يمثِّل الجناس إيقاعاً داخليّاً، وجرساً إيحائيّاً، إذ يُسبغ على النصِّ تفاعلاً جماليَّاً بينه وبين المتلقِّي، وهو عند البلاغيِّين: ما اتَّفقت ألفاظه، واختلفت معانيه(1)، أو هو ضرب من التكرار اللفظي الذي يولِّد نغماً موسيقيّاً، وهو عبارة عن تشابه لفظتينِ في النطق واختلافهما في المعنى(2)، عندها يُسبِّبُ تناسباً قائماً بين الصوت والدَّلَالَة، وهذا (التناسب بوصفه مقياساً جماليَّاً له أهمِّيَّته في التأثير الإيجابيِّ على المتلقِّي، وكسب تفاعله، وإعجابه؛ ولهذا ارتبطت تلكَ المحسِّنات البديعيَّة عند أكثر البلاغيِّين بما [أسموه] المناسبة والملاءمة والترابط والتلاحم، وغير ذلك)(3). ويكمن جماله في جرسه الموسيقيّ حينما يأتي في السياق من دون تكلف، ممَّا يضفي على دلالة المعنى بعداً جديداً يمنح الملتقِّي فضاء الإصغاء، والتلذُّذ بالعمل الفنِّي الذي يعطي للمعنى ظلالاً وإيضاحاً متناغماً مع موسيقى النصِّ.
والجناس أنواع، منه جناس الاشتقاق، وهو أن يجمع اللفظينِ اشتقاق في الجذر اللغوي الواحد، فيتجانس اللفظان في الأصل، ويختلفان في الهيئة، إذ إنَّ كلّاً منهما على صورة من صور الاشتقاق، مع المحافظة على ترتيب الحروف الأصليَّة في اللفظتين(4)، وهو الجناس الأكثر انتشاراً في القرآن بصورة عامَّة، وإذا ما أُريد بيان سبب كثرة ظهور الجناس غير التامّ، فيمكن القول: إنَّه راجع إلى عاملينِ اثنينِ:
أحدهما:
دلاليّ يتعلَّق بوضوح المعنى؛ لأنَّ الاشتقاق من جذر واحد، ومادَّة لغويَّة واحدة، يعني تكرير الجذر؛ ممَّا يساعد على رسوخه في الذهن.
والآخر:
يتعلَّق بالجانب الموسيقيّ الذي يخلّفه التقارب والتآلف بين الألفاظ المتجانسة. فالجناس يضمُّ في طيَّاته رشاقة اللفظ، ووضوح الدَّلَالَة؛ ممَّا يؤثر في المتلقِّي؛ لأنَّه (من الحُلى اللفظيَّة، والألوان البديعيَّة التي لها تأثير بليغ، تجذب السَّامع، وتُحدث في نفسه ميلاً إلى الإصغاء، والتَّلذُّذ بنغمته العذبة، وتجعل العبارة على الأذن سهلةً مستساغة، فتجد من النَّفس القبول، وتتأثَّر به أي تأثير، وتقع في القلب أحسن موقع)(5).
وممَّا يُلاحظ أنَّ الجناس في القرآن لم يُستعمل على أنَّه محسن لفظيّ وحسب، فقد أفاد الدَّلَالَة المعنويّة في بُعدٍ إعجازيّ، إذ (لا تَسْتَحْسِنُ تجانُسَ اللَّفظتَيْنِ إلاَّ إذا كان مَوْقعُ مَعْنَيَيْهما من العقل موقعاً حميداً، ولم يَكُنْ مَرْمَى الجامع بينهما مَرْمىً بعيداً)(6). ونضرب لهذا الشأن مثالاً واحداً، حَتَّى يتَّضح ذلك البعد الإعجازيّ الذي يتميَّز به القرآن الكريم، فقد قال تعالى في سورة النمل: (وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ)(النَّمْلِ:92).
إذ استعمل جناس الاشتقاق في: (اهْتَدَى يَهْتَدِي)، والذي جرى بين الفعل الماضي (اهتدى) الذي يشير إلى العمل الصالح الذي جرى في الدنيا، والفعل المضارع (يهتدي) الذي يشير إلى الحاضر وما سيؤول إليه ذلك العمل الصالح من عاقبة حميدة، ولم يُستعمل الجناس في (الضلال)، إذ لم يقل: (وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا)، مثلما استعمل هذا التركيب في سورتي: يونس والإسراء. إذ قال سبحانه وتعالى فيهما:
والسبب الرئيس في ذلك يرجع إلى السياق، إذ يُلحظ ما يأتي:
1ـ إنَّ الآية التسعينَ من سورة النمل مستوفية للمعنى الذي جاءت به آيتا سورتي يونس والإسراء في أنَّ الضلال مآله على الفرد الضَّالِّ، فلا حاجة بعد ذلك إلى التكرار، ولاسيَّما أنَّها قريبة عهد من الآية الثانية والتسعين، فقد ورد فيها قوله تعالى: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(النَّمْلِ:90)، فلم تحتج إلى التفصيل الموجود في آيتي يونس والإسراء. وهذا يدلُّ على ترابط البنية الكليَّة لآيات القرآن الكريم بقصديَّة محكمة ولاسيَّما في الآيات ذات المضامين المتشابهة.
2ـ إنَّ سورة النمل موجهة في خطابها إلى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ونجد ذلك في قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)(النَّمْلِ:78). و(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ)(النَّمْلِ:79).و(إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)(النَّمْلِ:80)، (وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)(النَّمْلِ:81). و(إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(النَّمْلِ:91)، وغيرها من الآيات الكريمة التي تخاطب الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولهذا جاء تعقيب الآية (الثانية والتسعين) من سورة النمل بما يتناسب مع هذا الخطاب، فقال سبحانه: (وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ)، إذ ركَّزت على أهمية الإنذار للرسول (صلى الله عليه وآله)؛ ولهذا لم يأتِ الجناس في الضلال، بخلاف آيتي (يونس، والإسراء).
ومن هنا لا نتَّفق مع الرأي القائل: بأنَّ الجناس المعتمد على الاشتقاق، هو (أضعف أنواع الجناس من حيث القيمة الفنيَّة، والطاقة الشعريَّة؛ لأنَّ المعنى في هذه الحالة لم يتغيَّر في أصله، وإنَّما تبدلَّ شكل الكلمة الصرفيّ، فحسب)(7).
فقد ظهر لنا من دلالة السياق أنَّه مطلب دلاليّ ومطلب فنِّيّ، ثُمَّ أنَّه لو كان هذا النوع من الجناس ضعيفاً حقّاً لما كثر في القرآن الكريم، وهو النصُّ الأوَّل من حيث الإعجاز الأسلوبيّ. (فالجناس يقوم على مفارقة بين وجهي العلاقة اللغويَّة، إذ إنَّ الأصل فيها أن يطابق وجهها الحسِّي (الدالّ) مدلوله (المعنويّ)، ولكنَّ الجناس يشوَّش ذلك التطابق؛ فيفتق تلك اللحمة ويخيَّل بوحدة صوتيَّة بين ألفاظ متباعدة في الخطاب، ولكنها تخفي اختلافا في الدلالة)(8). فليس هناك ضعف في جناس الاشتقاق، بل هو أداة دَلاليَّة، فضلاً عن الثراء الجماليّ الذي يمنحه للنصِّ، فالجناس هو (صوت يوحي بمعناه)(9).
ومن أنواع جناس الاشتقاق جناس المماثلة وهوالجناس الذي يكون الكلام فيه مفتقراً إلى جواب، إذ يكون جوابه مماثلاً للفظة في نوع الحروف وعددها وهيئتها وترتيبها(10)، وهو يعتمد على عملية ذهنيَّة دقيقة، ولابدَّ من أن يشاركها حدس داخليّ أيضاً، ذلك أنَّ الدالَّ يرد عنصراً في بنية الأسلوب، ومن يشغل الذهن فوراً، بالارتداد إلى المدلول، لا بدلالة المطابقة أو عدمها، وهذه مرحلة أوليَّة تسبقها عملية (تخزين) في الذاكرة، إذ تتراكم الدوال ملازمة لدوالها تارة، ومنحرفة عنها تارة أخرى(11)، وذلك كقوله تعالى: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(البَقَرَةِ:194)، (أي جازوه بما يستحقُّ في طريق العدل، وهنا استعير للثاني لفظ الاعتداء؛ لتأكيد الدَّلَالَة على المساواة في المقدار، فجاء على مزاوجة الكلام لحسن البيان)(12).
فقد أدَّى الجناس هنا بعداً دلاليّاً من باب الإذن بالردِّ على المعتدي بالاعتداء، وذلك لضمان حقِّ المُعْتَدَى عليه، وهو وسيلة ردع لمن تسوَّل له نفسه الاعتداء. ويُعبَّر عن هذا النوع من الجناس بـ (المزاوجة)(13) ، ونجد هذا النوع في قوله تعالى: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)(النَّمْل:50)، والمكرانِ في الآية يختلفانِ، فمكر الكفَّار باطل وزائل وفانٍ، ومردود؛ لأنَّه مبني على الخديعة والغدر، وعدم الوفاء، أمَّا مكر الله سبحانه وتعالى فهو مكر حقيقيّ يقع موقعه، وهو من باب إمهال الكفَّار؛ ليزدادُوا أثماً، وإمدادهم بأنواع النعم؛ ليتمادَوا في غيِّهم وكفرهم، فتُقام عليهم الحجَّة. وقد نسب (المكر) لله سبحانه من باب الازدواج في اللفظ، ومشاكلة فعلهم بالمثل.
ويرى الراغب الأصفهانيّ أنَّ لفظة المكر لها معنيانِ: (مكر محمود، وذلك أن يتحرَّى بذلك فعل جميل، وعلى ذلك قال: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)(آل عمران:54)، ومذموم وهو أن يتحرَّى به فعل قبيح)(14). وعلى هذا الأساس يُمكن أنَّ نعدَّ الجناس في الآية الكريمة جناساً تامّاً، فالمكر الأوَّل معناه: ومكروا مكراً مذمومًا، والثاني: ومكرنا مكراً محموداً، ويمكن عدُّه جناسًا مشتقّاً؛ وذلك بالنظر إلى لفظتي (ومكروا) و(مكرنا)، إذ إنَّهما قد اشتقَّا من مادَّة لغويَّة واحدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1-معجم المصطلحات البلاغيّة وتطوّرها: ج2/ص52. 2-ظ: العمدة في مَحَاسِن الشعر وآدابه ونقده: ج1/ص321. 3- عناصر الوظيفة الجماليَّة في البلاغة العربيَّة: ص188-189. 4- ظ: الإيضاح في علوم البلاغة: ص542. 5- البديع في ضوء أساليب القرآن: ص155. 6-أسرار البلاغة: ص7. 7- عناصر الوظيفة الجماليَّة في البلاغة العربيَّة: ص92. 8- دروس في البلاغة العربيَّة، نحو رؤية جديدة: ص156. 9- جرس الألفاظ ودلالتها: ص276. 10.- ظ: الطراز: ج2/ ص387 11- ظ: بناء الأسلوب في شعر الحداثة ـ التكوين البديعيّ: ص 323. 12- النكت في إعجاز القرآن: ص 99، وظ: إعجاز القرآن: ص271. 13- هو أن ((يزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء))، الإيضاح في علوم البلاغة: ص329. 14- البصائر والذخائر: ج4/ص516.