Take a fresh look at your lifestyle.

التوجيه الدلالي للقراءات القرآنية التي اتفق رسمها في المصحف العثماني (ظاهرة حذف الألف أنموذجًا)

0 1٬822

م.م حكيم سلمان السلطاني
كلية الشيخ الطوسي الجامعة

 

      إن موضوع القراءات القرآنية من أهم ما اعتنى به العلماء تحقيقاً وتوجيهاً. وقد ألفت كتب ونظمت أبيات في بيان قواعد هذا العلم، فجمعت القراءات وصنفت، وتحدث العلماء عن توجيهها وبينوا قواعد رسمها، مما عرف بالرسم العثماني، وبسطوا كثيراً من المعرفة فيما يتعلق بها.
إن هناك صوراً عدة لاختلاف القراءات ـ كما هو مقرر ومعروف في كتب القراءات وعلوم القرآن والتفسير ـ فمنها: ما اختلف فيه حركة الحرف دون تغيير في رسم الكلمة (قَرن، قِرن) (الأحزاب/33)، أو تنقيط الحرف (فتبينوا، فتثبتوا) (الحجرات/6)، أو تغيير الحرف (يبصط، يبسط)(البقرة/245)، أو بزيادةٍ (تحتها الأنهار، من تحتها الأنهار)(التوبة/100)، أو بحذفٍ (وسارعوا، سارعوا) (آل عمران/ 133).
وغير ذلك من أنواع الاختلافات مما قرأ به القرّاء ودُوِّن في كتب القراءات من دون أن يؤثر ذلك كله في رسم المصحف.
إلا أننا هنا في هذا البحث أمام نوع مميز من الاختلاف بين القراءات، مما هو مرتبط برسم المصحف العثماني الذي دُوِّن في ذلك العصر حيث جاء مخالفاً للكثير من القواعد الإملائية مما هو مقرر في زماننا هذا من زيادة في بعض الحروف وحذفها وإبدالها، واخترنا من ذلك ظاهرة حذف الألف وما لهذه الظاهرة من اتفاق في الرسم مع القراءة التي قرئت بها الكلمة، إذ دُوِّنت قراءة المصحف برسم يتفق مع القراءة الواردة فيها. وفيما يبدو لنا من ظاهر هذه الكلمات أنها متفقة في الرسم متقاربة في المعنى، بيد أنه يوجد فارق دلالي دون أن يكون هناك تعارض بين المعنيين، فهو اختلاف تنوع وثراء لا اختلاف تعارض وتناقص، فالقرآن منزه عن ذلك، قال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) (النساء/82).
علاقة القراءات بالرسم العثماني
إن اختلاف المسلمين في القراءات، هو السبب الذي من أجله كتب عثمان المصاحف، وكانت موافقة للقراءات الصحيحة، وبعث إلى كل إقليم بنسخة من مصحفه وقد (ساعدت صورة الخط العربي، في ذلك الوقت على أن يتضمن النص القرآني المكتوب معظم القراءات التي قرئ بها القرآن في أيام النبي(صلى الله عليه وآله))(1).
فقد ساعد الخط العثماني بخلوه من النقط والشكل وبعض ظواهره الكتابية ومنها حذف الألف أن يقرأ بصور عدة، فجاء محتملاً للكثير من القراءات، وأصبحت من مميزات الرسم الدلالة على القراءات.
وجعل السيوطي من قواعد الرسم العثماني (ما فيه قراءتان فكتب على أحدهما)(2)
وعدد بعض الكلمات التي أنقصت منها الألف.
وهو وإن صدق كلامه على تلك الكلمات المعدودة، فإنه لا يصدق عل كل الكلمات التي أنقصت منها الألف كـ (الإنسان، قاصرات) فإنها لم تقرأ على (الإنسن، قصرت). وذهب الزرقاني إلى أن (قاعدة الرسم لوحظ فيها أن الكلمة إذا كان فيها قراءتان أو أكثر، كتبت بصورة تحتمل هاتين القراءتين أو الأكثر، فإن كان الحرف لا يحتمل ذلك بأن كانت صورة الحرف تختلف باختلاف القراءات جاء الرسم على الحرف الذي هو خلاف الأصل، وذلك ليعلم جواز القراءة به وبالحرف الذي هو الأصل، وإذا لم يكن في الكلمة إلا قراءة واحدة بحرف الأصل رسمت به، مثال الكلمة تكتب بصورة واحدة وتقرأ بوجوه متعددة قوله تعالى: (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) (طه/ 63) رسمت في المصحف هكذا: (إِن هذن لسحران) من غير نقط ولا تشديد ولا تخفيف في نوني (إن) و(هذان)، ومن غير ألف ولا ياء بعد (الذال) من (هذان)، ومجيء الرسم كما ترى كان صالحاً عندهم لأن يقرأ بالوجوه الأربعة التي وردت كلها بأسانيد صحيحة.
(أولها): قراءة نافع ومن معه إذ يشددون نون (إن) ويخففون (هذان) بالألف.
(ثانيها): قراءة ابن كثير وحده إذ يخفف النون في (إن) ويشدد النون في (هذان).
(ثالثها): قراءة حفص إذ يخفف النون في (إن) و(هذان) بالألف.
(رابعها): قراءة أبي عمرو بتشديد (إن) وبالياء وتخفيف النون في (هذين) فتدبر هذه الطريقة المثلى الضابطة لوجوه القراءة لتعلم أن سلفنا الصالح كان في قواعد رسمه للمصحف أبعد منا نظراً وأهدى سبيلاً)(3).
والحق إن الرسم العثماني من النقط والشكل ومن الألف وإن ساعد على أن تقرأ الكلمة بصور عدة. إلا أن ذلك ليس مراداً من الصحابة بل إن طريقتهم في الكتابة آنذاك هي التي ساعدت عليه.
ولا خلاف أن ما رسم أصلاً بالألف الممدودة ليس له إلا وجه المد، ولا يصح فيه قراءة القصر، وهذا محل اتفاق، كما في قوله سبحانه: (الميزان، كالفخار، الأكمام).
وكذلك فإن بعض ما رسم من دون ألف حظي باتفاق الكل على تقدير الألف فيه ولم يقرأ بغير ألف كما في قوله سبحانه: (الرحمن، الإنسن، قصرت، يهمن).
ولكن وقع الخلاف في بعض ما رسم أصلاً من دون الألف، وقرئ بوجهين: بتقدير الألف وبحذفها، كما في قوله تعالى: (واعدنا)، فقرئت بتقدير الألف (واعدنا)، وقرئت من دون ألف (وعدنا).
وبعد البحث والاستقراء وقفت على قرآءات كثيرة لظاهرة حذف الألف، ولكن أهمها جاء في أحد عشر موضعاً، ونحن نذكر هنا أكثر من مورد وما ينسجم مع سعة البحث المنشور في هذه المجلة.
1ـ قال تعالى: (مَـٰلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة/ 4)
قرأ عاصم والكسائي ويعقوب وخلف (مالك) بالألف موافقة للرسم تقديراً. وقرأ الباقون (ملك) بحذف الألف موافقة للرسم تحقيقاً(4).
إن لكل من قراءة (مَلِك، مَالِك) وجوهاً من البلاغة لا تؤديها الأخرى وبالجمع بين القراءتين نخرج بوصف عظيم يليق بالله تعالى وكأن قراءة واحدة لا تعبر عن بيان وصف الكمال الذي يليق بالله تعالى فلابد من تضافر أكثر من لفظة لتؤدي هذا المعنى كما جاءت صفة الرحيم مع الرحمن ليؤدي معنى كمال الرحمة في حقه تعالى.
ومعنى ملك يوم الدين بإسقاط الألف أنه المَلِكُ يومئذٍ لا مَلِكَ غيره وأنه لا يؤتى في ذلك الوقت أحداً المُلْكَ كما أتاه في الدنيا، ودليل ذلك قوله تعالى: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِله الْوَاحِدِ الْقَهَّار) (غافر/ 16).
ومن قرأ (مالك) بألف معناه أنه ملك يوم الدين والحساب لا يملكه غيره ولا يليه سواه(5).
وعلى هذا فإن القراءتين بينت أمرًا يناط بالله تعالى، وهو أنه مَلِكُ ذلك اليوم وبما فيه من أحداث وأمور، وأنه مَالِكُ ذلك اليوم بعينه.
2ـ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً) (النساء:43)
قرأ حمزة والكسائي وخلف: (أو لمستم) بغير ألف موافقة للرسم تحقيقاً، وقرأ الباقون: (أو لامستم) بالألف موافقة للرسم تقديراً(6)
الحجة لمن أثبت الألف أنه على (فاعلتم) التي تعني المشاركة في الفعل. والحجة لمن طرحها: أنه خص بالفعل الرجل دون المرأة. ودليله قوله تعالى: (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) (الأحزاب/49)(7).
لا يوجد في اللغة تفريق بين لمس ولامس إلا من جهة ألف المفاعلة فيها، فاللمس ما ظهر من اللامس، والملامسة ما اشترك فيها اثنان، وقال ابن منظور (ت 711هـ): (لمسته لمسا، ولامسته ملامسة، ويفرق بينهما فيقال: اللمس قد يكون معرفة الشيء بالشيء، والملامسة أكثر ما جاءت من اثنين)(8).
وهكذا فإن الصرفيين لا يميزون بين اللمس والملامسة من جهة أصل الدلالة بل من جهة الأبنية التي تعد المرتكزات للتفريق بين الأفعال وما تلقي به اختلاف الأوزان من ظلال فارقة للمعنى.
فقراءة (لمستم) يفهم منها ما دون الجماع(9). كالقبلة، والغمزة، واللمس الشديد باليد، أو يفهم منها الجماع، ولكن جاءت بهذه الصيغة إشارة إلى فعل الرجل دون المرأة(10).
أما قراءة (لامستم) فيفهم منها المجامعة(11)، إذ الألف للمشاركة، والمفاعلة تكون من اثنين، واستدلوا لذلك بما روي عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: (لامستم النساء، أي جامعتم، ولكن الله يكني)(12)، وعن ابن عباس: (هو الغشيان والجماع)(13).
وقد ترتب على اختلاف القراءات بين (لمس، ولامس) اختلافٌ لدى الفقهاء، في أيهما الموجب للتيمم عند عدم وجود الماء، هل هو مجرد لمس الرجل للمرأة؟ أو هو الجماع؟(14).
ذهب الإمامية والحنفية إلى أن لمس الزوجة لا يوجب الوضوء، ولا عناقها، ولا تقبيلها، إنما يوجب الغسل أو التيمم هو الجماع وهو مراد الآية(15).
وذهب الشافعية إلى أن اللمس يوجب الوضوء مطلقاً(16).
وذهب المالكية إلى أن اللمس الذي يوجب الوضوء هو ما إذا كان اللامس والملموس مما تثور الشهوة في نفسه باللمس، وإلا إذا لم تثر الشهوة عندهما فلا وضوء(17). وهو ما اختاره الحنابلة على المشهور، إذ قالوا: (وإذا لم ينقض بمس أنثى، فهو يستحب)(18).
وقد رجح الطبري (ت 310هـ) كون الملامسة بمعنى الجماع دون غيره من معاني اللمس، واستدل على ذلك بصحة الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ(19) وهو من أسلوب القرآن الكريم في عدم التصريح بهذه العملية والكناية عنها بالكثير من الصياغات التعبيرية الموجبة بصورة غير مباشرة، منها قوله تعالى: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ) (البقرة/ 187)، و(وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ) (البقرة/ 222)، و(مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ) (البقرة/ 237)

نشرت في العدد 62


1) رسم المصحف 37، غانم قدوري ط1 مؤسسة المطبوعات العربية. بيروت ـ1980م.
2) الإتقان 4/ 147. للسيوطي ط3 القاهرة 1951م.
3) مناهل العرفان 1/ 258. للزرقاني دار إحياء الكتب العربية القاهرة د. ت.
4) ظ: كتاب السبعة في القراءات، ابن مجاهد 104 تحقيق شرقي ضيق، وغيث النفع في القراءات السبع، الصفاقسي مطبوع بهامش سراج القارئ ط3 القاهرة 1954 60.
5) ظ: معاني القرآن وإعرابه، الزجاج 1/ 53، والتبيان في تفسير القرآن، الطوسي 1/ 33.
6) ظ: المحرر الوجيز 2/ 59، والجامع لأحكام القرآن، القرطبي 5/ 224 ط2.
7) ظ: الحجة في القراءات السبع، ابن خالويه 62، ط1، ومعاني القراءات 128..
8) لسان العرب(لمس) 6/ 409 لابن منظور دار الكتاب العلمية بيروت 2005م.
9) ظ: التبيان في إعراب القرآن، العكبري 1/ 279، وحجة القراءات، أبو زرعة 205، والكشف عن وجوه القراءات السبع مكي القيسي1/ 431 دار الحديث القاهرة 2007م.
10) ظ: حجة القراءات 205، والكشف 1/ 431.
11) ظ: حجة القراءات 205، والتبيان، العكبري 1/ 279، والكشف 1/ 431.
12) الدر المنثور في التفسير بالمأثور، السيوطي 2/ 166 دار الفكر ط1 1983م.
13) م. ن.
14) أثر القراءات القرآنية في توجيه المعنى في آيات الأحكام 115ـ 7117 رسالة ماجستير مكي السلطاني جامعة الكوفة كلية الآداب 2009م.
15) ظ: التبيان، الطوسي 3/ 205، والمحرر الوجيز، ابن عطية 2/ 59، ومجمع البيان، الطبرسي 3/ 93، والدر المنثور 2/ 166، ودروس تمهيدية في تفسير آيات الأحكام، باقر الأيرواني 1/ 286.
16) ظ: المحرر الوجيز 2/ 59، والجامع لأحكام القرآن، القرطبي 5/ 224 ط2.
17) انظر:أحكام القرآن، ابن العربي 1/ 425، موسوعة الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي 1/276.
18) موسوعة الفقه الإسلامي وأدلته 1/ 275، ط3 دار الفكر 1989م.
19) ظ: جامع البيان 5/105، الطوسي3/205.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.