراعاة العادات والتقاليد الاجتماعية والتواصل مع الأهل والأقرباء والأصدقاء وحضور المجالس العلمية المحلية والعربية والعالمية فانتخب عضوًا في المجمع العلمي في العراق، فأثرى المجمع بعلمه وفضله وشارك في اجتماعاته واتصل بالمجامع العلمية العربية والإسلامية من باب التعاون والتلاقح الفكري.
وقد شارك في عدة مؤتمرات علمية عربية وعالمية، فمثل العراق في مؤتمر باكستان عام 1376هـ، ومؤتمر جامعة القرويين بمراكش عام 1379هـ.
توفي الشيخ المظفر (رحمه الله تعالى) في يوم الجمعة 16 رمضان من سنة 1383هـ ودفن في مدينة النجف بتشييع مهيب وسط حشود من آلاف المشيعين من أصدقائه ومحبيه وطلبته وعامة الناس.