يشكّل (فن التعامل مع الناس) واحدًا من أسس نجاح الأشخاص والقادة المتصدين للعمل الاجتماعي، وكلما اكتسب الشخص مهارات التعامل مع الناس، وأجاد استعمالها حقق لنفسه ومجتمعه النجاح والتقدم.
إن تتبع أسس هذا الفن عند أمير المؤمنين (عليه السلام) يقدم لنا قواعد رصينة وآمنة، يمكن السير في هداها باطمئنان، لأنها تحقق لنا الغايتين الدنيوية والأخروية. لقد أحاطت الظروف العصيبة بأمير المؤمنين (عليه السلام)وألمت به المشكلات، وتحلق حوله كثير من الناس بعضهم من الموالين والأنصار والأتباع، وكثير منهم ليسوا كذلك، وكان لزامًا على إمام الأمة، وقائدها بعد نبيها أن يتعامل معهم بمنتهى الحكمة، ويقودهم بخلق السماء. يمكن القول باطمئنان إنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) حقق تعاملًا ناجحًا مع الناس سواء كانوا أتباعًا وموالين أو أعداءً ومبغضين).
سنتناول هنا بعض الجوانب الاجتماعية في شخصية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكيف أنّ كل المواقف والسيرة كانت جزءًا لا يتجزأ من واقعه (عليه السلام)، دونما تكلّف أو اصطناع. ومن تلك الجوانب الاجتماعية:
أولًا: حُسن الإصغاء:
حسن الإصغاء والاستماع للآخر من الآداب الاجتماعية الإسلامية الرفيعة، وهو فرع من شجرة الأخلاق، وقد حث القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة على هذه الخصلة، وهكذا جسّد إمامنا أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الخصلة في كل أفعاله، ومع مختلف طبقات المجتمع، كبيرهم وصغيرهم، عالمهم وجاهلهم، بل كان يفسح المجال بالكلام حتّى لأعدائه وخصومه ومن لا يتفقون معه في الرأي، ويستمع لهم.
نلاحظ في هذا الخبر أن عثمان يعاتب إمامنا أمير المؤمنين (عليه السلام)، والإمام ساكت مطرق، يستمع له، حتى أنّ طول سكوت الإمام (عليه السلام) وشدّة انصاته واستماعه لعثمان جعلت من عثمان يقول للإمام: ما لك لا تقول؟ فالإمام (عليه السلام) مع اختلافه الشديد مع عثمان وعدم قبوله (عليه السلام) بالمنهج الذي سار عليه، وبكثير من الأعمال التي قام بها، مع ذلك جلس مستمعًا منصتًا لمن لا يتفق معه في الرأي، وأبدى له النصح، وعرض عليه المشورة الصادقة الخالصة.
فمن يحسن الاستماع، ويترك التعجّل، ويفسح المجال أمام الطرف المقابل ليتمّ كلامه، بالتالي يكون موقفه ورأيه أفضل وأوفق، هذا بالإضافة إلى أن الطرف المقابل يشعر بالارتياح لأنه أدلى بكل ما يريد، والطرف الآخر يستمع له.
ثانيًا: ترك الأنانية وحب الذات (حب الخير للآخرين):
يقول الإمام (عليه السلام) في جزء من إحدى وصاياه لابنه الإمام الحسن (عليه السلام):
في هذا النصّ الشريف يوصي الإمام (عليه السلام) ابنه الإمام الحسن (عليه السلام) بأن يجعل من نفسه ميزانًا، فينظر أي الأشياء يحبّها لنفسه ويرتضيها لذاته، وأيّ الأشياء يكرهها ولا يحب أن يتّصف بها، فيجعل من ذلك ميزانًا، فالأشياء التي يحبّها لنفسه يجب أن يحبها للآخرين، والتي يكرهها لنفسه يجب يكرهها لإخوانه ومجتمعه، وهذا هو قمّة نكران الذات والتعالي على (الأنا)، يقدّمه لنا الإمام بأجلى صورة، ومن ثَمَّ فنحن مأمورون بأن نتخذ من هذه الوصية وهذا الخلق منارًا نهتدي به في حياتنا وسلوكنا.
ثالثًا: المحبة والألفة بين أبناء المجتمع:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِه مِنْ صَدْرِكَ)(3).
بهذه الوصايا النورانية يصبح المجتمع مجتمعًا معافىً سليمًا، خاليًا من: الحسد، الغيبة، الغرور، والتكبر… لأنّ الإنسان إذا كان طيب الخُلُق لين العريكة، هشّ بشّ، أثّر على من حوله من أبناء مجتمعه، وأصبح لهم عونًا على بلاواهم، أما القَطِب الغَضِب فلا يزيد نفسه ومجتمعه إلا إيذاءً وتعبًا.
وهنا قاعدة جميلة ولطيفة يقدّمها لنا الإمام (عليه السلام) لتجنب الشرور، بأنّه إذا كنّا نريد أن نقتلع الشر من صدور الغير، فأول خطوة هي أن نقتلع الشرّ الذي نحمله في نفوسنا تجاه الغير، ونقتلع ما نضمره من حقد أو غضب تجاه الناس، لأنّ ذلك سينعكس على تصرّفاتنا ولقاءاتنا بهم، ويسري إليهم دونما عناء، فيبادلونا الإحساس دونما شكّ.
وهي بعد هذا وذاك من أعظم القواعد في إرساء السلم والتعايش المجتمعي وبث روح الأخوة والألفة والمحبة بين الناس.
رابعًا: ترك ذكر معايب الناس:
قاعدة أخلاقية مجتمعية يقدّمها لنا الإمام (عليه السلام)، والحقّ أنّ هذه القاعدة ــ مع الأسف ــ أبعد ما تكون عنّا وعن حياتنا العملية، فترى أكثر الناس لا يعملون بها، وبعيدون كل البعد عنها، وهي قاعدة (ستر معايب الناس) وعدم فضح أسرارهم، حتّى وإن كانت ذنوبًا، لأننا مأمورون بالستر والعفاف، ويحذّرنا الإمام (عليه السلام) ويذكّرنا بالمقت الإلهي وبالعاقبة الوخيمة فيما لو سار الإنسان في هذا الطريق، فليس بعيدًا أبدًا أن يفضح الله سبحانه من يذكر الناس بسوء ويتتبع عوراتهم، يقول (عليه السلام):
إن مراجعة سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) وخطاباته وخصوصًا كتاب (نهج البلاغة) يكشف لنا عن كمٍّ هائل من الوصايا الأخلاقية ذات البعد الاجتماعي، التي لو أنزلناها إلى الواقع العملي لأصبحت مجتمعاتنا مجتمعات فاضلة كاملة، ولعشنا بسعادة ورخاء، ولكن ترك أغلب الناس هذه الوصايا النورانية وأصبح أكثر الناس يركضون وراء الماديات، وأهملوا هذه القواعد، التي هي بحق قواعد لبناء الشخصية والمجتمع الإنساني، ولسعادة الإنسان في الدارين.
خلق الله سبحانه وتعالى العباد، وأمرهم بطاعته، وجعل التفاضل والتمايز بينهم على أساس التقوى، ضاربًا بذلك كل الاعتبارات الأُخرى، من قومية، وعِرْق، ومال، وجنس، ولون، و…، فالتقوى وحدها هي المعيار في هذا المضمار.
فإذا كان الله سبحانه قد جعلنا (شعوبًا وقبائل)، فمن المؤكد أن يكون هناك اختلاف في الرؤى والأفكار، اختلاف في المشارب والأذواق، اختلاف في التفكير والتنظير، وهذا كلّه مقبول ومرضي مادام في إطار التنوّع والتعدّد، وهذا التنوّع وهذا التعدّد جميل، فالبشر يكمّل بعضهم بعضًا.
لكنّ الغريب في أنّ الانحراف الخطير الذي انزلقت فيه الأمة الإسلامية، وذهبت في مزالقه أيّما ذهاب، وانحدرت فيه إلى الحضيض هو (التكفير)، القديم الحديث.. فليس (التكفير) وليد اليوم، بل نشأ قبل مئات السنين، لا لشيء سوى الاختلاف في الفكر والرأي!!
فنجد كتب التاريخ قد امتلأت بالجرائم وانتهاك الحرمات التي لا حصر لها، حيث ابتدأت بعد رحلة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، واستمرت ولازالت حتّى يومنا هذا، فالفكر هو نفس الفكر، والقلوب نفس القلوب، وإن تبدّلت الأسماء من خوارج، أو تكفيرية أو وهابية أو داعشية أو..
هؤلاء استرخصوا الدم، وهتكوا حرمة الإسلام والمسلمين، وأهلكوا الحرث والنسل، ضاربين بالقرآن وآياته المحكمات عرض الجدار (وَجَعَلْناكم شُعوباً وَقَبائلَ لِتعارَفوا) لا لتتقاتلوا، أو تتناحروا، أو…
فالتعدّد والتنوّع نعمة إن أحسن الإنسان استثمارها، وهو بعد يثري الفكر والعقل، ويمدّ الحياة بألوان ويبعدها عن صبغة اللون الواحد. إنّها إرادة الله سبحانه، وبديع خلقته بأن خلقنا على هذه الشاكلة، وأمرنا بالتعارف والتوادد والتواصل، ليسير إليه سبحانه ركب الإنسانية، مطيتهم في ذلك التقوى، وزادهم الإحسان.
الضمان الاجتماعي عند أمير المؤمنين (عليه السلام):
من روائع ما سجّله لنا التاريخ عن سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه (مر شيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين نصراني، فقال (عليه السلام):
استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!! انفقوا عليه من بيت المال)(5).
سبحان الله، لو لاحظنا تعبير الإمام (عليه السلام) (ما هذا)، لدّلنا هذا التعبير على شدّة امتعاض الإمام وغضبه من تلك الصورة التي رأى بها ذلك الشيخ النصراني. وما كان من الإمام (عليه السلام) إلا أن أمر بأن يخصّصوا له راتباً تقاعدياً ثابتاً من بيت مال المسلمين، لكي يصون كرامة ذلك الشيخ النصراني. لم ينظر(عليه السلام) ـ هنا ـ إلى دين ذلك الرجل، أو معتقده، أو مذهبه، أو… بل نظر إلى إنسانيته، فهو إنسان يعيش في دولة الإسلام، يحق له أن تصان كرامته وتحفظ حرمته وهو في آخر أيامه.
وهنا نسأل التاريخ قائلين: أيمكنك ولو استجمعت كلّ قواك أن تأتينا بموقف نبيل مشرق كهذا؟؟
هل يمكنك أن تأتينا بحاكم دولة يجلس مخالفوه تحت منبره، وهو يضمن معيشتهم طالما سَلِم المسلمون من شرّهم..؟؟
هل يمكنك أن تأتينا بحاكم دولة يواسي فقراء دولته بأن يلبس مثلما يلبسون، ويأكل مثلما يأكلون!!؟؟
بعد مرور أربعة عشر قرنا من الزمن يقر الغرب المسيحي بعظمة أمير المؤمنين (عليه السلام) وبإنسانية نهجه القويم، في الوقت الذي لازال بعض من يدعون الاسلام يقتلون عليًا كل يوم من خلال قتل شيعته واتباعه ويرتكبون أبشع الجرائم بحقهم. فقد قامت الأمم المتحدة بإصدار تقرير باللغة الإنجليزية من ستين صفحة، أعده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الخاص بحقوق الإنسان وتحسين البيئة والمعيشة والتعليم، حيث تم فيه اتخاذ الإمام عليّ (عليه السلام) من قِبَل المجتمع الدولي شخصيةً متميزة، ومثلًا أعلى في إشاعة العدالة، والرأي الآخر، واحترام حقوق الناس جميعًا مسلمين وغير مسلمين، وتطوير المعرفة والعلوم، وتأسيس الدولة على أسس التسامح والخير والتعددية، وعدم خنق الحريات العامة.
وقد تضمن التقرير مقتطفات من وصايا أمير المؤمنين (عليه السلام) الموجودة في نهج البلاغة، التي يوصي بها عماله، وقادة جنده، حيث يذكر التقرير أنَّ هذه الوصايا الرائعة تعد مفخرة لنشر العدالة، وتطوير المعرفة، واحترام حقوق الإنسان.
والملاحظ أنَّ التقرير المذكور قد وزع على جميع دول الأمم المتحدة، حيث اشتمل على منهجية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في السياسة والحكم، وإدارة البلاد، والمشورة بين الحاكم والمحكوم، ومحاربة الفساد الإداري والمالي، وتحقيق مصالح الناس، وعدم الاعتداء على حقوقهم المشروعة.
وتضمن التقرير الدولي أيضًا شروط الإمام عليّ (عليه السلام) للحاكم الصالح، التي وردت في نهج البلاغة، وفيها يقول (عليه السلام):
أين نحن اليوم من ثقافة التعايش مع هذا الرصيد الهائل؟
أين من يدّعي الإسلام اليوم من هذه الأخلاق والسجايا الحميدة..! ونحن نرى الهمج الرعاع الذين يهلكون الحرث والنسل باسم الإسلام والشريعة..
أين نحن اليوم من الوسطية والاعتدال فيمن نختلف معه؟
إنّها دعوة للرجوع إلى منهل الإسلام العذب ومشربه الروي، تلك العين الصافية التي لم ولن يخالطها الكدر.. نبعُ عليٍّ صلوات الله عليه وسيرته العطرة.
تلك السيرة التي يمكننا أن نحملها للعالم أجمع، ونباهي بها العالم أجمع، ونصدح بأعلى أصواتنا.. بأنّ هذه السيرة هي سيرة إسلامنا العزيز، ذلك الدين القيّم الذي أراده الله سبحانه أن يكون خاتمة الأديان والشرائع.