Take a fresh look at your lifestyle.

آراء العلماء في جمع القرآن الكريم

0 994

 

    قد ناقش العلماء مسألة جمع النصِّ القرآنيِّ، فهناك من العلماء من يعتقد أنَّ القرآن الكريم لم يُجمع في حياة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) كاملًا، وإنّما تمّ جمعه بعد وفاته (صلى الله عليه وآله)، إذ جُمِعَ على وفق اجتهادات بعض الصحابة، وهذا الرأي عليه جمهور العلماء، ومن هؤلاء أحمد بن حنبل (241هـ)، واستدل أصحاب هذا الرأي باختلاف مصاحف السلف في ترتيب السُّور، فمنهم من رتّبها على النزول، وهو مصحف الإمام عليٍّ(عليه السلام) حيث كان أوَّله: اقرأ، ثُمَّ المدثر … ثُمَّ النساء، ثُمَّ البقرة ثُمَّ آل عمران. وبعض الصحابة رتّبها ترتيباً آخر، منهم أبيّ بن كعب، وعَبْد الله بن مسعود(1).

وذهب فريق آخر من العلماء إلى أنَّ ترتيب سور القرآن وآياته توقيفيّ. وقد استدلَّوا بعدم ترتيب السور المتجانسات؛ لأنَّ الحواميم رتِّبت ولاءً، وكذا الطواسيم، ولم ترتَّب المسبحات ولاءً، بل فصل بين سورها، وفصل بين (طسم) الشعراء، و(طسم) القصص بـ (طس) مع أنَّها أقصر منهما، ولو كان الترتيب اجتهاديًّا لذكرت المسبحات ولاءً، وأُخِّرت (طس) عن القصص(2). فسورتا الشعراء والقصص تبدآن بـ (طسم) قد فصل بينهما سورة النمل، وهي أصغر حجما من السورتين الكريمين، ولو كان الترتيب توقيفيَّا، لكان ترتيبها هكذا: (الشعراء، ثمَّ القصص، ثمَّ النمل)؛ لاختلاف أوَّلها عنهما، ولقصرها عنهما، فالترتيب الاجتهاديُّ يحتم أن يكون الترتيب على وفق منهج ثابت، يُراعى فيه ترتيب نزول السورة أو موقعها أو بحسب قصر السورة أو طولها.
ولا يمكن عزل ترتيب آيات القرآن، وسوره خارج منظومة إعجاز القرآن الكريم، الذي تحدَّى به معشر الأنس والجنِّ، وقد عدَّ البقاعي ترتيب القرآن على المستويين التركيبيِّ والترتيبيِّ مظهرًا من مظاهر إعجازه البيانيّ، وأنَّ تناسبه المعجز يشمل أيضًا علاقات السّور بعضها ببعض في بناء البيان القرآنيّ العظيم كلّه، مفتتحًا بسورة (الفاتحة)، ومختتمًا بسورة (الناس)(3).
ولكنَّ الأمر الذي يمكن الاطمئنان إليه، هو أنَّ القرآن قد كان على هيأته المتعارف عليها اليوم، وأنَّ ترتيبه ترتيب توقيفيّ إلهيّ، والدليل على ذلك أنَّ جمعًا من الصحابة كانوا يحفظون القرآن كاملًا، أو أجزاءً منه، ثمَّ إنَّ الأئمة الميامين من أهل البيت(عليهم السلام)
قد أمروا النَّاس بقراءة سورة كاملة من القرآن الكريم بعد سورة الحمد في الصلاة الواجبة، والمستحبة، عدا صلاة الآيات التي يمكن أنْ تفرَّق فيها السورة الكاملة على ركوعاتها الخمس، في كلِّ ركعة من ركعتيْها، فيتحصَّل التفريق على عشر ركوعات لمن طلب التخفيف في أدائها أو قضائها، فلو كان القرآن على غير ترتيبه المتعارف لما أمروا الناس بقراءة سورة كاملة، أو قراءة سور معيَّنة في مناسبات محدَّدة من قبيل قراءة سور العنكبوت والروم في رمضان ليلة ثلاثة وعشرين؛لأنَّ السورة ستكون متفرِّقة على سور عدِّة في حال كون القرآن على غير ما هو مجموع في زمان الرسول(صلى الله عليه وآله).
وأمرُ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) أتباعهم من عامَّة الناس يدلُّ بقوَّة على أنَّ القرآن الكريم كان متعارفًا كما هو عليه اليوم، وأن القرآن الذي بأيدي الناس يومذاك هو نفسه الموجود بأيدينا اليوم، فضلا عن الأحاديث الكثيرة المروية عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله في فضل قراءة السور القرآنية والمواظبة، ثمَّ إنَّ قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(4) يدلُّ على أنَّ القرآنَ كان مجموعاً في زمن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ولا صحَّة للقول بأنَّ القرآن قد جُمِعَ في زمن عثمان. وقد أورد السيَّد الخوئي في كتابه البيان في تفسير القرآن أدلَّة كثيرة على أنَّ القرآن الكريم كان مجموعًا على هيأته الكاملة في زمن الرسول(صلى الله عليه وآله)، ومنها الأدلة ورود لفظة (الكتاب) في كثيرٍ من الآيات الكريمة، وأنَّ قول الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله):
(إنِّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي)(5)،
ومن هذا نستدل على أنَّ القرآن كان مجموعًا في عصره فلا يصح إذا كان بعض القرآن ضائعًا، فإن المتروك حينئذ يكون بعض الكتاب لا جميعه، ففي هذه الروايات دلالة صريحة على تدوين القرآن، وجمعِهِ في زمانه صلَّى الله عليه وآله؛ لأنَّ الكتاب لا يصدق على مجموع المتفرقات، ولا على المحفوظ في الصدور(6). وقد نقل الطبرسي في تفسير (مجمع البيان) القول عن جبرائيل (عليه السلام)
في قوله تعالى: (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)(7) ((هذه آخر آية نزلت من القرآن وقال جبرائيل ضعها في رأس الثمانين والمائتين من البقرة))(8)، ممَّا يدلُّ على أنَّ أمر ترتيب القرآن نازل من الله سبحانه وتعالى، لا دخل للإنسان فيه.
ومن المحدثين الذين وافقوا الرأي الذي يذهب بأن القرآن الكريم قد جمع في حياة الرسول(صلى الله عليه وآله) الدكتور عبد الصبور شاهين إذ يقول: ((إن القرآن ثبت تسجيلا ومشافهة على عهد الرسول(صلى الله عليه وآله) وإن المشافهة كانت تضم حروفًا وروايات لم يعرفها التسجيل،
وإن مراجعة النبي للنص القرآني كل عام كانت ضمانًا وثيقًا لسلامة النص من النقص والزيادة والتحريف حتى كانت العرضة الأخيرة))(9)، وبهذا الصدد يقول الشيخ صبحي الصالح: ((وأما ترتيب السور فتوقيفي أيضًا وقد علم في حياته(صلى الله عليه وآله) وهو يشتمل السور القرآنية جميعًا ولسنا نملك دليلا على العكس، فلا مسوغ للرأي القائل إن ترتيب السور اجتهادي من الصحابة ، ولا للرأي الآخر الذي يفصل فمن السور ما كان ترتيبه اجتهاديا ومنه ما كان توقيفيًا))(10).
والنتيجة التي يمكن الاطمئنان إليها أنَّ: ((جمع القرآن كان مستندًا إلى التواتر بين المسلمين، غاية الأمر أنَّ الجامع قد دوّن في المصحف ما كان محفوظًا في الصدور على نحو التواتر. نعم لا شكَّ أنَّ عثمان قد جمع القرآن في زمانه، لا بمعنى أنَّه جمع الآيات والسور في مصحف، بل بمعنى أنَّه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد، وأحرق المصاحف الأخرى التي تخالف ذلك المصحف، وكتب إلى البلدان أنْ يحرقوا ما عندهم منها، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة، وقد صرح بهذا كثير من أعلام أهل السنة))(11).
وصفوة القول: إنَّ القرآن الكريم قد جُمِعَ في حياة الرسول(صلى الله عليه وآله)، وقد فسَّره لهم، بدليل أنَّه(صلى الله عليه وآله) ((كَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ يَدْعُو بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ عِنْدَهُ يَقُولُ ضَعُوا هَذَا فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا وَيُنْزَلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فَيَقُولُ ضَعُوا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا وَيُنْزَلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَيَقُولُ ضَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا))(12)، والقرآن الكريم هو أحد الثقلين اللذين أمر أمَّته بالتمسَّك بهما، فلا يعقل أن يتركَ من غير جمع وتحديد.

نشرت في العدد 61


1) ظ: الإتقان في علوم القرآن: 1/61-62 .
2) الإتقان في علوم القرآن: 1/ 179.
3) ظ: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: 4/199.
4) سورة الحجر، آية: 9.
5) مستدرك الحاكم: 3 /148. ظ: صحيح الترمذي: 3/100، وسنن البيهقي: 1/13 و2/ 431، وكنز العمال: 1/154 و159، والطبقات الكبرى لابن سعد2/2 وكتبٌ أُخرى.
6) ظ: البيان في تفسير القرآن: 216.
7) سورة البقرة، آية: 281.
8) تفسير مجمع البيان: 2/ 189.
9) تاريخ القرآن، عبد الصبور شاهين: 57.
10) مباحث في علوم القرآن، صبحي الصالح: 71.
11) البيان في تفسير القرآن: 257ـ 258.
12) مسند أحمد: 1/381.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.