Take a fresh look at your lifestyle.

الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم

0 868

       

            تُطالعنا كتب كثيرة في قضية النسخ في القرآن الكريم، منها ما أفرد لها مؤلفوها كتبًا خاصة بهذا الموضوع ومنهم من ضمّنها في كتب علوم القرآن.

            وقضية النسخ مشكلة يشوبها التعقيد حتى شكلّت في الفكر العربي والتشريع الإسلامي (معضلة) شائكة لتعلّقها بالعقائد والفقه الإسلامي على الأغلب، فضلًا عن كون أغلب ما وقع منها خاضعًا لاجتهادات خاصة، ويغلب على كثير من رواياتها اجتهادات شخصية، أو يشوبها الضعف والتدليس، فضلًا عن الاكتفاء بدلالة ظاهر النصّ بسبب من الاعتماد على بعض من فنون اللغة من دون الغور في أعماقه وكشف مضامينه، أو الوقوع في وهم الدلالة وتداعياته التي تُفضي إلى الانحراف عن الدلالة الحقيقية للنص،

         مضافًا إلى كلّ ذلك، التغاضي عن سبب النزول في معالجة قضية الآيات الناسخة والمنسوخة وضَعْف التفريق بين التناقض والتعارض بين الآيات التي ادُّعي فيها النسخ بسبب الخلط في كلّ ذلك، وإهمال كون التشريع الإسلامي جاء في كثير من الآيات الداخلة ضمن موضوعة النسخ متدّرجًا ومتطوّرًا عند معالجة القضايا الاجتماعية، أي أنّ الواقع كان له أثرٌ كبير في توجيه الأحكام ورسم حدودها الزمانية والمكانية،

           لذلك فعملية إهمال الواقع الاجتماعي في التشريع الإسلامي فقهًا يأخذ بأيدي الباحثين إلى دلالة موهومة من خلال بروز ظاهرة التناقض بين النصوص القرآنية في موضوع معيّن، وهو في الحقيقة تعارضٌ، وعند تدبّر الآيات لم نجد له حضور تفرقة بين نصوص القرآن ومعانيه(1)،

          وكذلك قد يقع سوء فهم لدلالة الناسخ والمنسوخ من خلال عدم ملاحظة وحدة الموضوع للنصوص التي يقع فيها النسخ، غير أنّ ظاهر النصّ يوحي أولًا إلى وجود هذه الوحدة الموضوعية، لكن عند التدبّر والتمعّن فيه من خلال سياقه العام والتركيب الجملي لجملة الناسخ، تراها مخالفة لجملة المنسوخ فيسقط النسخ.

         إنّ اكتشاف هذه المضامين يحتاج إلى تدبّر عميق في النصّ القرآني فضلًا عن الصبر والتأنّي في ملاحظة دقائق التركيب ولغة النصّ وأصل دلالتها وما تطوّر عنها، عند ذلك ستجد الدلالة واضحة ومغايرة لما عليه الآخرون.

          هذه الموضوعات المتعلّقة بالنصّ المبارك لغة وتركيبًا وسياقًا لها أهميتها في الكشف عن المضامين التي يكتنفها القرآن الكريم، والتي من شأنها أن تكشف عن كثير من الدلالات المختبئة بين طيات النصّ، ومنها معرفة الناسخ من المنسوخ.

        تكتسب هذه القضية في القرآن الكريم أهمية كبيرة من بين مظاهر محتوى النصّ المبارك، لعلاقتها الوثيقة بالتشريع الإسلامي، وإبعاد محاولات الطعن بالقرآن الكريم، ونسبة التحريف إليه زيادة أو نقصًا أو تناقضًا بين آياته وسوره ومعانيه، لذلك حرص العلماء كثيرًا على دراسته والاهتمام به فقد (روي أن عليا (عليه السلام) دخل الكوفة فرأى عبد الرحمن بن دأب صاحب أبي موسى الأشعري وقد تحلق عليه الناس يسألونه وهو يخلط النهي بالأمر والإباحة بالحظر، فقال له (عليه السلام): أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال لا، فقال هلكت وأهلكت)(2)،

        لذلك نبّهوا إلى كثير من المسائل منها ظاهرة التدرّج في الأحكام ورأوا أنه ليس من شأن وقوع النسخ ما كان بدافع التدرّج في الأحكام بقصد التسهيل على الناس، وقد سُئل (عليه السلام) فأجاب: (إنّ الله تبارك وتعالى بعث رسوله (صلى الله عليه وآله) بالرأفة والرحمة، فكان من رأفته ورحمته أن لم ينقل قومه في أول نبوته عن عاداتهم حتى استحكم الإسلام في قلوبهم، وجلّت الشريعة في صدورهم)(3)، تسهيلًا عليهم في تقبّل الأحكام على وجه التدريج وفق متطلبات المجتمع وحاجاته، فهذا ـ في الحقيقة ـ ليس بنسخ، لأنّه ليس بحكم ثابت فينسخ(4)، أو يُبدّل بحكم جديد فإنّ (كل أمر ورد يجب امتثاله في وقتٍ ما لعلّة ما تُوْجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنّما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدًا)(5) لأنّ في الإزالة إلغاء لذلك الحكم، في حين أنّ توقّف حكم بسبب من انتهاء وقته لا يُعدّ إزالة عقلًا، فهو حكم فرضته ظروف المجتمع، وربّما تتكرر تلك الظروف فنحتاج إليه مرة أخرى، فهو حكم لأمر وقع وانتهى وربّما يعود مرة أخرى لحاجة المجتمع له.

        إذًا، مسألة النسخ لها علاقة بأمور التشريع الإسلامي لأنّ ما نُسب من قضايا النسخ يتعلّق أكثره بآيات الأحكام التي فيها مناط الحكم الشرعي سواء أكان دائميًا فقط أم وقتيًا، إذ تنتهي حدود تمدّد الحكم فيه إلى وقت محدّد لظروف خاصة، وليس في هذا نسخ، وسوف يكون هناك ما يُشير إلى هذا التوقف من خلال نزول آية قرآنية تُوقف العمل به لا غير، وأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) ليس له أن يُوقف حكمًا شرعيًا إلّا بتشريع إلهي آخر،

         قال تعالى (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(يونس: 15)، فدفع بذلك قضية نسخ القرآن بالسنة النبوية المباركة.

         من مصاديق هذا الأمر نسخ حكم التوجّه إلى القبلة الأولى، إذ لم يكُن إلّا بأمر من الله تعالى بعد طلب النبي (صلى الله عليه وآله) منه سبحانه، وهو ممّا لا ريب في وقوعه فيه(6)،

        فقال تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)(البقرة:144)، وهو رأي الشيخ المفيد(7)(ت 403 هـ)، والشافعي(ت 204 هـ) إذ عدّ السنة النبوية مفسرة للكتاب وليست ناسخة له(8).

          لقد قسّم علماء القرآن النسخ على ثلاثة أقسام:

1. نسخ التلاوة من دون الحكم.

2. نسخ الحكم من دون التلاوة.

3. نسخ التلاوة والحكم معًا.

        أمّا رفع التلاوة بالنسخ دون الحكم فذلك ممّا يُعدّ تحريفًا لأنّه رفع لكلام الله تعالى من القرآن الكريم ونسبة النقص إليه وهذا ممّا يُوجب البطلان، والأكثر منه بطلانًا رفع الحكم والتلاوة معًا، وأمّا رفع الحكم من دون التلاوة فهو الواقع ودّل عليه الكتاب العظيم.

        سوف أعرض لقضية نسخ الحكم مع بقاء التلاوة فقط، لاتضاح بطلان النوعين الآخرين لما فيهما من شبهة التحريف وعدم صمودهما أمام الدليل العقلي والقرآني، وأمّا مسألة نسخ الحكم وبقاء التلاوة فتكاد تكون الأوضح في القرآن إذ دلّت عليه بعض الآيات، وقد توسع فيها آخرون(9)، ولأجل دراستها ينبغي أن نطرح تساؤلًا هامًا والإجابة عنه، وهو:

         ما الفائدة من وجود آية قرآنية نُسِخ حكمها، ألم يَعُد ذلك نصًا زائدًا بعد زوال حكمه؟

       لأجل الإجابة عن هذا التساؤل ينبغي فهم إشكالات معينة تتعلق بموضوع الآيتين الناسخة والمنسوخة، وتركيب بنائهما اللفظي والأسلوبي وكيفية استعمال مفرداتهما ومدى تكافؤ السياقين فيهما لفظيًا ودلاليًا، فضلًا عن أسباب النزول لكل منهما.

        كلّ إشكالية من هذه الإشكالات تقدم أسئلة متعددة ينبغي الإجابة عنها جميعًا كي نستطيع التوصل إلى نتيجة واضحة عن التساؤل الأكبر المتعلّق بعدم إزالة النصّ المنسوخ حكمه.

        إنّ تساوي الإجابة وتكافُؤَها بين الآيتين الناسخة والمنسوخة سوف يُحقق النسخ بمعنى الإزالة الكلية للفظ والمعنى، إذ لا موجب عقلي بعد ذلك لوجوب اللفظ عند تعويضه بلفظ مماثل له، ويؤدي الوظيفة ذاتها لفظًا ودلالة وأسلوبًا وتركيبًا.

      هذا الأمر صعب الوقوع أو أنّ وقوعه يكون من باب الاستحالة وذلك أنّ الألفاظ والكلمات لها معانٍ وقيم دلالية غير متساوية في أصل معناها وفي التركيب الجملي لها لذا سيؤول هذا إلى إفراز معانٍ للآيات الناسخة لا تكون مكافئة بالضد تمامًا لما عليه الآيات المنسوخة فيتعذّر عندها تكوين نصّ يحمل علائق قاصمة لعرى النصّ السابق عليه كليًا، لذلك سيكون النصّ الجديد (الناسخ) في أغلب الأحيان مؤثرًا في تحديد دلالة النصّ السابق (المنسوخ) بشكل جزئي، وهو ممّا يدعو إلى بقاء النصّ المنسوخ في القرآن للإفادة من باقي الدلالة الموجودة فيه غير المزُالة.

       فضلًا عن ذلك فإنّ الآيات الناسخة والمنسوخة يجب ألا تحدّد دلالتها بدلالة سبب نزولها فقط وإهمال دلالة عموم اللفظ فيها، فانّ دلالة سبب النزول دلالة جزئية، فإذا تكافأت دلالتا سببَي نزولهما، فستكون دلالة الناسخ مزيلة لدلالة المنسوخ المحدَّدة بسبب النزول فقط من دون إزالة دلالة عموم اللفظ، وهذا ممّا يُوجب وجود النصّ المنسوخ لوجود بعض الدلالة التي يتضمنها عموم اللفظ. لذلك لا يمكن رفع النصّ المنسوخ من القرآن، فرفعه يُعدَّ تحريفًا، لإزالة بعض الدلالة التي يحملها مجمل النصّ المبارك من نحو نسخ التلاوة والحكم معًا، وقد ذهب الشيخ المفيد (رحمه الله) في تعريف النسخ بما يقرب من هذا الفهم بقوله:

       (والنسخ عندي في القرآن إنما هو نسخ متضمّنه من الأحكام وليس هو رفع أعيان المُنزل منه)(10)، لما في المُنزل من دلالات إضافية لا يمكن الاستغناء عنها، أو تحييدها بحجة نسخ بعض من معاني النصّ الذي يتضمنها.

         إذًا ستكون حدود التغيير المفروضة بالقرآن الكريم من خلال النسخ لا تتعدّى نسخ الأحكام دون التلاوة بحدود ضيقة جدًا ـ كما رأينا ذلك ـ لأنّ التوسّع في النسخ سوف يُدخل التشريع في عبثية، وقد يكون ذلك مهمزًا يتّكئ عليه خصوم القرآن والإسلام للقول بأنّ النبي محمدًا (صلى الله عليه وآله) هو الذي يؤلّف القرآن، وأنّه بشري المنشأ، وترى هذا السلوك قد اتبعه كثير من المستشرقين غير المنصفين تجاه القرآن وحاولوا من خلاله الطعن به والقول ببشريته، وهو السلوك نفسه لدى اليهود الذين عاصروا الدعوة الإسلامية وكذلك المشركين، فعندما تحوّلت القبلة إلى الكعبة، نبز اليهودُ النبيَّ محمدًا (صلى الله عليه وآله) بأنه يخالف دينهم ويتّبع قبلتهم، أو أنهم كانوا يدّعون بأنّهم الذين دلوّا النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وأصحابه على القبلة، وقد كانوا جاهلين بها(11)، فأعمل لذلك نصًّا بتحويل القبلة الأولى وناسخًا لها ومُدلًّا إلى الكعبة المشرفة، وهم في كل ذلك يُشيرون إلى أنّ القرآن من تأليفه، وهو ظاهر قولهم.

        إنّ عملية التخفيف في الأحكام لم تكن – كما علمنا – من باب النسخ، وإنّما هي حالة تتوافق مع تغيّر الواقع الاجتماعي، فالأحكام القرآنية نزلت لتوافق الواقع المتغيّر، وإنّ عملية الثبات أو الجمود فيها ممّا يعرقل مسيرة الحياة، فإذا انتهى الحكم الشرعي عند حدود الزمن المقرر له كان لابُدّ من الإتيان بحكم آخر بدلاً عنه ليساير الواقع الجديد للمجتمع.

      إذًا، فالنصّ القرآني نصّ مرتبط بآليات الواقع المرتبط دومًا بالتغيير لذلك كان النسخ في النصّوص القرآنية الخاصة بالأحكام يُمثّل الدينامية والحركية التي تتمتع بها الأحكام القرآنية وتصورها في المستقبل القريب أو البعيد.

       ثمّ إنّ هذا الفهم الخاطئ للنسخ قد أوحى بوجود التناقض في النصّوص القرآنية في حين أنّ التدرّج في الأحكام مبعثه التعارض بينها وليس التناقض، والتعارض بين الآيات لا يوجب النسخ ما لم يصل إلى درجة التناقض إذ يمكن رفعه – أي التعارض – بجمع الدليلين أو النصّين ومحاولة ترجيح أحدهما على الآخر(12) وفق الطرق المتّبعة في ذلك، لذا لا يُعَدُّ التعارض دليلًا كافيًا لوقوع النسخ ما لم يصل إلى درجة التناقض.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ التعارض بين الآيات القرآنية لا يوُجب النسخ ما لم يصل الى درجة التناقض، إذ يمكن رفعه بالجمع بين النصّين ومحاولة ترجيح أحد النصّين أو الدليلين على الآخر كالتعارض بين الخاص والعام فيُرفع بترجيح الخاص على العام عن طريق تخصيص العام، وكذلك معرفة المتأخر من المتعارضين على المتقدم فيُعدّ المتأخر ناسخًا للمتقدم، لذلك لا يُعد التعارض وحده كافيًا للقول بالنسخ.
2ـ مسند زيد بن علي/ص385.
3ـ رسالة المحكم والمتشابه / الشريف المرتضى: 60.
4ـ ظ : البيان في تفسير القرآن / الإمام الخوئي: 379.
5ـ مفهوم النصّ/د . نصر حامد أبو زيد: 123.
6ـ ظ: البيان في تفسير القرآن /الإمام الخوئي: 301 .
7ـ ظ: أوائل المقالات /المفيد: 144.
8 ـ ظ: الرسالة / الشافعي: 118.
9ـ من نحو هبة الله بن سلامة والنحاس وابن حزم الاندلسي والقاضي ابن العربي.
10ـ أوائل المقالات /الشيخ المفيد: 134.
11ـ ظ: مجمع البيان /الطبرسي: م 1 / 227.
12ـ ظ: البيان في تفسير القرآن /الإمام الخوئي: 305 ، 379، التبيان لرفع غموض النسخ في القرآن /د . ابراهيم الزلمي: 38 – 40.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.