Take a fresh look at your lifestyle.

علم الوقف والابتداء في القرآن الكريم تعريفه ودلالته

0 4٬371

مقدام محمد جاسم

          (الـوقف والابتـداء)، علم من علوم القـــراءات القرآنية والتجويد، وفيما يلي سنبين تعريفه، وأهميته الدلالية من خلال إيراد بعض الأمثلة عليه، وذكْر توجيه المفسرين له.

   تعريفه:

          ليس المقصود بالوقف هنا الوقف الذي يستعمله القارئ للاستراحة، أو لانقطاع النفس، ولا الوقف الذي يبحثه علماء النحو والمجوّدون تحت مسمّى (الروم أو الإشمام)، وإنّما نبحث في الوقف والابتداء المُصطلَح عليه عند علماء التجويد والقراءات، والذي يرتبط بدلالة الآية التي تتضمنه، إذ يكون للوقف والابتداء دلالة وارتباط بالمعنى العام للآية، يلقي بظلاله على دلالة النص القرآني.

           وقد عُرِّف هذا العلم بتعريفات كثيرة منها: هو قطع النطق أو الصوت أو السكوت على آخر الكلمة(١)، ونلحظ في هذا التعريف أنّه يُرادفُ بينَ الوقف وبين القطع والسكت، والصحيح إنّها مختلفة دلالياً، إذ (السكْت): قطع الصوت من دون تنفس، أمّا إذا قُطِعَ الصوت من دون أن تكون هناك نيّة للاستئناف يسمّى (القطْع)، وبذلك يختلف الوقف عن السكت بجواز التنفس معه، وعن القطع في أنّ القراءة معه منويّة(٢)، وقد رأى بعضهم دلالة هذه المصطلحات كلّها على الوقف(٣).

          إذن يمكن تعريف الوقف بأنّه: قطع الصوت على الكلمة زمناً يُتنفَّس فيه عادةً بنية استئناف القراءة إمّا بما يلي الحرف الموقوف عليه، أو بما قبله.

           ويبدو من التعريف المتقدّم أنّ الوقف والابتداء مرادف للفصل والوصل المبحوث عنه في علم البلاغة، حتى عدّ بعضهم الفصل والوصل علماً مُعاراً من القراءات(٤)، ويقصد مِن موضوع الوقف والابتداء تحديداً، وهذا الكلام غير تامّ؛ لأنَّ الوقف والابتداء خاص بالقرآن الكريم، والفصل والوصل يكون في القرآن وفي غيره من الكلام، والوقف والابتداء لا مجال لتقدير الواو العاطفة فيه بخلاف الفصل الذي يكون بترك الواو العاطفة بين الجملتين.

         ويشترط في الكلمة الموقوف عليها أن يكون بعدها كلام متّصل بها، تامّ المعنى، والابتداء مما يلي الكلام المسكوت عنده، لذا يشترط في الوقف والابتداء أن تكون هناك جملتان ترتبط إحداهما بالأخرى دلالياً.

        وعند الوقف يسكّن الحرف الأخير المنطوق من الكلمة، أمّا عند الابتداء فيُنطق بالحرف محرّكاً (لأنّ الوقف أوّل السكوت الذي ينقطع فيه عمل اللسان ويسكُن، كما كان الذي يُبتدأ به لا يكون إلّا متحرّكاً، لأنّ الابتداء أوّل الكلام الذي هو بحركة اللسان وتصرّفه، فأجروا أوّل الطرفين مجرى سائرهما)(٥).

   دلالته:

           لِبابِ (الوقف والابتداء) أهمية بالغة، فيجب أن يكون قارئ القرآن الكريم مُلمّاً بأصوله وقواعده؛ عارفاً لأنواعه؛ تجنباً للوقوع في ما يغيّر دلالة الآية الكريمة.

         وقد أولى المفسرون هذا العلمَ عناية خاصّة، فذكروه في مصنفاتهم، واحتجّوا له، وبيّنوا دلالته، وربّما أفرد له بعض العلماء كتاباً في التصنيف.

          ومن أهمية علم الوقف والابتداء ما ذُكِرَ مِنْ توظيفه في المسائل العقدية، كما ذكر الأشموني نقلاً عن بعضهم: إنَّ معرفة هذا العلم تظهر مذهب أهل السنة من مذهب المعتزلة، ومراده ما جاء في قوله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)(القصص:68)، إذ تنوعت أقوال المفسرين والفقهاء في الوقف في الآية، فمذهب أهل السنة الوقف على قوله (ويختار)، و (ما) عندهم نافية، وترك الوقف مذهب المعتزلة على أن (ما) عندهم بمعنى الذي(٦).

         ومن أمثلة الوقف والابتداء، وأثره في العقيدة أيضاً قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ) (آل عمران:7)، إذ وَقَفَ بعضهم على قوله (والراسخون) وجعل الواو عاطفة، ووَقَفَ بعضهم على لفظ الجلالة (الله) وجعل الواو استئنافية، وقد رجّح مفسرونا، الرأيَ الأوّلَ وعدّوه أوجه، منهم الطبرسي في تفسيريه (مجمع البيان) و(جوامع الجامع)، وهو اختيار الزمخشري والنسفي والآلوسي من العامة(٧) ، واختار الوقف على اسم الجلالة والاستئناف ممّا بعده : الرازي وأبو حيان الأندلسي والبيضاوي وابن عادل(٨).

         ولعلم الوقف والابتداء أثر في النحو والإعراب، مثاله ما جاء في قوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين)(البقرة:2)، إذ وَقَفَ بعضهم على قوله (فيه)، وأضمرَ لـ (هدًى) خبراً محذوفاً، والتقدير: لا ريب فيه، فيه هدى، وهذه قراءة المشهور، ووَقَفَ بعضهم على (لا ريب)، وابتدأ من (فيه) وجعلها خبراً مقدّماً و(هدًى) مبتدأ مؤخّر، وهي قراءة نافع وعاصم(٩).

         وقد دلّ القائمون على طباعة المصحف الشريف على هذه الاحتمالات بوضع علامة اصطلحوا على تسميتها بـ(تعانق الوقف)، أو وقْف التجاذب، وهي تفيد جواز الوقف على أحد الموضعين وليس كليهما، وهذا هو المشهور في المصحف المطبوع على رواية حفص عن عاصم في مصر والمشرق العربي(١٠).

         وقد عدّ بعضهم الوقف على (لا ريب) والابتداء بما بعده تمحّل وتكلّف وتحريف للكلم عن مواضعه، واحتجّ بقوله تعالى: (تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِين)(السجدة :2)(١١).

          ومن المواضع التي أشار إليها المفسرون مما يختلف فيه الوقف والابتداء، والذي يؤدي إلى الاختلاف في الإعراب قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِه)(البقرة:285)، إذ قوله (والمؤمنون) هو الذي يحكم على الوقف في الآية، فإذا كان عطفاً على (الرسول) كان الوقف عليه والابتداء من (كُلٌّ) ويكون الضمير المحذوف، والذي يدلّ التنوين عليه، يرجع إلى الرسول والمؤمنين، إمّا إذا جُعِلَت (والمؤمنون) مبتدأ فيوقف حينئذٍ على (من ربّه) وهو وقف (الإمام) نافع(١٢).

          ومن أمثلة العلاقة بين الوقف والابتداء وعلم النحو أيضاً ما جاء في قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُون*مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُون)(المؤمنون: 66-67)، فقد جوّز الطبرسي في (جوامع الجامع) الوقف على (به) إذا كان الضمير يرجع لـ(آياتي)؛ على أنَّها بمعنى كتابي، ويجوز أن يتعلّق (به) بـ(سامراً) أو بـ(تهجرون)، وعلى هذين الوجهين يكون الوقف على (مستكبرين)(١٣).

         وقد يؤدي الوقف والابتداء إلى تغيّر الأسلوب في الآية، كما في قوله تعالى: (وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِين)(المائدة:106)، إذ أورد الطبرسي قراءةً عن الإمام علي (عليه السلام)، والزمخشري عن الشعبي، أنّهما يقرآن بـالوقف على (شهادة) وابتداء (آلله) بالمدّ على طرح حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه(١٤)، ثمَّ احتجّا، أي الطبرسي والزمخشري، على ما ذكراه بقول سيبويه: إنّ منهم من يحذف حرف القسم ولا يعوِّض منه همزة الاستفهام فيقول: اللهِ لقد كان كذا(١٥).

          وقد ذكر ابن جني هذه القراءة ووجّهها مستحسناً، إذ قال: (وأمّا سكون هاء (شهادة) فللوقف عليها، ثم استؤنف القسم، وهو وجه حسن، وذلك ليُستأنف القسم في أوّل الكلام، فيكون أوقر له، وأشدّ هيبة من أن يــدرج في عُــرض القول)(١٦).
وقد يقود علم الوقف والابتداء إلى دلالات بلاغية، من ذلك ما جاء في قوله تعالى: (وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا)(النساء:4)، قال الزمخشري: (وقد يوقف على (فكلوه) ويُبتَدَأُ (هنيئاً مريئاً) على الدعاء ، … وهذه عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة)(١٧)، والمعنى: إنّ الابتداء من (هنيئاً مريئاً) يعطي الآية دلالة الدعاء التي قد تفارقها إذا ما قُرِئت الآية بلا وقف.

           ومن الدلالات البلاغية التي يوحي بها الوقف والابتداء أيضاً: الأمر، ومثاله قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا)(الأنعام:151)، نقل هذا الوقف العلامة الطبرسي في (مجمع البيان) عن جامع العلوم البصير الأصفهاني، وتوجيهه: إذا وقفنا على (ربّكم) تكون (عليكم) بمعنى: عليكم ترك الإشراك، على أن تكون (أن) الناصبة للفعل، وعندها يكون في الآية أمراً منه سبحانه وتعالى باعتناء المرء بنفسه وعدم انشغاله بغيره(١٨)، ويبدو أنّ الذي دعا أصحاب هذا الوقف إلى تجويزه هو أنّ اسم فعل الأمر (عليكم) مما ينبغي أن يكون له الصدارة في الكلام.

            وقد يقود الوقف القرآني إلى الاختلاف في القراءات، مثاله قوله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)(البقرة:125)، إذ وردت فيها قراءتان: (واتخَذوا)(١٩) بلفظ الماضي عطفاً على (جعلنا)، أي: واتخذ الناس مقام إبراهيم موضع صلاة، والأخرى هي القراءة المصحفيّة (واتخِذُوا) بصيغة الأمر، فمن قرأ بصيغة الأمر وَقَفَ على (وأمناً) ومن قرأ بصيغة الخبر لم يقف؛ لأنّ قوله (واتَّخَذُوا) عطف على (جعلنا)(٢٠)،

              ومن هنا نلاحظ كيف وظّف القرّاءُ الوقفَ والابتداءَ في قراءتهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١- ينظر: الوقف الصرفي/محمد خليل الزّرّوق/ص42 وما بعدها، وينظر: الوقف والابتداء في ضوء علم اللسانيات الحديث/الدكتور أحمد عارف حجازي: ص17.
٢- ينظر: الوقف ووظائفه عند النحويين والقراء/محمد خليل نصر الله فرّاج: ص13، الوقف القرآني وأثره في الترجيح عند الحنفية/الدكتور عزت شحاتة كرار: ص17.
٣ – ينظر: منار الهدى في بيان الوقف والابتداء/أحمد بن محمد بن عبد الكريم الأشموني: ص24، الوقف بين النحويين والقرّاء/ الدكتور عبد المعطي جاب الله سالم: ص8.
4- ينظر: الفصل والوصل في القرآن الكريم، لمنير سلطان: ص15.
٥- الإقناع في القراءات السبع/أبو جعفر أحمد بن علي بن أحمد الأنصاري: 314.
٦- منار الهدى في بيان الوقف والابتداء: ص12.
7- ينظر: مجمع البيان لعلوم القرآن، للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي: 2/196، جوامع الجامع/الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي: 1/ 265، والكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لجار الله محمود بن عمر الزمخشري: 1/113، وتفسير النسفي، (مدارك التنزيل وحقائق التأويل)، لأبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي: 1/ 237، وروح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لأبي الفضل شهاب الدين محمود شكري الآلوسي: مج2 / ج3 / ص111.
٨ – تفسير الرازي: مج3 / ج7 / ص145، والبحر المحيط: 2 / 384، وتفسير البيضاوي: 1 / 239، واللباب في علوم الكتاب: 3 / 439.
9 – ينظر: مجمع البيان: 1/ 47، وجوامع الجامع: 1 / 63، وتفسير الكشاف: 36، وتفسير الرازي: 2/ 21-22، وتفسير النسفي: 1/ 39، واللباب: 1/ 296.
10.-ينظر: الوقف ووظائفه بين النحويين والقرّاء: 92.
11- ينظر: الوقف بين النحويين والقرّاء: 21، 30، والوقف والابتداء في ضوء علم اللسانيات الحديث: 126.
12- جوامع الجامع: 1 / 259 – 260.
13- ينظر: المصدر نفسه: 2 / 590.
14- قرأ بالوقف والمدّ الشعبي فقط كما نقل ابن جني في المحتسب: 1 / 221، وينظر معجم القراءات القرآنية: 2/ 242، وقرأ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) والسلمي، والحسن البصري، والشعبي، ونعيم بن ميسرة بالنصب والمدّ، ينظر: معجم القراءات القرآنية: 2 / 242. والذي نقله الطبرسي ذكره في مجمع البيان: 3 / 356، وجوامع الجامع: 1/ 541، وما ذكره الزمخشري في تفسير الكشاف: 313.
١٥ – ينظر: الكتاب: 3 / 499.
١٦- المحتسب: 1 / 221، وينظر: الوقف الصرفي: 93.
١٧- تفسير الكشّاف: 219، ومثله ما في جوامع الجامع: 1 / 372.
١٨- ينظر: مجمع البيان: 4/ 144، وجوامع الجامع: 1 / 629.
١٩ – وهي قراءة: نافع، وابن عامر، الذماري، شريح، ينظر: معجم القراءات القرآنية: 1 / 111.
٢٠- ينظر: جوامع الجامع: 1/ 148.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.