تاريخ كل أمة من الأمم هو بمثابة الروح التي تمد أبناءها بالحياة في حاضرهم ومستقبلهم. وإن دراسة التاريخ لهذه الأمة أو تلك ضرورة ملحة لمعرفة السبل التي سلكها الأسلاف والاستفادة منها في تصحيح المسارات الماضية إن كانت سيئة وتحاشي ارتكاب ذات الأخطاء التي ارتكبها الماضون، وتطويرها والتمسك بها إن كانت حسنة ورسم خطوط لسير تلك الأمة لمستقبل أجيالها.
وخلال تلك الدراسة يصطدم الباحث بحقائق تاريخية سلبية بل جرائم تاريخية، تجعله في حيرة من أمره، هل يغض الطرف عنها ويتجاهلها إرضاءً لفئة من الناس لازالوا متمسكين بمرتكبيها كقدوات يقتدى بهم؟ وبذلك تبطل الجدوى من دراسة التاريخ لمعرفة أخطاء الأسلاف وتحاشي السير على خطاهم، بل وتصحيح المسارات لنهوض الأمة في مستقبلها. أم يقتحم تلك الحقائق دراسة وتمحيصاً مهما كلف الأمر، لأن حاضر الأمة ومستقبلها متوقف على معرفة تلك الحقائق والاستفادة منها؟
ومن الحقائق التاريخية للباحث الإسلامي هي الوقائع والأحداث التي حصلت بعد رحيل نبي هذه الأمة (صلى الله عليه وآله)، وباكورة تلك الأحداث هي ظلامة الزهراء سلام الله عليها، وبناءً عليه سنتناول هذه المسألة عبر نقطتين:
الأولى:
قراءة سريعة لأشكال الخطاب العام المتناول لمفردات التأريخ الإسلامي بعد رحيل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).
الثانية:
ظلامة السيدة الزهراء (عليها السلام) والقراءة المناسبة لها.
بيان النقطة الأولى:
إذا قمنا بجولة خاطفة للتعرف على أشكال الخطاب ومناهج التعاطي مع أحداث التاريخ وخصوصاً بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله) فإننا سنشاهد في الفضاء العام الأنماط التالية:
1ـ الخطاب التذويبي والمنهج الإقصائي لكل مفاصل الحدث التاريخي والتركيز على بناء الحياة وفق النظم المعاصرة والآليات الحالية فقط وفقط، وذلك لأن التاريخ الذي ورثناه لم نجنِ منه إلّا الصراعات ولم يترتب عليه إلّا النزاعات، وأمامنا واقع المسلمين المتقهقر وحاضرهم المتخلف المتدهور، والحل هو قطع الصلة مع الماضي والتحرر من ربقته وتبعاته، وتركيز النظر على الحاضر والمستقبل، ومن ثم يحصل التقدم والتطور.
2ـ الخطاب التقريبي والمنهج الانتقائي لمفردات الحدث التاريخي: وهذا المنهج لا يتقاطع مع التاريخ ويشعر بضرورة التواصل معه ولكن ضمن منهج انتقائي مبني على البيان الثاني:
إن التاريخ الإسلامي أرشيف عظيم وكتاب كبير يشتمل على أحداث وتحركات أسست لما بعدها من نظم وبناءات ثقافية واجتماعية وأخلاقية وفكرية، وهو في الوقت الذي يحتوي على الأحداث المؤثرة في بناء الكيان الإسلامي العام وتقوية شوكة المسلمين، يحتوي أيضاً على الأحداث المثيرة للجدل والفرقة وإضعاف الكيان الإسلامي الكبير، وهنا لابد من التركيز على الأول وحذف النمط الثاني، وإن كان فيه ظلامات وتضييع لحقوق الناس وتغييب جملة من المبادئ الهامة، فالشيء المركزي هو توحيد صفوف المسلمين وتقوية اجتماعهم العام وإن استلزم تقديم صورة ناقصة عن منظومة الدين المتكاملة.
3ـ الخطاب التفعيلي الصارخ والمنهج المثير لكل مفاصل الحدث التاريخي وبأشد الأساليب وأحرجها من دون أي مجاملة وعناية لحفظ الواقع الإسلامي العام والكيان الديني الكبير، بل الشيء المركزي هو حفظ الحقيقة وتحديد جهة الحق ورموزها وضبط جهة الباطل ورؤوسها وتسقيطها باللسان الفصيح الصريح الفاقد لخلقيات التحاور وآداب الخطاب والمناظرة المتعارفة في الوسط الديني والإنساني العام.
4ـ الخطاب التفعيلي والمنهج المثير لمفاصل الحدث التاريخي في الفضاء العام مع رعاية العقلانية والأدب في الحوار، وذلك لأن التاريخ كما سبق أرشيف عظيم يحدد مسارات الأمة وتوجهها ومسؤول عن تراجعها وتقدمها، وهذا الأمر ليس حكراً على التاريخ، بل أغلب ظواهر الحياة العلمية والسلوكية هي عبارة عن جهود متراكمة البدايات منها تؤسس للتوالي والنهايات، وهذه الواقعية مُسلَّمة إنسانيًا، حيث نجد الدول المعاصرة والشعوب المتحضرة ـ ضمن معايير اليوم ـ تعتز بتاريخها وتهتم بأرشفة أحداثها وتركيز أصالتها وانتماءاتها السابقة، وفي الوقت ذاته تُقيِّم ما حصل وتُدرِّس ما وقع لضمان عدم الوقوع في التراجع والتخلف.
وكذا نشاهد القرآن الكريم وهو آخر الكتب السماوية يركز على أحداث شخصية وأممية لها تأثيرها السلبي أو الإيجابي في الأمم اللاحقة، وما على المتلقي لذلك الحدث إلّا الاعتبار والتأمل ليجتنب المساوئ والرذائل ويكتسب المحاسن والفضائل، وبعبارة أخرى فإن التاريخ في نظر المنهج عبارة عن وعاء فيه المنقذ المصلح، وفيه المفسد، فيه المرض، وفيه العلاج والمعالج، ومن ثم لا يقبل تعتيماً ولا تغييباً لأحداثه، وأي محاولة من هذا القبيل هي عبارة عن دفن الانحرافات وتركيز الأمراض، وتسوية بين المخلص والمنقذ وغيره.
وستبقى الأمة في دوامة التراجع والضلال، هذا كله من زاوية المضمون والمادة التاريخية التي يراد عرضها، وأما زاوية العرض والأسلوب والأداء لذلك المضمون في الفضاءات العامة، فإنه يراعي عدة توازنات زمانية ومكانية والآداب المتعلقة بالمناظرات والاحترامات الضرورية مع تركيز منطق العقل والبرهان والدليل والمنهجية العلمية والمشاركة في المحافل الرسمية والمراكز العلمية مع تيسر الفرص وإحراز المنفعة.
وهنا يأتي التساؤل عن ميزة هذا المنهج عن بقية المناهج؟
الميزة لهذا المنهج في ضمانه للأبعاد التالية:
أ ـ الحفاظ على الحق وإبقاء الحقيقة حية من خلال التركيز على كل أحداث التاريخ وضبط الأحداث المؤثرة في مسار الأمة. ب ـ الحفاظ على الاجتماع الإسلامي وتأليف القلوب وجذب العقول بالحوار العقلائي والأسلوب العلمي الممنهج. ج ـ الحفاظ على الجماعة المؤمنة وتحصينها الفكري والأمني، وعدم تعريضها للمشاكل والملابسات المعقدة المتعارفة التي ترتبت على الأسلوب الثالث.
إن قيل إن هذا كله لا يقلع جذور الاختلاف فيبقى هناك فرقة نسبية وتشرذم ما، وبالتالي لا يكون هذا الأسلوب هو الأمثل؟
نعم لا ينكر بقاء هذا المقدار، والمسؤول عنه مَنْ فرَّق الأمة وحرَّف الحق عنه أهله، وليس أهل الحق والمبدأ.
في بداية تشكيل تاريخنا الإسلامي بُعيد وفاته (صلى الله عليه وآله) حصلت العديد من الأحداث ووقعت جملة من القضايا المختلفة التي ترتبط بواقع الأمة وتمس مصيرها ودينها وثقافتها وغير ذلك، ولكن هذه الأحداث لم تك بمستوى واحد من الأهمية والمنزلة، بل بعضها يحتل موقع الصدارة ويشغل الواجهة كلها، وآخر أنزل منه وأبعد عن تلك الموقعية،
ومن أهم الأحداث التي أخذت موقع الصدارة هو ما جرى بُعيد وفاته (صلى الله عليه وآله)، بل قبل أن يدفن في ملحودة قبره (صلى الله عليه وآله) من تصدي جملة من القوم لترتيب أوراق السلطة والزعامة وتغيير مسار الأمة وحرفه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو المرجع الحقيقي والحصري بحسب منطق العقل والنقل إلى شخصيات أخرى ومرجعيات بديلة معروف تاريخها وحجمها العلمي والخلقي.
وهنا لابد من وقفة لنتأمل أكثر في حجم هذا الحدث لأنه حدث عظيم وكبير بكل ما للكلمة من معنى، حيث سيتحدد به مصير الأمة دينياً وخلقياً وثقافياً وكيانياً، وبعبارة أخرى إن مشروع النبي (صلى الله عليه وآله) ورسالته الخاتمة الخالدة ستكون بيد من يأتي بعده (صلى الله عليه وآله)، فإن كان أهلاً بقي المشروع، وإن لم يكن فالمشروع يتحطم والانقلاب يحصل، وتبدأ الأمة بالعودة إلى تأريخها الجاهلي ومنطق الغاب الذي أخرجها منه (صلى الله عليه وآله)، ولكن هذه المرة بلباس الإسلام.
والذي حصل وياليته لم يحصل هو الانقلاب على الأعقاب، كما أخبر القرآن بذلك فيما سبق (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)(آل عمران:144)، ثم استلاب السلطة من أبي الحسن (عليه السلام)، وجرها قسراً إلى غيره باستخدام منطق القوة والتحايل والغدر، ومن ثم تصدروا الزعامة وجلسوا مجلس النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) والناس بدأت تلتف حولهم بمنطلقات مختلفة، المهم الآن ما هي الخطوة اللاحقة بعد ملاحظة التالي:
أ ـ الدين والإيمان لابد أن يُحفظا ويُخلدا.
ب ـ الخلافة والزعامة لن تعود لأمير المؤمنين (صلى الله عليه وآله) إلا بمنطق القوة، وهذا الخيار غير منطقي لأسباب متعددة، وهو (عليه السلام) موصى أيضاً بعدم اختياره.
وبالتالي يعود السؤال من جديد ويتركز: من الذي يضمن حفظ الدين ويبقي الإيمان مستمراً وينقذ الموقف إنقاذاً نسبياً بحيث يلقي الحجة على الجميع في زمان الحدث وبعده إلى يومنا هذا بل ما دامت الدنيا، وإلّا ما قيمة الحركة والموقف المؤقت من أجل مشروع دائم؟! وهنا يظهر المنقذ والمخلص، ولكنه من صنف النساء، سيدة معصومة وابنة سيد الكائنات (صلى الله عليه وآله) تتصدر المواجهة وتعلن الحركة المضادة لكشف أوراق القوم وتنبيه الجميع وإيقاظ الكل حول خطورة ما حصل، وذلك عبر منطق التضحية والمظلومية والفداء الذي يتجاوز وقعه حدود الزمان والمكان، وبه يبقى المشروع ويدوم الحق، وتقام الحجة على الكل.
فما جرى لها سلام الله عليها بعد المعارضة يعجز الإنسان عن تصوره، فمن جهة: هي سيدة نساء العالمين، وبرضاها يستكشف رضا الله تعالى، وبغضبها نعرف غضبه، ولم تستخدم غير منطق القرآن والسنة والفطرة، ومن جهة أخرى أن من خرجت ضده كان بيده العباد والبلاد، وهو المسؤول عن حقوق أقل الناس، فكيف بأعظم إنسانة وأشرف كائن في عصره، فكيف كان الرد، وكيف تمت المقابلة، قوبلت بما هو معروف من غصب فدك، والمنع من البكاء على أبيها سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله)، والهجوم على الدار والإحراق أو التهديد به، وإسقاط الجنين وكسر الضلع، والتكذيب والتشديد عليها، والقائمة تطول، إلى أن أوصت أن تشيع وتدفن سراً ويخفى قبرها، لكي يبقى السؤال والاستفهام عن تلك الظلامة وأسبابها،
وعندما يأتي الجواب ستتميز المرجعية الحقة من المرجعية المزيفة، وبه يعرف الإسلام الحقيقي عن الإسلام الظاهري، الذي أسس لكل الحركات المنحرفة التي تتجدد يوماً بعد يوم وبمسميات مختلفة، إلى يوم الناس هذا وما هي إلّا وليدٌ لذلك الانحراف.
وعموماً ظلامة السيدة الزهراء (عليها السلام) لا يبرزها إلّا الشكل الرابع من الخطاب، فلابد من تفعيلها في الفضاء العام بمنطق البرهان والفطرة والقرآن والسنة لأن بأحيائها إحياء للإسلام والإيمان، وبإماتة قضيتها إماتة الدين والإيمان، فظلامتها تنبه العقول وتكسر القلوب وتجذبها نحو الحق.
وإن قال قائل إن بقيتم مصرين على ذلك، فإنكم حفظتم الحق بإحياء ذكرها وظلامتها (عليها السلام)، ولكنكم ضيعتم التعايش ووحدة المسلمين وكيانهم، وهو من ثوابت الدين وأسس الشرع المبين؟؟
وهذا الكلام صحيح من جهة وباطل من أخرى، فالوحدة المطلوبة لا تعني الاتفاق على الباطل والإعراض عن المنقذ والمخلص والمصلح، بل هي تعني الوحدة بمستوى التعايش والمجاملات الاجتماعية والأدب في طرح القضية واختيار الأسلوب المؤثر لا المنفر في تبني الحدث وتسويقه، وإن داهم الإسلام خطر فلابد من توحيد الصف والوقفة مع كل المسلمين.
وأتباع فاطمة (عليها السلام) من يومهم الأول إلى يومنا هذا كخط عام ما وقفوا ضد الإسلام ولم يسفكوا الدم الحرام بمسميات الدين والشرع، رغم تعرضهم لأبشع جرائم القتل والتنكيل، بل واستهداف مقدساتهم وتفجيرها من قبل متبني خط السقيفة.
وحسبكم هذا التفاوت بيننا وكل إناء بالذي فيه ينضح
وإن قال قائل: لم لا يبقى الأمر في دائرة المتخصصين والعلماء حتى نجنب الأمة سوء الفهم وتداعيات النتائج المختلفة؟؟!
وجواب ذلك: إن القضية قضية دين يراد له الخلود، وإيمان يراد له الانتشار، ومطلوب من كل المسلمين أن يتبنوا موقفاً قلبياً وفكرياً وسلوكياً مما حصل، والحياد لا يُقبل، لأن كلاً من الفريقين يقدم منظومة مختلفة عن الأخرى، وعلى ضوئها يتم بناء الحياة الدنيا والآخرة، ليست القضية تخصصية قابلة للتضييق والحبس والتأجيل، فإما هداية وإما ضلالة، وإما ثبات وإما انقلاب على الأعقاب.
وقضية السيدة الزهراء (عليها السلام) وتركيز ظلامتها تتكفل بذلك وتتعهد بتخليد وتحديد المرجعية الحقيقية التي بها يحفظ كيان الإسلام، ويقوى صرح الإيمان، وبتفعيل ظلامتها تنتبه العقول وتنشد القلوب صوب أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين (عليهم السلام)، ومن ثم تخرج الأمة عن الانحراف والتيه الذي حل بها.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من محبي فاطمة (عليها السلام) والثابتين على خطها، والمنتصرين لقضيتها وأن يثبتنا على البراءة ممن ظلمها وحاربها بالأيدي والألسن إنه سميع الدعاء.