تتصف اللغة العربية بصفتين مهمتين تتفرع منهما باقي خصائصها وصفاتها، وهما: القدم، والسعة، فهي قديمة بل أقدم لغة بقيت مستعملة حيّة حتى هذا اليوم، ورويت في قدمها مبالغاتٌ دلالتُها الوحيدة هي القدم.
أما سعتها فتظهر فيما وصل إلينا من نصوص وأهمها القرآن الكريم والحديث الشريف ونهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) وما دار حولها من شروح وتفسير، ثم معجماتها وموسوعاتها كلسان العرب وتاج العروس وغيرها، لذلك صرّح الإمام الشافعي بعدم القدرة على الإحاطة بها قائلا: (لسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا وأكثرها ألفاظًا وما نعلم أحدًا يحيط بجميعها غير نبي…)(1).
إن العربية التي كان اعتزاز كثير من العلماء القدماء بها وتفضيلهم إياها ووصفها بالكمال في البيان، نسمع أصواتًا منذ نهاية القرن التاسع عشر تتهمها بالقصور وبعدم قدرتها على استيعاب كل شؤون الحياة، والحق إن القصور لا يعود إلى اللغة إنما يعود إلى الناطقين بها، فطاقات اللغة وإمكاناتها كامنة تحتاج لمن يبدع في الإفادة منها ويحسن استعمالها، فمن العبث كما يقول اللغوي الفرنسي (جوزيف فندريس): (أن نبحث عن المثل الأعلى للكمال اللغوي في نوع من اللغات دون سواه… والواقع أننا لا نعلم إطلاقًا لغة قد قصرت عن خدمة إنسان عنده فكرة يريد التعبير عنها)(2) فكل صاحب فكر وقدرة على التعبير لا يعجز أن يعبر بلغته عن أفكارها، فإذا عجز فهذا العجز يعود إليه لا إلى اللغة، خصوصًا اللغة التي اختزنت تجارب خصبة وحضارة واسعة في مجال الأدب والفلسفة والعلوم العربية. فالمسؤولية اللغوية إذن هي مسؤولية الوسط الذي يمارس تلك اللغة،
فكلما اهتم المجتمع الناطق بلغة ما بلغته وحاول الحفاظ عليها وتطوير مناهج دراستها وتنميتها ازدهرت اللغة وازدادت سعة وقدرة على التعبير.
فالقرآن الكريم الذي هو أقدم نص وأتقنه نزل بلسان عربي مبين، وقد مثّل العربية بخصائصها وأنظمها اللغوية، وقد اتسعت الدراسات شيئًا فشيئًا فيه وشاع مصطلح الفصيحة في ظله، فعربية العصر الإسلامي استوعبت التطور الجديد في كل مجالات الحياة والفكر والأدب والاقتصاد والتفاعل الاجتماعي، وأوجدت كل مستلزمات التطور والنضج من إيجاد المصطلحات والألفاظ المناسبة للتعبير وشحنها بدلالات جديدة مما هيأته اللغة لمستعمليها ما جاء منها في القرآن الكريم والحديث الشريف وخطب نهج البلاغة أو ما جاء على لسان العلماء والأدباء والساسة وأعمالهم أو ما وجد في أثناء التعامل والاحتكاك الاجتماعي.
إن اللغة التي تعجز عن التطور لفقدانها القدرة على مسايرة العصور والأجيال التي تنطق بها لأسباب تاريخية أو سياسية أو طبيعية، تذبل وتختفي ولا يبقى منها سوى ذكرها وما تخلفه من تاريخها، وكثير من لغات العالم اختفت وستختفي لغات أخرى كما يتوقع، ويحذر أحد اللغويين العرب مما سمي بـ (العطالة التاريخية) في هذه الخمسين سنة الأخيرة من انكسار الإرادة وتشتت الولاء لغير الوطن والأمة، فاعتبروا ذلك جرس إنذار خطير على اللغة العربية، لكن العربية ظلت تتطور عبر عصورها وأجيالها بتحديد الأساليب والألفاظ والمصطلحات واستقبلت العصر الحديث مستوعبة إياه بما تملك من مرونة في أنظمتها ووسائلها الذاتية في القدرة على الاتساع في مجال الاشتقاق وتقبل الجديد ثم القياس والتعريب والنحت، فلكل وسيلة من هذه الوسائل مجال في نمو اللغة واستيعاب الجديد في الحياة، وظلت العربية تتسع للجديد من قضايا السياسة والاقتصاد والأدب والفكر والفلسفة والعقائد مستخدمة الوسائل المذكورة في إيجاد الجديد من الألفاظ والاصطلاحات والمفاهيم وقد عد احتكاك العرب بغيرهم من الأمم أهم حافز جعل اللغة تنشط في اتخاذ مستلزمات التطور عن طريق الترجمة إليها، مما وجدوه من العلوم والفلسفات والآداب، والعربية إحدى لغات التعامل الدولي في منظمة الأمم المتحدة بعد موافقة الجمعية العامة في دورتها الثامنة والعشرين 1973على اقتراح أن تكون العربية لغة رسمية وبلغة عمل، وقد تجاوزت كل العقبات التي وضعت لتنفيذ هذا المقترح والوصول إلى هذه النتيجة بعد أن اقتنع أعضاء المنظمة بصلاحية اللغة العربية لأن تدخل الجمعية العامة ولجانها الرئيسية،ابتداء من أول كانون الثاني 1973، وبذلك صارت اللغة العربية لغة عالمية رسمية إلى جانب اللغات الخمس المعتمدة وهي: الإنجليزية والفرنسية والروسية والصينية والاسبانية ولم يحدث فيها إلا تغيير واحد هو إضافة اللغة العربية لغة سادسة .
وهكذا تبقى اللغة حية مادام للناطقين بها حياة ونشاط في الحفاظ عليها وإلا تعرضت للفناء والتقهقر. . وقد أدرك ابن حزم الأندلسي (ت 456 هـ ) هذه الحقيقة إذ قال: (إن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم من ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنما يقيد لغة الأمة وإخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها. أما من تلفت دولتهم وغلب عليهم عدوهم واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم فمضمون منهم موت الخواطر وربما كان ذلك سببًا لذهاب لغتهم)(3) كأن هذا تحذير لأمتنا في الوقت الحاضر وما تعانيه من تشتت وتحكم العدو الأجنبي فيها وتهجير الملايين من أبناء العرب من أوطانهم إلى بلدان أجنبية وما سلط عليها من الأنظمة الظالمة أو الخادمة لمخططات أعدائها ثم انتشار الفضائيات وما تنتج من وسائل لتضليل المجتمع والإفساد اللغوي باختراق الفصيحة باللهجات المحلية في برامجها ثم المذيعين ومقدمي البرامج أشباه الأميين.. كل ذلك ذو أثر كبير في المجتمع ولغته وحياته، فالعربية في عصور قوة دولتها خرجت إلى الآفاق وكان لها تأثير فيمن وصلت إليهم فكانت قوتها من قوة أهلها ونشاط علمائها، ونحن اليوم ندعو إلى الحفاظ على مقوماتها باستعمال وسائل الأمن والتخطيط اللغوي لتطويرها وتعريب التعليم والعلوم المختلفة وتدريسها في مراحل التعليم قبل الجامعة ثم المراحل العليا.
وتهيئة ما تحتاج إليه من أسباب لجعلها صالحة للاستعمال في كل مجالات الحياة من جهة، وفي كل وسائل النشر المكتوبة والمسموعة والمرئية من جهة أخرى.
نحن إذ ندعو للتخطيط اللغوي لنشر العربية سليمة على ألسن الناطقين بها لا نقصد الوقوف في وجه تعلم اللغات الحية فإن إلمام المثقف العربي بلغة حية أو أكثر صار ذا أهمية كبيرة في هذا العصر الذي تتسارع فيه خطى العلم والأدب في مختلف مجالاتها. إنما نريد المحافظة على وحدة العربية وخصائصها في ألسن الناطقين بها باعتبارها لغة عقيدة وحضارة. والعمل على تطويرها بالوسائل الحضارية.
نشرت في العدد59
1 ـ تهذيب اللغة للأزهري 1/5،4
2 ـ كتاب اللغة ص421لـ: (جوزيف فندريس).ترجمة عبد الحميد الدواخلي، ومحمد القصاص.
3 ـ الإحكام في أصول الأحكام 1/31