يعد التكرار من الظواهر التي تتسم بها اللغات عامة ولغتنا العربية خاصة (1)،
وهو وجه من وجوه البلاغة والإعجاز، ما نطق بها أحد قبل القرآن الكريم فوجد فيه تلك الطلاوة والحلاوة التي تكتنف النص القرآني في أثناء التكرار إذ جاء نغماً جديداً من أنغام الحسن فضلاً عن الأنغام السارية في ذلك الدعاء(2). كما عد عنصراً من عناصر تكوين الإيقاع في النص الديني فضلاً عن دلالاته المعنوية التي تضفي على النص جرساً ونغماً يؤدي إلى تقوية المعنى و إيضاحه(3)، على أن التكرار يأتي لدلالات عدة منها: الترسيخ والتثبيت، والتنبيه،والتأكيد(4)،ولم يخل دعاء الندبة من هذه الظاهرة الأسلوبية التي أضفت عليها قِيَماً تعبيرية ودلالية أديت بإعادة العبارة وترديدها فضلاً عن تكرار الحرف، وقد يأتي التكرار في سياق سرد يتطلب تفصيلا وإطناباً، نظراً لبعد الكلام تكون الحاجة ملحة إلى إعادة الكلام تذكيراً بما مضى(5) كما في دعاء الندبة مكرراً كلمة (بعض) في تفصيله مهام الأنبياء في قوله: ((... فَبَعْضٌ أَسْكَنْتَهُ جَنَّتَكَ إلى أنْ أخْرَجْتَهُ مِنْها، وَبَعْضٌ حَمَلْتَهُ في فُلْكِكَ وَنَجَّيْتَهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنَ الْهَلَكَةِ بِرَحْمَتِكَ، وَبَعْضٌ اتَّخَذْتَهُ لِنَفْسِكَ خَليلاً وَسَأَلَكَ لِسانَ صِدْق فِي الآخِرين َفَأجَبْتَهُ وَجَعَلْتَ ذلِكَ عَلِيّاً، وَبَعْضٌ كَلَّمْتَهُ مِنْ شَجَـرَةٍ تَكْليماً وَجَعَلْتَ لَهُ مِنْ أخيهِ رِدْءاً وَوَزيراً، وَبَعْضٌ أوْلَدْتَه ُمِنْ غَيْرِ أب وَآتَيْتَهُ الْبَيِّناتِ وَأيَّدْتَهُ بِرُوحِ الْقُدُس ... ))(6)
بعد عرض تاريخي لمسيرة الأنبياء والأئمة الأطهار في المسيرة الهادفة إلى إحقاق الحق على أن هذا السرد التاريخي المضغوط والشامل في نفس الوقت لم يكن اعتباطياً أو لمحض العرض القصصي بل هو لرسم الفكرة التي تهدف إليها اللوحة الفنية، والتي تريد أن تقول إن حركة الإمام المهدي عليه السلام هي حلقة في هذه السلسلة النبوية المباركة، وهي امتداد لها، ووارثة لأهدافها وهمومها(7).
والملاحظ في استعماله للنكرة المخصوصة بالوصف ( بعض أسكنته، وبعض حملته، وبعض اتخذته، وبعض كلّمته، وبعض أولدته ) ليدل على تخصيص هذه النكرة وتعلقها بالصفة بحيث لا يمكن فصلها عنها، ولما التكرار يأتي لفائدة أو لغير فائدة(8) فإن التكرار في هذا المقطع من الدعاء وغيره من المقاطع قد أتى لفائدة ولعل الإمام هنا قد نكّر المسند إليه لتعظيم مهمة الأنبياء وتشريفهم فمنهم الساكن في الجنة، منهم المحمول على الفلك، ومنهم الخليل، ومنهم الكليم، ومنهم المولود من غير أب على سبيل المعجزة.
ومن أنماط التكرار:
1- تكرار الفعل والفاعل (الجملة الفعلية) بالمعنى: في دعاء الندبة يطالعنا تكرار لأفعال مترادفة في المعنى مع اختلاف طفيف في الدلالة من ذلك (فليبك الباكون، ويندب النادبون، وتذرف الدموع، ويصرخ الصارخون، ويضج الضاجون، ويعج العاجون ) في قوله: ((فَعَلَى الأطائِبِ مِنْ أهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِما وَآلِهِما فَلْيَبْكِ الْباكُونَ، وَإيّاهُمْ فَلْيَنْدُبِ النّادِبُونَ، وَلِمِثْلِهِمْ فَلْتَذْرِفِ الدُّمُوعُ، وَلْيَصْرُخِ الصّارِخُونَ، وَيَضِجَّ الضّاجُّونَ، وَيَعِـجَّ الْعاجُّوَن… ))(9).
والملاحظ أن أساليب نظم دعاء الندبة تتجانس فيه الألفاظ وتصطف بعضها مع بعضها الآخر، وكأنّ ناظمها قد صنّف الألفاظ في مجالات دلالية ففي المقطع السابق تصطف الأفعال المترادفة وفواعلها مع مثيلاتها:
فَلْيَبْكِ الْباكُونَ …. فَلْيَنْدُبِ النّادِبُونَ …. فَلْتَذْرِفِ الدُّمُوعُ …. وَلْيَصْرُخِ الصّارِخُونَ ….وَيَضِجَّ الضّاجُّونَ… وَيَعِـجَّ الْعاجُّوَن
إذ نجد كل فعل مع فاعله يرتبط مع الأفعال الأخرى وفواعلها بعلاقة الترادف فبكاء الباكين يرتبط مع ندب النادبين وذرف الدموع وصراخ الصارخين وضجيج الضاجين وعج العاجين كلها تؤدي معنى مترابط متسق ومتوائم مع المقام فالمقام مقام فقد شخصيات عظيمة من آل محمد وكذا في قوله: (( وجَعَلْتَهُمُ الذَّريعَةَ إلَيْكَ وَالْوَسيلَةَ إلى رِضْوانِك))(10) فالذريعة في اللغة هي الوسيلة(11).
2- تكرار اسم الاستفهام أين: اللافت للنظر هو الإكثار من الاستفهام بأدوات اسمية مثل (أين) و(متى) وحرفية مثل (الهمزة) و(هل)، ولعل تكراره الاستفهام بـ(أين) يدل على استحضار وجود أئمة أهل البيت (عليهم السلام)بدءاً بالإمام الحسن (عليه السلام) وانتهاءً بصاحب الزمان الإمام الحجة (عج)، وقد ركّز على الأخير؛لأنّ الدعاء مختص به فهو الإمام الحي الغائب والأمم تنتظر ظهوره ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً،لذا نرى تتابع الاستفهام بـ (أين) في قوله: ((أيْنَ الْحَسَنُ أيْنَ الْحُسَيْنُ أيْنَ أبْناءُ الْحُسَيْنِ، صالِحٌ بَعْدَ صالِـحٍ، وَصادِقٌ بَعْدَصادِقٍ، أيْنَ السَّبيلُ بَعْدَ السَّبيلِ، أيْنَ الْخِيَرَةُ بَعْدَالْخِيَرَةِ، أيْنَ الشُّمُوسُ الطّالِعَةُ، أيْنَ الأقْمارُ الْمُنيرَةُ،أيْنَ الأنْجُمُ الزّاهِرَةُ، أيْنَ أعْلامُ الدّينِ وَقَواعِدُ الْعِلْمِ،أيْنَ بَقِيَّةُ اللهِ الَّتي لا تَخْلُو مِنَ الْعِتْرَةِ الْهادِيـَةِ، أيْنَ الـْمُعَدُّ لِـقَطْعِ دابِرِ الظَّلَمَةِ، أيْنَ الْمُنْتَظَرُ لإقامَةِ الأمْتِ وَاْلعِوَجِ، أيْنَ الْمُرْتَجى لإزالَةِ الْجَوْرِ وَالْعُدْوانِ،أيْنَ الْمُدَّخَرُ لِتَجْديدِ الْفَرآئِضِ و َالسُّنَنِ، أيْنَ الْمُتَخَيَّرُلإعادَةِ الْمِلَّةِ وَالشَّريعَةِ، أيْنَ الْمُؤَمَّلُ لإحْياءِ الْكِتابِ وَحُدُودِهِ، أيْنَ مُحْيي مَعالِمِ الدّينِ وَأهْلِهِ، أيْنَ قاصِمُ شَوْكَةِ الْمُعْتَدينَ، أيْنَ هادِمُ أبْنِيَةِ الشِّرْكِ وَالنِّفاقِ، أيْنَ مُبيدُ أهْلِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيانِ وَالطُّغْيانِ، أيْنَ حاصِدُ فُرُوعِ الْغَيِّ وَالشِّقاقِ، أيْنَ طامِسُ آثارِ الزَّيْغِ وَالأهْواء،ِأيْنَ قاطِعُ حَبائِلِ الْكِذْبِ وَالافْتِراءِ، أيْنَ مُبيدُ الْعُتاةِ وَالْمَرَدَةِ، أيْنَ مُسْتَأصِلُ أهْلِ الْعِنادِ وَالتَّضْليلِ وَالإلْحادِ، أيْنَ مُـعِزُّ الأوْلِياءِ وَمُذِلُّ الأعْداءِ، أيْنَ جامِعُ الْكَلِمَةِ عَلَى التَّقْوى، أيْنَ بابُ اللهِ الَّذي مِنْهُ يُؤْتى، أيْنَ وَجْهُ اللهِ الَّذي إلَيْهِ يَتَوَجَّهُ الأوْلِياءُ، أيْنَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ بَيْنَ الأرْضِ وَالسَّماءِ، أيْنَ صاحِبُ يَوْمِ الْفَتْحِ وَناشِرُ رايَةِ الْهُدى، أيْنَ مُؤَلِّفُ شَمْلِ الصَّلاحِ وَالرِّضا، أيْنَ الطّالِبُ بِذُحُول ِالأنْبِياءِ وَأبْناءِ الأنْبِياءِ، أيْنَ الطّالِبُ بِدَمِ الْمَقْتُولِ بِكَرْبَلاءَ، أيْنَ الْمَنْصُورُ عَلى مَنِ اعْتَدى عَلَيْهِ وَافْتَرى، أيْنَ الْمُضْطَرُّ الَّذي يُجابُ إذا دَعا أيْنَ صَدْرُ الْخَلائِقِ ذُو الْبِرِّ وَالتَّقْوى، أيْنَ ابْنُ النَّبِيِّ الْمُصْطَفى، وَابْنُ عَلِيٍّ الْمُرْتَضى، وَابْنُ خَديجَةَ الْغَرّآءِ، وَابْنُ فاطِمَةَ الْكُبْرى … )) (12)،
ويبدو أن تكرار أداة الاستفهام (أين) قد دلّ على التحسر أي التحسر من اغتيال أئمة أهل البيت صالح بعد صالح وصادق بعد صادق مما أدى إلى غياب آخر الأئمة عن الأنظار خشية من اغتياله كما اغتالوا آله من قبل.
3- تكرار اسم الاستفهام متى: إن كان تكرار اسم الاستفهام (أين) يوحي بالاستفهام عن مكان ظهور الإمام فإن (متى) توحي بالاستفهام عن زمان ظهور الإمام لأنّ (أين) تختص بالمكان كما اختصت (متى) بالزمان، من ذلك قوله في دعاء الندبة: (( مَتى نَرِدُ مَن اهِلَكَ الرَّوِيَّةَ فَنَرْوى، مَتى نَنْتَقِعُ مِنْ عَذْبِ مائِكَ فَقَدْ طال َالصَّدى، مَتى نُغاديكَ وَنُراوِحُكَ فَنُقِرَّ عَيْناً (فَتَقُرُ عُيُوننا)،مَتى تَرانا وَنَراكَ وَقَدْ نَشَرْتَ لِواءَ النَّصْرِ تُرى … ))(13)،
ويبدو أن تكرار أداة الاستفهام (متى) قد دلّ على الاستبطاء أي استبطاء ظهور الإمام الغائب (عليه السلام).
4- تكرار حرف النداء ( يا ): لعل أهم علامة للندبة هي ( وا ) و ( يا ).
قال سيبويه: ((واعلم أن المندوب لا بد له من أن يكون قبل اسمه ( يا ) أو (وا ) ))(14)،
ولا يجوز حذف الأداة هنا لأهميتها.
قال المبرد عن المندوب: ((وعلامته ( يا ) أو ( وا ) ولا يجوز أن تحذف منها العلامة ))(15)، وتعد صيغة الندبة من الصيغ الصرفية، التي تعبر إفصاحا عن الحزن على الأرزاء، وتتكون هذه الصيغة من الأداة (وا) أو (يا) داخلة على اسم المتفجع عليه، فتبدو تعبيراً صوتياً عن الحزن. هذه الصيغة، التي ناسبت بها العربية حكاية إعلان الفجيعة صوتياً، وظفها المعصوم في الدعاء(16) كما في قوله: (( يَا بْنَ السّادَةِ الْمُقَرَّبينَ، يَا بْنَ النُّجَباءِ الأكْرَمينَ، يَا بْنَ الْهُداةِ الْمَهْدِيّينَ، يَا بْنَ الْخِيَرَةِ الْمُهَذَّبينَ، يَا بْنَ الْغَطارِفَةِ الأنْجَبينَ، يَا بْنَ الاْطائِبِ الْمُطَهَّرينَ، يَا بْنَ الْخَضارِمَةِ الْمُنْتَجَبينَ، يَا بْنَ الْقَماقِمَةِ الأكْرَمينَ، يَا بْنَ الْبُدُورِ الْمُنيرَةِ، يَابْنَ السُّرُجِ الْمُضيئَةِ، يَا بْنَ الشُّهُبِ الثّاقِبَةِ، يَا بْنَ الأنْجُمِ الزّاهِرَةِ، يَا بْنَ السُّبُلِ الْواضِحَةِ، يَا بْنَ الأعْلامِ الّلائِحَةِ،يَا بْنَ الْعُلُومِ الْكامِلَةِ، يَا بْنَ السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ، يَا بْنَ الْمَعالِمِ الْمَأثُورَةِ، يَا بْنَ الْمُعْجِزاتِ الْمَوْجُودَةِ، يَا بْنَ الدَّلائِلِ الْمَشْهُودَةِ، يَا بْنَ الصـِّراطِ الْمُسْتَقيمِ،يَا بْنَ النَّبَأِ الْعَظيمِ، يَا بْنَ مَنْ هُوَ في أُمِّ الْكِتابِ لَدَى اللهِ عَلِيٌّ حَكيمٌ، يَا بْنَ الآياتِ وَالْبَيِّناتِ، يَا بْنَ الدَّلائِلِ الظّاهِراتِ، يَا بْنَ الْبَراهينِ الْواضِحاتِ الْباهِراتِ، يَا بْنَ الْحُجَجِ الْبالِغاتِ، يَا بْنَ النِّعَمِ السّابِغاتِ، يَا بْنَ طه وَالْـمُحْكَماتِ، يَابْنَ يس وَالذّارِياتِ، يَا بْنَ الطُّورِ وَالْعادِياتِ، يَا بْنَ مَنْ دَنا فَتَدَلّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أوْ اَدْنى دُنُوّاً وَاقْتِراباً مِنَ الْعَلِيِّ الأعْلى … ))(17).
4- تكرار حرف الاستفهام ( هل ): تكرر في دعاء الندبة الاستفهام بـ (هل) في قوله: ((هَلْ مِنْ مُعينٍ فَأُطيلَ مَعَهُ الْعَويلَ وَالْبُكاءَ، هَلْ مِنْ جَزُوعٍ فَأُساعِدَ جَزَعَهُ إذا خَلا، هَلْ قَذِيَتْ عَيْن ٌفَساعَدَتْها عَيْني عَلَى الْقَذى، هَلْ اِلَيْكَ يَا بْنَ اَحْمَدَ سَبيلٌ فَتُلْقى، هَلْ يَتَّصِلُ يَوْمُنا مِنْكَ بِعِدَةٍ فَنَحْظى …))(18)، وقد دلّ تكراره على المبالغة في الإنكار والاستبعاد إذ ينكر ويستبعد وجود معين له على العويل والبكاء، وكذا لا من يتذكر مصائب أهل البيت (عليهم السلام) فيجزع فيتعب فيساعده على جزعه، ولا عين دخل بها عود فتتعب ولا تستطيع البكاء فتأتي عيني فتساعدها (19)…
5- تكرار الجملة الاسمية: الملاحظ أن الإمام يكرر عبارة ( عزيزٌ عليّ )، ولم يقل ( يعزّ عليّ ) فقد آثر البدء بالاسم ولم يبدأ بالفعل؛ لأنّ الفعل يدل على الحدوث والتجدد في حين يدل الاسم على الثبوت، ولعل سر ذلك يكمن في كون الفعل مقيداً بالزمن فالفعل الماضي مقيد بالزمن الماضي، والفعل المضارع مقيد بزمن الحال أو الاستقبال في حين الاسم لا يقيد بزمن من الأزمنة فهو أشمل وأعم وأثبت(20)
كما في قوله (( عَزيزٌ عَلَيَّأنْ أرَى الْخَلْقَ وَلا تُرى وَلا اَسْمَعُ لَكَ حَسيساً وَلا نَجْوى، عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ تُحيطَ بِكَ دُونِيَ الْبَلْوى وَلايَنالُكَ مِنّي ضَجيجٌ وَلا شَكْوى،… عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ أُجابَ دُونَكَ وأناغى، عَزيزٌ عَلَيَّأنْ أبْكِيَكَ وَيَخْذُلَكَ الْوَرى، عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ يَجْرِيَ عَلَيْكَ دُونَهُمْ ما جَرى… ))(21).
وقد يحدث تقديم وتأخير في الجملة الاسمية لإفادة غرض العناية والاهتمام لأنّ علماء العربية قد قرروا أن المهم يقدّم.
قال سيبويه: (( كأنهم إنما يقدمون الذي بيانه أهم لهم، وهم ببيانه أعنى، وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم ))(22)، وهذا يعني أن تقديم ما حقه التأخير أو تأخير ما رتبته التقديم ليس أمراً اعتباطياً وإنما له أغراض ومعانٍ التزم بها التركيب ثم أصبحتقواعد مقررة لا يحس بها إلا إذا خولفت(23) إذ إن التقديم والتأخير ((تركيب سياقي وائتلاف دلالي يقصده المتكلم ويعنيه))(24) فمن سنن العرب تقديم ما حقه التأخير وتأخير ما حقه التقديم(25). وقد تناول البلاغيون موضوع التقديم والتأخير وعزوا تقديم المسند إليه على المسند أو العكس إلى أمور منها: التمكن في ذهن السامع، والتعجيل بالمسرة أو المساءة والاستلذاذ وغيرها (26)،
وفي دعاء الندبة نجد الإمام يكرّر قوله (بنفسي أنت)، ولم يقل (أنت بنفسي)، والمعنى أفدي لك نفسي أو أرخص لك روحي، ولعله قدّم نفسه رخيصة في كونه بالرغم من غيابه لكنه لم يفارقنا إذ يتأذى من أجلنا، ويحمل همومنا، وينظر قتلانا والدماء التي تسيلدون وجه حق، كما في قوله (عليه السلام): ((… بِنَفْسي أنْتَ مِنْ مُغَيَّبٍ لَمْ يَخْلُمِنّا، بِنَفْسي أنْتَ مِنْ نازِحٍ ما نَزَحَ عَنّا، بِنَفْسي أنْتَ أُمْنِيَّةُ شائِقٍ يَتَمَنّى، مِنْ مُؤْمِن وَمُؤْمِنَةٍ ذَكَرا فَحَنّا، بِنَفْسي أنْتَ مِنْ عَقيدِ عِزٍّ لا يُسامى، بِنَفْسي أنْتَ مِنْ أثيلِ مَجْدٍ لا يُجارى،بِنَفْسي أنْتَ مِنْ تِلادِ نِعَمٍ لا تُضاهى، بِنَفْسي أنْتَ مِنْ نَصيفِ شَرَف لا يُساوى…))(27)،وقد ميّز الإمام بأوصاف تارة جرها بحرف زائد للتوكيد هو ( من )، وتارة ترك توكيدها بهذا الحرف إذ وصفه بأنه مغيب عن الأنظار، ونازح لم ينزح عنا، ومتمنٍ شائقٌ يحن للقاء المؤمنين، وقرين شرف لا يُفاخر، وصاحب مجد لا يُجارى، وصاحب نعم كثيرة لا تُحصى ولا يُضاهيها أحد في العالمين(28) .
نشرت في العدد 59
1ـ ينظر: علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق د. صبحي إبراهيم الفقي 2/11.
2 ـ ينظر: إعجاز القرآن / د:عبد الكريم الخطيب /373.
3 ـ ينظر: الإيقاع في لغة القرآن الكريم – أنماطه ودلالاته – دراسة اسلوبية دلالية-، عبدالواحد زيارة، رسالة ماجستير، آداب البصرة، 1995، ص60.
4 ـ ينظر: قراءة لغوية ونقدية في الصحيفة السجادية / د.كريم حسين ناصح الخالدي وحميدة صالح البلداوي 193.
5 ـ ينظر: المصدر نفسه 194.
6 ـ بحار الأنوار 99/105.
7 ـ ينظر: مقال للسيد صدر الدين القبانجي اللوحة الفنية في دعاء الندبة ـ ،صحيفة صدى المهدي، مركز الدراسات التخصصية للإمام المهدي، العدد43، شهر ذي الحجة، السنة1433هـ.
8 ـ ينظر: أساليب المعاني في القرآن 495.
9 ـ بحار الأنوار 99/107.
10 ـ المصدر نفسه 99/105.
11 ـ ينظر: العين / الخليل بن أحمد الفراهيدي 2/98.
12 ـ بحار الأنوار 99/107.
13 ـ المصدر نفسه 99/108.
14 ـ الكتاب / سيبويه 2/220.
15 ـ المقتضب 4/268.
16 ـ ينظر: البناء الأسلوبي في أدعية الأئمة المعصومين، أحمد محمد أحمد، رسالة ماجستير، كلية الآداب – جامعة البصرة، 2010، ص 247.
17 ـ إقبال الأعمال / ابن طاووس 1/509.
18 ـ بحار الأنوار 99/108.
19 ـ قبسات من شرح دعاء الندبة 100-101.
20 ـ ينظر: معاني الأبنية في العربية /د.فاضل صالح السامرائي 9.
21 ـ معجم أحاديث الإمام المهدي / الشيخ علي الكوراني 4/496.
22 ـ الكتاب 1/34.
23 ـ ينظر: نحو المعاني /د.أحمد عبد الستار الجواري 26
24 ـ البحث الدلالي في تفسير الميزان /د.مشكور العوادي 229.
25 ـ ينظر: الصاحبي / ابن فارس 189.
26 ـ ينظر: الإيضاح في علوم البلاغة/ الخطيب القزويني 1/52-53.
27 ـ إقبال الأعمال 1/510.
28 ـ ينظر: قبسات من شرح دعاء الندبة 97-98.