لا يخفى على ذوي الآراء الثاقبة وأولي الأفكار الصائبة ذلك الحدث العظيم الذي هزَّ عروش الظالمين، والنهضة الحسينية التي مازال صداها يرن في سمع الزمن، فإنها أعظم درس يوضح للبشرية عظمة الإمام الحسين بن علي(عليه السلام) ومكانته القديرة عند الله سبحانه وتعالى وما جرى له في كربلاء أرض الدماء والتضحيات، إنما هو حكمة إلهية تعلمنا العبر والدروس والأخلاقية، وتعبّر عن مواعظ اجتماعية ونفسية كبيرة مؤكداً أهمية الاستفادة من هذه الدروس والمواعظ عبر جوانب حياة دنيوية لنيل الرضوان في الآخرة، وليتسنى لنا بلوغ الكمال والجمال من السلوك والسير إلى الله تبارك وتعالى.
إنَّ للعطاء الحسيني أثراً واضحاً في تربية الملكات وترقيق الشعور والإحساس وتعظيم فائدته في كل صقع وناد. وقد أقيمت المجالس الحسينية تيمناً وتبركاً باستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) في العاشر من المحرم الحرام سنة 61 للهجرة المصادف لسنة 680 ميلادية (1).
لعلَّ من الأهمية بمكان نقول: إن تاريخ إقامة التعزية في مصاب الإمام الحسين (عليه السلام)
قديم، قد ينسبه المؤرخون والرواة إلى زمن يعود إلى قبل حادثة استشهاده في واقعة الطف، حيث يروى أن النبي(صلى الله عليه وآله) والإمام علي(عليه السلام) قد أقاما مجلس التعزية على الإمام الحسين(عليه السلام) قبل استشهاده بعشرات السنين(2).
وقد ذكر المؤرخون وأرباب المقاتل أن أول مأتم أقيم على الإمام الحسين (عليه السلام) جرى في قصر الإمارة بالكوفة بحضور عبيد الله بن زياد حينما خطب الإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام) خطبته العصماء، فأبكى الحاضرين جميعاً وهو ينعى أباه(3)، ثم توالت المناحات على أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) ومن بينها ما حدث في دار يزيد بن معاوية في الشام.
يقول الطبري في تاريخه: (فخرجن ـ أي السبايا ـ حتى دخلن دار يزيد، فلم تبق من آل معاوية امرأة إلا استقبلتهن تبكي وتنوح على الحسين(عليه السلام) فأقاموا عليه المناحة ثلاثاً(4). وأقيم مأتم للحسين(عليه السلام) في المدينة المنورة وذلك حينما قفل ركب السبايا راجعاً إلى المدينة، وقف الحاضرون عند بابها وطلبوا من الناعي نعي الحسين(عليه السلام) قبل دخولهم، كما روى بشر بن حذلم قائلاً: (ولما قربنا من المدينة حط علي بن الحسين(عليه السلام) رحله، وضرب فسطاطه، وأنزل نساءه، وقال: يا بشر رحمه الله أباك لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيء منه؟ قال: بلى يا ابن رسول الله، فقال(عليه السلام): أدخل وانعَ أبا عبد الله. قال بشر: فركبت فرسي وركضت حتى دخلت المدينة فلما بلغت مسجد النبي(صلى الله عليه وآله)، رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت أقول:
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها
قتل الحسين فأدمعي مدرار
الجسـم منه بكربلاء مضـرج
والرأس منه على القناة يدار
فلم تبق في المدينة مخدرة ولا محجبة إلا وبرزن من خدورهن وهنّ بين باكية ونائحة ولاطمة(5). ثم أقام التوابون مجالس العزاء عند قبر الحسين(عليه السلام) ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين(عليه السلام) فلما وصلوا صاحوا صيحة عند قبر الحسين(عليه السلام)
فما رئي أكثر باكياً من ذلك اليوم، فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه، وترك القتال معه، وأقاموا عنده يوم وليلة يبكون ويتضرعون ويترحمون عليه وعلى أصحابه(6).
ويقول ابن أعثم تعقيباً على ذلك: أن ما قاموا به التوابون من العزاء عملياً فهؤلاء عندما عزموا على حرب الشام في مستهل سنة 65هـ فإنهم جاءوا إلى كربلاء واجتمعوا حول قبر الإمام الحسين(عليه السلام) وبدءوا بالعويل والبكاء ثم ودعوا القبر واحداً بعد الآخر وتوجهوا إلى حيث أرادوا(7).
وممن جعل اليوم العاشر من المحرم الحرام يوم حزن لذكرى موقعة كربلاء بصفة رسمية هو معز الدولة البويهي(8) وذلك في سنة 352هـ حيث أمر معز الدولة الناس أن يحتفلوا بيوم عاشوراء وهو أكبر تجمع للشيعة، وأن يظهروا الحزن فأغلقت الأسواق وعطل البيع والشراء ولم يذبح الهراسون ولا ترك الناس أن يستقوا الماء ونصبت القباب في الأسواق وعلقت عليها المسوح وخرجت النساء منشّرات الشعور مسودات الوجوه وقد شققن ثيابهن يدرن في البلد وينحن، ويلطمن وجوههن على الحسين(رضي الله عنه)
وفي هذا اليوم كان يزار قبر الحسين بكربلاء(9). ويصف البيروني ما كان يظهره الشيعة من حزن في يوم عاشوراء بقوله: (ولذلك كره فيه العامة تجديد الأواني والثياب(10) ثم اتسع نطاق هذه المآتم من جذورها في العراق حتى شملت مصر على عهد الفاطميين وإيران على عهد الصفويين وسوريا والموصل ولبنان على عهد الحمدانيين والمغرب الأفريقي على عهد العلويين والأدريسيين والهند على عهد كثير من رجالات الشيعة وملوكهم(11).
وكانت المناحات تتعالى في أزقة الكوفة وبيوتاتها. وينقل لنا المقريزي أن شعائر الحسين الحزن يوم العاشر من المحرم كان أيام الأخشيديين وكافور واتسع نطاقه في أيام الفاطميين(12).
أما السيد هبة الدين الحسيني الشهير بالشهرستاني فيتحدث لنا عن مأساة الفاجعة الحسينية وصداها في العالم الإسلامي، والاحتفال بمراسيم تأبينه فيقول: وامتدت جاذبية الحسين(عليه السلام) وصحبه حضيرة الحائر إلى تخوم الهند وأعماق العجم وما وراء الترك والديلم وإلى أقصى مصر والجزيرة والمغرب العربي يرددون ذكرى فاجعته بممر الساعات والأيام ويقيمون مأتمه في رثائه ومواكب عزائه ويجدون في إحياء قضيته من عامة الأيام ويمثلون واقعته في ممر الأعوام(13)
وينقل لنا يوسف غنيمة وصفاً مسهباً لهذه الشعائر التي تمثل أدوارها معظم الشعوب فيقول: (هذه هي النكبة المفجعة التي نزلت بأهل البيت(عليهم السلام) في سهل كربلاء فيردد صدى ألمها خمسون مليون شيعي مبثوثون في العراق والعجم والهند وكره قاف وجبل عامل وغيرها من بلاد الله، وهذه هي المأساة التاريخية التي يمثلون أدوارها في كل عاشوراء ويشخصون وقائعها بقلوب دامية وعيون دامعة فيذكرون كربلاء مصرع شهدائها فإن فيها مدافن الإمام الحسين والعباس أبي الفضل(عليه السلام) وجماعة من أصحابهما قيام أهل التقى تلك المشاهد من مشارق الأرض ومغاربها ويزورونها اقتداء بجابر بن عبد الله الأنصاري الذي زار قبر الحسين(عليه السلام) بعد أربعين يوماً من مقتله ويطوفون يوم عاشوراء في شوارع كربلاء ومساجدها ممثلين أدوار تلك النكبة يشترك معهم الآلاف من القوم فيلطمون الخدود ويقرعون الصدور ويضربون أنفسهم ضرباً موجعاً، وكان بنو بويه أول من أحدث مثل هذه المنايح والمنادب في عاشوراء في فجر القرن الرابع الهجري (14).
ألمٌ قاتل بكاء يمزق القلوب، أي ألم أكثر من هذا الألم! وأي حزن أعظم من هذا الحزن؟ لابد لك أن تقف مندهشاً أمام هذه المشاهد وهذه التقاليد والأعراف، حاجات مكبوتة يستطيع كل فرد أن يحقق ذاته من خلالها، بجذبك النياح وتسحرك عذوبة الإيقاع ونقاوة الصوت وهي تمجد بالحسين وأهل بيته(عليهم السلام)،
هؤلاء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فهم أقمار مضيئة للعالم بأسره ظهروا في مواقف أذهلت كل إنسان..
يقول بروكلمان: (لا يزال ضريح الحسين في كربلاء أقدس محجة عند الشيعة)(15).
وعبر العديد من غير المسلمين عن آرائهم في التعزية الحسينية وأثرها في النفوس، فهذا رونالدسن يقول:
فأضحت أرض كربلاء عند طائفة كبيرة من المسلمين كان ولاؤهم دوماً لبيت محمد وهو يحيون ذكرى مقتله كل عام بمواكبهم العزائية في محرم فيعيدون تمثيل الحوادث الدامية التي جرت في كربلاء جميعها.
ثم يقول: وبعد أن تمت هذه العملية أقيمت القراءة الحسينية (روضة خواني) وأعيد ذكرى مأساة كربلاء ودار السدنة حول القبر يضربون أكتافهم المكشوفة بالسلاسل التي علقت بها المسامير أو السكاكين الصغيرة وقد كشفوا القسم الأعلى من أجسادهم حتى السرّة وينادون (حسين حسين) باسم سيد الشهداء والشفيع لهم يوم القيامة(16).
ووصفت الكاتبة الإنكليزية (فرايا ستارك) أيام عاشوراء بقولها: (أن الشيعة في جميع أنحاء العالم الإسلامي يحيون ذكرى الحسين ومقتله ويعلنون الحداد عليه في عشرة محرم الأولى كلها حتى يصل بهم مدّ الأحزان البطيء الذي يستولي على أنفسهم إلى أوجه بمواكب العزاء التي تخرج في اليوم الأخير، حاملة النعش بجثته المذبوحة، ثم قالت: (إن هذه المواكب التي تقام في بغداد والمدن المقدسة يعرف مجيئها من بعيد، بصوت اللطم على الصدور العارية)(17).
وينقل لنا (جون أشر) الانجليزي بعد سرد مجزرة كربلاء قوله: إن الشيعة من المسلمين في العالم يقيمون في كل سنة مراسيم العزاء الأليمة تخليداً لبطولة الحسين واستشهاده فينسون أرواحهم فيها من شدة ما ينتابهم من الحزن والأسى(18). لقد أصبح مستهل العام الهجري كل عام مدرسة يتلقى فيها الفرد دروسًا ثمينة، ويستفيد منها الناشئة حكمة بالغة تفجرت من أطهر ينبوع مخضب بالدم، ويستلهم القراء منه العظة والعبرة، وهكذا نجد الحق مع القوة في مقاتل شهداء كربلاء الذين برهنوا على انتصار الدم الزكي على السيف الظالم، وأصبح أول يوم من العام الهجري رمز الخلود والبقاء، يذكرنا بأهمية الشعائر الحسينية،وعظمة الشهيد وصحبه المسلمين لآل البيت(عليهم السلام).
ولعلنا لم نأت بجديد حينما نقول أن التعزية لم تقتصر على طائفة الشيعة فحسب، بل تشاركها طوائف متعددة، وقد رأينا أن طائفة الشبك في شمال العراق مثلاً هي الأخرى تشارك المآتم والمناحات في العشرة الأولى من محرم الحرام، فيبكي أفرادها وينوحون ويلطمون، ولهم في ذلك أهازيج خاصة(19). وليس من المستبعد أن تتحد الطائفة السنية مع طائفة الشيعة في إحياء التعزية بذكرى الإمام الحسين(عليه السلام) لاسيما في مواكب العزاء والرثاء، فقد أشار إلى ذلك الدكتور علي الوردي بقوله: (وربما جاز القول بأن التعايش السلمي في منطقة ديالى بين الطائفتين غير قليل وليس في النادر أن نرى محلة سنية تشارك محلة شيعية في بعض مواكبها ومجالسها الحسينية، وقد تشارك أيضاً في تقديس مراقدها وأئمتها(20).
فما أن كان فجر العام الهجري يطلع على العالم، حتى شمل الحزن العميق كافة الطبقات الشيعية، وهم يتأهبون لإقامة مراسيم العزاء والرثاء الحسيني والاحتفالات بذكرى شهيد الحق والمبدأ الإمام الحسين(عليه السلام) حتى توشحت كل المواكب والهيئات ومعظم الدور بالسواد لاسيما في مدينة سبط الرسول الأعظم، ولعل كثر المواكب وتضاعفها يقضي باختلال النظام، لكن رغم ذلك كله كان النظام والأمن سائدين. ولا يخفى أن السهر الطويل والجد والمثابرة والصرف الباذخ هي أهم المتطلبات التي تلعب دوراً بارزاً في إنجاح عملية هذه المراسيم.
وقد اعتاد الشيعة على تخصيص كل يوم من أيام المحرم لأحد هؤلاء الأبطال من بني هاشم الذي ضحوا بدمائهم وأنفسهم في هذه الفاجعة، فيخصص يوم لمسلم بن عقيل، ويخصص يوم للقاسم، ويوم للعباس، ويوم لعلي الأكبر، يوم للطفل الرضيع وهكذا.
يتقدم كل تلك المواكب لافتات كتبت عليها عبارات حزينة تصور الواقعة أو أبيات شعر في الرثاء الحسيني وغير ذلك، ويبدو على جميع الأفراد حالة من الحزن، وقد ارتدوا ملابس العزاء السود يدورون في أزقة المدينة وأسواقها ثم ينتهي بهم الموكب في أحد الأضرحة أو الأماكن المقدسة لدى الشيعة، حيث يتجمهر أفراد الموكب هناك ويرتقي المنبر رادود حسيني يقرأ لهم أشعاراً حسينية. وهناك مراسيم أخرى تقام في أماكن مختلفة في المساجد وفي البيوت وفي القيساريات حيث يجلس الحضور على الفرش واتخذ خطيب مقعده على المنبر ثم يبدأ الخطيب بذكر التعزية على الحسين(عليه السلام) ويتحدث تفصيل ما جرى عليه من القتل والسبي لإبكاء الحضور.
تستمر هذه التعازي وذكر المصائب باهتمام بالغ من قبل الرجال والنساء كل عام ابتداء من أول يوم من محرم إلى أن ينتهي اليوم الثالث عشر منه.
وقد شغلت هذه القضية الحزينة أذهان الناس في العالم الإسلامي، ولم يمح أثر هذه الواقعة الأليمة الحزينة تمادي القرون الكثيرة التي ملئت بالفواجع والمصائب، ولم تخفف ذلك الإحساس والتأثر من محبي الإمام الحسين(عليه السلام) وأهل بيته، فهم دائماً يتحدثون عن فضائل أهل البيت(عليهم السلام) ويحثون الناس على السير في درب الحسين(عليه السلام) لمواجهة الظلم وتحدي الظالمين. وكان الخطباء يرشدون الناس إلى ما فيه الصلاح والإصلاح، حيث مجالسهم المعروفة التي تعقد في أغلب البيوت الشيعية التي كانت تقيم المجالس والمآتم على العترة الطاهرة طيلة أيام السنة إضافة إلى موسمي عاشوراء ورمضان، كما هو الحال في المواكب الحسينية التي توسعت حول القضية فضلاً عن آلاف القصائد التي فاضت بها قرائح الشعراء ومن مختلف الأديان، فإمامنا الحسين(عليه السلام) غدا رمزاً للإنسانية ونبراساً للأحرار في كل زمان ومكان .
نشرت في العدد 60
1) محمد باقر المجلسي ـ بحار الأنوار ج44 ص382.
2) يراجع :حياة الإمام الحسين(عليه السلام) باقر شريف القرشي ج1 ص97.
3) ابن طاووس، علي بن موسى ـ اللهوف في قتلى الطفوف ص92.
4) الطبري ـ تاريخ الطبري ج5 ص462.
5) الحلي، ابن نما ـ مثير الأحزان ج90ـ 91.
6) ابن الأثير ـ الكامل في التاريخ ج4 ص178.
7) ابن أعثم ـ الفتوح ج6 ص89.
8) مغنية، محمد جواد ـ الشيعة في الميزان ص163.
9) ابن الجوزي ـ المنتظم ص93.
10) البيروني ـ الآثار الباقية ص329.
11)الشهرستاني، صالح ـ تاريخ النياحة على الإمام الشهيد الحسين بن علي ج2 ص45.
12)المقريزي ـ الخطط المقريزية ج5 ص250.
13) الحسيني، هبة الدين الشهرستاني ـ نهضة الحسين ص135.
14) يوسف غنيمة ـ مجلة المقتطف ج1 مج55 (تموز 1919م/ 3شوال 1377هـ) ص17.
15) كارل بروكلمان ـ تاريخ الشعوب
الإسلامية ص28.
16) دوايت. م رونالدسن ـ عقيدة الشيعة ص108 و112 .
17) جعفر الخليلي ـ موسوعة العتبات المقدسة ـ قسم كربلاء ج1 ص280 .
18) المصدر السابق ص279 .
19) أحمد حامد الصراف ـ الشبك ص99
20) د. علي الوردي ـ دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ص236