Take a fresh look at your lifestyle.

قراءة في صورتين من السيرة

0 634

 

  الصورة الأولى: كيف تعامل أمير المؤمنين (عليه السلام) مع مناوئيه؟
ففي معركة الجمل، والتي انتهت بنصر من الله تعالى لأمير المؤمنين علي(عليه السلام)
وقتل أعدائه أصحاب الجمل طلحة والزبير وغيرهم، بقيت عائشة في هودجها في ساحة المعركة، فجاءها الإمام(عليه السلام) بذاته وقال لها: ((هل رسول الله(صلى الله عليه وآله) أمرك بهذا الخروج عليّ؟ ألم يأمرك أن تقري في بيتك؟ والله ما أنصفوك الذين أخرجوك، إذ صانوا حلائلهم وأبرزوك ))(1). عند ذلك طلب الإمام علي(عليه السلام) من أخيها محمد بن أبي بكر أن يهتم بأخته، ويحميها من أن لا تتعرض إلى أذى، إذ قال(عليه السلام): ((شأنك بأختك، فلا يدنو منها أحد سواك))(2) فحملها أخوها، حتى أنزلها دار عبد الله بن خلف الخزاعي، دون أن تتعرض إلى أي أذى، ثم بعث الإمام(عليه السلام) عبد الله بن عباس إلى عائشة، لكي ينصحها بالرجوع إلى المدينة، قال: فأتيتها، فدخلت عليها فلم يوضع لي شيء أجلس عليه، فتناولت وسادة كانت في رحالها، فقعدت عليها، فقالت عائشة : يا بن عباس أخطأت السُنّة، قعدت على وسادتنا في بيتنا بغير إذننا، فقلت: ليس هذا بيتك الذي أمرك الله أن تقري فيه، ولو كان بيتك، ما قعدت على وسادتك إلا بإذنك، ثم قلت: إن أمير المؤمنين أرسلني إليك، يطلب منك الرحيل إلى المدينة(3). وجهز الإمام علي (عليه السلام)
عائشة، بكل شيء ينبغي لها من مركب وزاد ومتاع وحماية، وأخرج معها كل من نجا ممن خرجن معها من النساء، إلا من أحبت المقام، واختار لها أربعين امرأة، من نساء أهل البصرة المعروفات، وقال لأخيها: تجهز يا محمد وبلغها بالسفر(4)، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه، جاءها(عليه السلام) ومعه ابنيه الحسن والحسين(عليهما السلام)، وأولاده جميعًا وأخوته وبنو هاشم(5) وجمع من الناس، وودعوها وودعتهم، وشيعها الإمام(عليه السلام)
أميالًا، وسرح بنيه معها يومًا(6).
أي إنها خرجت معززة مكرمة، ضمن موكب مهيب، ومعها أخوها، ومجموعة من النساء، حتى وصلت مدينة رسول الله(صلى الله عليه وآله)
ثم إلى بيتها بكل احترام وتقدير.
وقد ردت (أم المؤمنين) عائشة بنت أبي بكر، هذا الجميل والمعروف،لابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) الإمام الحسن بن علي(عليه السلام) عندما استشهدَ مسمومًا، ومن بين وصيته أن يدفن إلى جوار جده رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وجاء الإمام الحسين(عليه السلام) بنعش أخيه، ومعه أهل بيته، فمنعتهم عائشة، مما اضطرهم إلى الذهاب به إلى البقيع ، ودفن هناك(عليه السلام).
وتتميماً للصورة الأولى نورد سيرة الإمام علي(عليه السلام) في ذات المعركة مع بعض مناوئيه: فقد قالت امرأة عبد الله بن خلف الخزاعي بالبصرة، بعد معركة الجمل، للإمام علي(عليه السلام) وقد مر ببابها: يا علي يا قاتل الأحبة، لا مرحبا بك أيتم الله منك وِلْدَك، كما أيتمت بني عبد الله بن خلف، فلم يرد عليها، ولكنه وقف وأشار إلى ناحية من دارها، ففهمت إشارته، فسكتت وانصرفت، وكانت قد سترت عندها عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم، فأشار إلى الوضع الذي كانا فيه، أي لو شئت أخرجتهما، فلما فهمت انصرفت، وكان (عليه السلام) حليمًا وكريمًا معها، رغم عملها القبيح(7).
الصورة الثانية:
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ…) (آل عمران:144)
ما إن أغمض رسول الله(صلى الله عليه وآله) عينيه وارتحل إلى الرفيق الأعلى حتى انقلب القوم على أعقابهم، وكان باكورة الانقلاب هو سيرتهم مع ابنته سيدة نساء العالمين:
لقد تعرضت فاطمة الزهراء(عليها السلام) إلى الأذى، وإلى الهجوم على بيتها عدة مرات، مع علم القوم بأقوال أبيها رسول الله(صلى الله عليه وآله)بحقها منها: (( إنما فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني)) وأيضا ((إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ويصيبني ما أصابها))(8)، وتؤكد بعض الروايات أن أبا بكر كان نفسه يصدر الأوامر بالهجوم على بيت فاطمة الزهراء(عليها السلام)، وقد سبق الهجوم تهديدات بالإحراق، وجمع الحطب، ثم أضرمت النار، ثم كسر الباب، وضربت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام) من أكثر من شخص من المهاجمين، وسقطت على الأرض(9)،

وإن الذين قاموا بالهجوم على بيت فاطمة الزهراء(عليها السلام) والاعتداء عليها، لا يدل على أنهم لا يعرفون مكانتها وحب رسول الله(صلى الله عليه وآله) لها، وفضائلها،وإن الله عز وجل يغضب لغضبها ويرضى لرضاها(10)، وذكر لنا التاريخ أسماء عدد منهم : أبي بكر، عمر، قنفذ، أبي عبيدة بن الجراح، سالم مولى أبي حذيفة، المغيرة بن شعبة، خالد بن الوليد، عثمان بن عفان، أسيد بن حضير، معاذ بن جبل، عبد الرحمن بن عوف، عبد الرحمن بن أبي بكر، زيد بن أسلم، عياش بن ربيعة، محمد بن مسلمة – وهو الذي كسر سيف الزبير، وغيرهم(11) .
إن ضرب المرأة عند العرب، كان عاراً على الإنسان وعقبه، إذ قال الإمام علي (عليه السلام): ((وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر – الحجر، أو الهراوة –
العصا، فيعير بها وعقبه من بعده))(12)،
فهو أمر مستنكر عند العرب، لذلك لا يفعلونه خوفًا من العار، ولكن القوم تعدوا كل حدود الشهامة والغيرة العربية فضلاً عن الدين وتعاليمه، حين صار الأمر يتعلق بالسلطة والحكم فصاروا لا يتورعون عن قبول هذا العار أو حتى نار الآخرة، ومنها :
إن أحد هجومات القوم بعث أبو بكر، عمر بن الخطاب ليخرجوا من بيت فاطمة الزهراء(عليها السلام) الإمام علي(عليه السلام)، ومن معه لكي يبايعوا جبرًا، وقال له إن أبوا فقاتلهم، فأقبل عمر بقبس من نار، على أن يضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة الزهراء(عليها السلام)، فقالت: يا بن الخطاب أجئت لتحرق دارنا ؟
قال: نعم، أو تدخلوا ما دخلت فيه الأمة (13)،
فقالت فاطمة(عليها السلام): يا عمر، ما لنا ولك، لا تدعنا وما نحن فيه، فقال: افتحي الباب وإلا أحرقنا عليكم، فقالت فاطمة(عليها السلام): يا عمر، أما تتقي الله تدخل عليَّ بيتي وتهجم على داري. فأبى أن ينصرف، ثم دعا عمر بالنار فأضرمها في الباب فأحرقها، ثم دفع عمر الباب، فاستقبلته فاطمة الزهراء(عليها السلام)
وصاحت، يا أبتاه يا رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فرفع عمر السيف، وهو في غمده فوجا به جنبها، فصرخت فرفع السوط فضرب به ذراعها، فقالت: يا أبتاه، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر، وضربها قنفذ بالسوط على عضدها، وكسروا ضلعها، فألقت جنينها، فلم تزل صاحبة الفراش، حتى ماتت من ذلك شهيدة مظلومة(14).
وفي رواية أخرى إن أبي بكر، تفقد قومًا تخلفوا عن بيعته عند الإمام علي(عليه السلام)
فبعث إليهم عمر فجاءهم، فنادى وهم في دار الإمام(عليه السلام) فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب، وقال والذي نفس عمر بيده، لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها، فقيل له، يا أبا حفص إن فيها فاطمة، فقال: وإن! وبين أيديهم هتاف رسول الله(صلى الله عليه وآله):
(فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني) و(فاطمة قلبي وروحي التي بين جنبيَّ فمن آذاها فقد آذاني)(15)، فلم يهتموا بذلك،فأتوا بالحطب فوضعوه على الباب، وجاؤوا بالنار ليضرموه، فصاح عمر وقال: والله لئن لم تفتحوا الباب، لنضرمنه بالنار، فلما عرفت فاطمة الزهراء(عليه السلام) إنهم يحرقون منزلها، قامت وفتحت الباب، فدفعوها القوم قبل أن تتوارى عنهم، فاختبأت فاطمة الزهراء(عليها السلام)
وراء الباب، فدفعها عمر، حتى ضغطها بين الباب الحايط، ثم إنهم تواثبوا على أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهو جالس على فراشه، واجتمعوا عليه، وأرادوا أخراجه من داره إلى المسجد، فحالت فاطمة الزهراء(عليها السلام)، بينهم وبين بعلها، وقالت:
(والله لا أدعكم تخرجون بابن عمي ظلمًا، ويلكم ما أسرع ما خنتم الله ورسوله(صلى الله عليه وآله)
فينا أهل البيت، وقد أوصاكم رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
باتباعنا ومودتنا والتمسك بنا، فقال الله تعالى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (الشورى:23)، قال:
فتركه أكثر القوم لأجلها، فأمر عمر، قنفذ أن يضربها بالسوط على ظهرها وجنبها إلى أن أنهكها، وأثرَ في جسمها الشريف، وكان ذلك الضرب أقوى ضرر في إسقاط جنينها، وقد كان رسول الله(صلى الله عليه وآله)
سماه محسنًا، وأخذوا أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى المسجد حتى أوقفوه بين يدي أبي بكر(16)، وعمر قائم بالسيف ومعه كل من:
خالد بن الوليد، أبو عبيدة بن الجراح، سالم مولى أبي حذيفة، معاذ بن جبل، المغيرة بن شعبة، أسيد بن حضير، بشير بن سعيد،.. وغيرهم، جلوس حول أبي بكر، ومعهم السلاح، وهو يقول: أما والله لو وقع سيفي في يدي، لعلمتم أنكم لن تصلوا إلى هذا أبدًا، أما والله ما ألوم نفسي في جهادكم، ولو كنت استمكنت من الأربعين رجلًا، لفرقت جماعتكم، ولكن لعن الله أقوامًا، بايعوني ثم خذلوني، ولما أن بصر به أبو بكر صاح، خلو سبيله، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): يا أبا بكر،
ما أسرع ما توثبتم على رسول الله(صلى الله عليه وآله)، بأي حق وبأي منزلة، دعوت الناس إلى بيعتك؟ ألم تبايعني بالأمس، بأمر الله وأمر رسول الله(صلى الله عليه وآله) في غدير خم؟(17).
كما إن محاولة كل من عمر وأبي بكر، مع فاطمة الزهراء(عليها السلام) للحصول على رضاها ومسامحتها لهم، يدلل على أمور منها(18):
1- إن طلب المسامحة نفسه هذا يدل على أنهم قد آذوها، وأغضبوها، لدرجة احتاجوا إلى طلب المسامحة منها ولو ظاهرًا .
2- احتفاظ الزهراء (عليها السلام) بمكانة محترمة
في قلوب المسلمين، وهذا مما اضطر الذين آذوها واعتدوا عليها إلى محاولة امتصاص نقمة وغضب المجتمع الإسلامي، والنظرة السلبية التي نشأت
بسبب ما فعلوه، وما ارتكبوه في
حقها (عليها السلام).
3- عندما أرادوا استرضاءها، لم يقدموا أي شيء يدل على أنهم كانوا جادين في ذلك الاسترضاء، بل إن كل الدلائل تشير إلى أن القصد من ذلك هو الإعلام لا غير، لأنهم لم يقدموا خطوات عملية مثل إرجاع أرض فدك لها(عليها السلام)، ولم يتراجعوا عن تصميمهم الأكيد على اغتصاب حق بعلها الإمام علي(عليه السلام)، ولم يعترفوا بأي خطأ أمام الصحابة بصورة علنية، وكذلك لم يحاسبوا أنفسهم والذين كانوا معهم على اعتدائهم على فاطمة الزهراء(عليها السلام)، وعلى حرمة بيتها.
4- إن احتفاظ فاطمة الزهراء(عليها السلام) بقيمتها من أنها سيدة نساء العالمين، لم يمنعهم من الاعتداء عليها بالضرب وغيره، وأنها أحد المخصوصين بآية التطهير، وإن رسول الله(صلى الله عليه وآله) باهَلَ بها وببعلها وولديها(عليهم السلام)
نصارى نجران، وقال(صلى الله عليه وآله): (اللهم إنه قد كان لكل نبي من الأنبياء، أهل بيت هم أخص الخلق إليه، اللهم وهؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا، فهبط جبرائيل بآية التطهير في شأنهم)(19).
إن جرأة القوم على الاعتداء على سيدة النساء ،فتح الباب للعدوان السافر على حرم الحسين(عليه السلام)، فلقد ضربت نساء الإمام الحسين(عليه السلام) وبنات رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالسياط في يوم عاشوراء، وسُبين من كربلاء إلى الكوفة، ثم إلى الشام إلى يزيد بن معاوية لعنهم الله، مربطين بالحبال والحديد، ومعهم الأطفال، وتحت ظروف يصعب تحملها، وهذا يدل الحقد والبغض، الذي أعمى بصائرهم وأبصارهم، وصدهم عن التفكير بما يترتب على ذلك من عار في الدنيا، وعذاب وخزي في الآخرة.
هاتان صورتان من السيرة، والفارق بينهما واضح والبون شاسع. ورحم الله ابن الصيفي حين يصف الصورتين بقوله:
ملكنا فكان العفو منا سجية
فلما ملكتم سال بالدم أبطح
فحسبكم هذا التفاوت بيننا
وكل إناء بالـذي فيه ينضـح

نشرت في العدد 61


(1) وقعة الجمل/ ضامن بن شدقم الحسيني المدني، ص 65
(2) الإمام علي من المهد إلى اللحد/محمد كاظم القزويني، ص 238
(3) شرح النهج/ابن أبي الحديد، ج 5ص306 ــ قصة الكوفة/ علي نظري منفرد، ص99 – 200.
(4) قصة الكوفة/علي نظري منفرد، ص200 – 201.
(5) وقعة الجمل/ضامن بن شدقم الحسيني المدني، ص 147 – 148.
(6) قصة الكوفة/علي نظري منفرد، ص201 .
(7) شرح النهج/ابن أبي الحديد، ج 15، ص65.
(8) تكملة الغدير ثمرات الأسفار إلى الأقطار/ عبد الحسين الأميني النجفي/ ج 2، ص238 – 239.
(9) مأساة الزهراء(عليها السلام)/جعفر مرتضى العاملي، ج1، 313- 314 .
(10) تكملة الغدير ثمرات الأسفار إلى الأقطار/ عبد الحسين الأميني النجفي ، ج2،ص 242.
(11) مأساة الزهراء(عليها السلام)/جعفر مرتضى العاملي، ج1، ص 227.
(12) شرح النهج/ ابن أبي الحديد ، ج 15، 64.
(13) جوهر التاريخ/ علي الكوراني العاملي، ج1، ص 122.
(14) بحار الأنوار/ المجلسي ج28،ص 283- 284.
(15) م.ن /ج 31، ص 59.
(16) بعض أخبار أمير المؤمنين(عليه السلام) في رفض السقيفة/ عباس القمي/ ص 114.
(17) جوهر التاريخ/علي الكوراني العاملي، ج1، 106 – 107.
(18) مأساة الزهراء(عليها السلام)/ جعفر مرتضى العاملي، ج1، 233-237.
(19) مفاتيح الجنان/ عباس القمي، ص 341.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.