بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين، إلى يوم الدين.
عاش الأئمة من بعد الإمام الحسين (صلوات الله عليهم أجمعين) في ظل حكومات الجور والطغيان، (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ)(إبراهيم:28ـ 29)، من بني أمية، إلى بني مروان، إلى بني العباس، (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) (الأعراف: 38)، بل قد أصبح من أساسيات توطيد أركان ملكهم هو نصب العداء لأهل بيت النبوة وأتباعهم وشيعتهم، وقتلهم وتشريدهم.
فقد قاسى الأئمة(عليهم السلام) وشيعتهم وأتباعهم أنواع البلاء من الحكّام والمتسلّطين، من السجن والتشريد والأذى والظلم والاستخفاف، والشواهد على ذلك كثيرة جداً.
أبادوهم قتلاً وصلبــًا وفي بنًا
وسمًّا وتعذيبـًا وإقبـار آبار
وحرقًا وتمثيلًا وسجنًا وغربة
وسبيًا وتشريدًا وغصّة أكدار
ويكفينا في هذا الصدد ذكر نموذج من الظرف الذي عاشه الأئمة(عليهم السلام)، والذي يعتبر واحدًا من بين عشرات القصص والشواهد التي من خلالها يتجلى لنا وبوضوح كيف كان الظرف حساسًا وحرجًا.
فقد روى الكليني بسنده عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه دخل على أبي العباس السفاح عندما كان بالحيرة، وكان ذلك اليوم هو اليوم الأخير من شهر رمضان، يقول(عليه السلام): (فسلمت عليه، فقال: يا أبا عبد الله، أصمت اليوم؟ فقلت: لا، والمائدة بين يديه)، فقال له السفاح: ادنُ فكُل، فدنا الإمام الصادق(عليه السلام) فأكل، وقال للسفاح: (الصوم معك والفطر معك)، فقال بعض الحاضرين للإمام الصادق(عليه السلام): تفطر يومًا من شهر رمضان؟ فقال: (إِي واللَّه أَنْ أُفْطِرَ يَوْماً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقِي)(1).
ومعلوم أن هذه القصة حصلت في فترة رخاء نسبي، حيث إن الأدوار التي مرت بهم(عليهم السلام) مختلفة في ما بينها شدةً ورخاءً.
وقد أعرضنا صفحاً عن ذكر مثل سجن الإمام الكاظم(عليه السلام) وإيقاف الإمام الصادق (عليه السلام)
بين يدي المنصور العباسي، لوضوحها عند القارئ الكريم.
هذا، ولم يكن مصدر الظلم مقتصراً على خلفاء الجور وعمّالهم، بل تعدّاه إلى عامة الناس، فمكة والمدينة والشام والبصرة وغيرها من البلاد تشتمل على أكثرية ساحقة ممن ينصبون العداء ـ وبشكل علني ـ لأهل البيت(عليهم السلام)، والشواهد على ذلك كثيرة، نذكر منها ما يعكس صورة جليّة للقارئ الكريم.
فهذا مسمع كردين البصري عندما يسأله الإمام الصادق(عليه السلام) أنه هل يزور قبر الحسين(عليه السلام)، يجيب بالنفي، وأنه لا يستطيع أن يغيب عن بلده مدّة ويذهب إلى كربلاء، ويعلّل ذلك بأنه شخص معروف عند أهل البصرة، وفي البصرة جماعة غير قليلة من أتباع الخليفة، والمتزلّفين إلى الوالي، وإذا علموا بذهابه إلى كربلاء ربما يرفعون قضيته إلى الوالي، والوالي بدوره يعاقبه، وربما يصل الحال إلى قتله.
ومن قول الفضيل بن يسار: (وليس على رأينا بالبصرة إلا قليل) تعرف أن أكثر أهل البصرة في ذلك العصر هم من أتباع الولاة الظلمة، بل من غير الموالين
لأهل البيت (عليهم السلام).
وقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أن الحسين(عليه السلام) لما قتل بكاه كلّ شيء، إلا البصرة والشام وآل عثمان، ويقصد أهل البصرة وأهل الشام.
كما ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قوله: ما بمكة ولا بالمدينة عشرون رجلاً يحبّنا(2).
بل حتى الكوفة، فبالرغم من كون غالبية أهلها هم من أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، كما هو واضح لمن يطّلع على تأريخ الكوفة والكوفيين، ومع ذلك تجد بينهم عدداً غير قليل من المناوئين والمخالفين لهم(عليهم السلام)، كـ (كثير النوا)(3) وأتباعه.
فقد كانت في الكوفة امرأة من المواليات لأهل البيت(عليهم السلام)، تدعى أم خالد، ولولائها وميلها إلى زيد بن علي(عليه السلام) قطع يدها والي الكوفة يوسف بن عمر.
وحدّثنا أبو بصير بالحوار الذي جرى بينها وبين الإمام الصادق(عليه السلام) حول تولّي أعداء الدين والتبرّي منهم، حيث سألت أم خالد الإمامَ(عليه السلام) عن أنها هل تتولى فلان وفلان، فقال (عليه السلام) لها: تولّيهما، فقالت: فأقول لربي إذا لقيتُه أنك أمرتني بولايتهما؟ قال: نعم.
فكأن أم خالد لم تقتنع، فقد بدا الجواب غريباً عليها، فقالت: فإن هذا الجالس معك على فراشك ـ تعني أبا بصير ـ يأمرني بالبراءة منهما، وكثير النوا يأمرني بولايتهما، فأيهما أحب إليك؟ فقال(عليه السلام): هذا ـ والله ـ وأصحابه أحبّ إليّ من كثير النوا وأصحابه(4).
والملاحظ هنا أن الإمام الصادق (عليه السلام) أمرها بتولّيهما في أول كلامه، ولم يأمرها بالتبرّي، لا في أول الكلام ولا في آخره، وإنما أخبرها بأن أبا بصير وأصحابه أحبّ إليه من كثير النوا وأصحابه.
وقد بيّن(عليه السلام) غايته في عدم أمرها بالتبرّي منهما بقوله: إني خشيت أن تذهب، فتخبر كثير النوا، فتشهرني بالكوفة.
ثم ختم(عليه السلام) كلامه مع أبي بصير بقول: اللهم إني إليك من كثير النوا بريء في الدنيا والآخرة(5).
فلم يبتلوا(عليهم السلام) بحكام الجور فقط، بل تعدّاه إلى عامة الناس، ممن أعلنوا ولاءهم لخلفاء الجور، فالتزموا بكل ما يتّرتب على ذلك الولاء، وقاموا بكل ما تستدعيه تلك العبودية للطغاة، ومن ضمنها نصب العداء لأهل بيت رسول الله (صلوات الله عليهم أجمعين)، وهكذا شيعتهم ومواليهم، والكيد لهم، ومتابعة تحركاتهم، وإيصال أخبارهم إلى حاكم الجور.
وأنت خبير بأن الأئمة(عليهم السلام) أصحاب رسالة، كلّ في زمانه، وعليهم أن يؤدوا دورهم المقرّر، مع خلق موازنة منقطعة النظير في تصرفاتهم وما يقومون به من أفعال، وعلى جميع الأصعدة، من دون إفراط ولا تفريط.
وفي محاولة سريعة لمعرفة الدور السياسي والاجتماعي والتربوي الذي كان يمارسه الأئمة (صلوات الله عليهم) نذكر ـ بشكل إجمالي مقتضب ـ بعضًا مما كانوا يقومون به، كامتداد للنبوّة الخاتمة..
أولًا: مداراة حكام الجور وولاتهم.
ففي حين كان حكام الجور يخافون من قيام الأئمة(عليهم السلام) بثورة ضدّهم، لأنهم يعلمون مسبقاً بأنهم(عليهم السلام) هم الأولى بالإمامة والخلافة، فهم يتوقّعون مطالبة الأئمة(عليهم السلام) بحقّهم، والانقلاب على الحاكم، بل ويرون أن ثورات العلويين إنما كانت بأمر من الإمام.. في الوقت ذاته كانوا(عليهم السلام) يؤكّدون ـ مرارًا وتكرارًا ـ على أنهم لا يحاولون الانقلاب، بل ولا يفكّرون فيه، حتى ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه كان يتمنى أن يأذن له المنصور لكي يتخذ بيتًا بالطائف، يسكنه ويُسكن معه أصحابه، ويضمن للمنصور العباسي أن لا يصله أيّ مكروه منه(عليه السلام).
وفي مقابل هذا كله ما كانوا(عليهم السلام) ليتركوا وعظ حكام الجور، في حال وجود فرصة لوعظهم والإنكار عليهم، وبيان خطئهم، ومحاولة تصحيح مسيرتهم، إلقاءً للحجة، فعندما يقع الذباب على المنصور ويضجر منه يتوجه للإمام الصادق(عليه السلام) متعجّباً ومتسائلاً: لِمَ خلق اللهُ الذبابَ؟ فينبري له الإمام(عليه السلام) بقوله: ليذلّ به الجبابرة(6).
وواضح ما لهذا الجواب من صراحة في أن المنصور الذي وقع عليه الذباب وأضجره، هو أحد تلك الجبابرة.
وكذلك الأبيات التي أنشدها الإمام الهادي(عليه السلام) في مجلس شراب المتوكل، في قصتها المعروفة، والتي كانت تهدف إلى وعظ المتوكل وتذكيره، ووعظ الحضور، وإن كان(عليه السلام) على علم بأن الموعظة سوف لا تؤثر بهم إلا تأثيرًا آنيًّا.
ثانيًا: مداراة عامة الناس ممن ينصبون العداء لهم (عليهم السلام)، والتعامل معهم برفقٍ ولين، وذلك لأسباب عديدة؛ يرجع بعضها إلى تجنّب شرّهم، وردّ كيدهم في نحورهم، وبعضها الآخر يرجع إلى محاولة هداية أكبر عدد ممكن من المغرّر بهم، والذين عملت الدعاية على إضلالهم وحرفهم عن المسار الحقّ.
فكم من شاميّ يدخل المدينة وليس على وجه الأرض أبغض له من علي وآل علي (صلوات الله عليهم أجمعين)، لكن بمجرّد التقائه بالمعصوم(عليه السلام) تتغيّر نظرته عن أهل البيت(عليهم السلام)، ويصبح من محبّيهم، حيث كان الإعلام قد أضلّه وأغواه وأبعده عن جادّة الصواب.
ثالثًا: المحافظة على شيعتهم(عليهم السلام) خصوصًا في تطبيق الأحكام الشرعية.
فقد بات واضحًا أن الأحكام الشرعية كان لها نصيبها الوافر من التحريف والتغيير، بما يتناسب ومصالح الطغاة، وبتعاقب السنين وانتقال الخلافة من جائر إلى جائر لم تكن هناك محاولة من الحكام لتصحيح مسار الأحكام الشرعية، بل بقيت على تحريفها ومجانبتها للحكم النازل من السماء، والذي أراده الله تعالى أن يكون دستورًا، يعمل على وفقه الناس، فيكون سببًا لسعادتهم.
مضافًا إلى أن كثيرًا من الظروف السياسية ما كانت تتيح للمعصوم(عليه السلام) بيان الحكم الشرعي الحقّ، وتصحيح ما هو عالق في أذهان الناس، ذلك لأن الدولة تتبنّى الحكم الشرعي المحرّف، وليس من السهل مجابهتها والنقض عليها، والتجاهر ببيان حكم مختلفٍ عما تتبنّاه، بل الذي يتجاهر بالعمل على خلاف ما عليه الحاكم لا يأمن على نفسه من سيف الظلم.
هذا من جانب، ومن جانب آخر لم يكن ـ غالباً ـ بوسع أصحاب الأئمة(عليهم السلام) أن يظهروا ظهورًا يميّزهم، بحيث يكونون مجموعة مشخّصة، يشار إليهم بالبنان، لهم فقههم الخاص المخالف كثيرًا لفقه الحكّام، كما ويختلفون في أوقات صلواتهم، وفي كيفية أدائهم بعض العبادات، فإن ذلك مما يهدّدهم، بل ربما يوصلهم إلى ما لا يُحمد.
ولذا نرى الأئمة(عليهم السلام) ـ خوفاً على شيعتهم، بل على أنفسهم أيضًا ـ كانوا (تارة): يبينون الحكم الشرعي الموافق للعامة، حتى وإن كان مخالفاً للحقّ، و(أخرى): لا يَدَعُون أصحابهم يؤدون فريضة الصلاة في وقت واحد في المسجد ـ مثلاً ـ، لئلا تسلّط عليهم الأضواء ويعرفوا، كما أُثر ذلك عن الإمام الصادق(عليه السلام)، حيث أخبره بعض أصحابه بأنه يدخل المسجد، فيجد أتباعه(عليه السلام) بعضهم يصلّي الظهر، وبعضهم الآخر يصلي العصر، بمعنى أنهم لم يصلّوا كلّهم في أول الوقت، بل بعضهم يتأخر عن بعض، فقال الإمام(عليه السلام): (أَنَا أَمَرْتُهُمْ بِهَذَا لَوْ صَلَّوْا عَلَى وَقْتٍ وَاحِدٍ عُرِفُوا فَأُخِذَ بِرِقَابِهِمْ)(7).
وهذا المجال ـ أيضًا ـ شواهده كثيرة جدًا، يكفينا ذكر قصة علي بن يقطين، الذي كان على ارتباط وثيق بالبلاط العباسي، وفي عصر الرشيد تحديدًا، حيث كتب إلى الإمام الكاظم(عليه السلام) يسأله عن كيفية الوضوء، فورد عليه جواب الإمام(عليه السلام)
يتضمن أمره بأن يتوضأ الوضوء المعروف عند غيرنا، المتفق على بطلانه عندنا، فقد جاء في الجواب: (تغسل وجهك ثلاثاً، وتخلّل شعر لحيتك، وتغسل يديك إلى المرفقين ثلاثاً، وتمسح رأسك كله، وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً)، كما ونهاه أن يخالف هذا الترتيب في وضوئه.
فلما وصل الجواب إلى علي بن يقطين تعجّب منه أشد العجب، ذلك لأن الشيعة مجمعون على بطلان الوضوء إذا كان بهذه الكيفية، ثم قال: مولاي أعلم بما قال، وأنا أمتثل أمره، فما زال يتوضأ بهذا الشكل، ويخالف ما عليه جميع الشيعة، كل هذا امتثالًا لأمر الإمام الكاظم(عليه السلام)، حتى سُعي بعلي بن يقطين إلى الرشيد، وقيل له: إنه يذهب مذهب الرافضة، عند ذلك أراد الرشيد امتحانه في الوضوء، فقعد ينظر إلى وضوئه من حيث لا يشعر علي بن يقطين، فلما نظر إلى وضوئه ناداه: كذب من زعم أنك من الرافضة.
بعد هذه الحادثة جاءه كتاب من الإمام الكاظم(عليه السلام) فيه: (ابتدئ من الآن ـ يا علي بن يقطين ـ وتوضأ كما أمرك الله تعالى، اغسل وجهك مرة… واغسل يديك من المرفقين كذلك، وامسح بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما كنا نخاف منه عليك)(8).
وهنا عرف علي بن يقطين السبب في تعليمه الوضوء الذي عليه العامة، مع أنه متفق على بطلانه عند الشيعة.
رابعًا: تربية الشيعة دينياً، وزرع روح التقوى والورع ومكارم الأخلاق في نفوسهم. فكل واحد من الأئمة(عليهم السلام) كان له دور كبير ـ وبمختلف الأساليب ـ في وعظ أصحابه ومحبّيه، وتذكيرهم، وحثّهم على التزوّد من دار الفناء لدار البقاء، والتحلّي بالأخلاق الحميدة، وخير دليل على ذلك كتاب (نهج البلاغة) وما تضمنه من مواعظ لأمير البلاغة ربيب القرآن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وكذلك ما أوصله إلينا علماؤنا من حديثهم (صلوات الله عليهم).
وكانت تلك التربية الروحية لها أعظم الأثر في نفوس أتباعهم، حتى إن حسن الخلق وطيب المعاشرة صارا من الصفات الملازمة لشيعة أهل البيت(عليهم السلام).
فعندما يتعرض ابن أبي الحديد لسجاحة خلق أمير المؤمنين(عليه السلام) ولين جانبه، يقول: (وقد بقي هذا الخُلُق متوارثًا متناقلًا في محبّيه وأوليائه إلى الآن، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر. ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك)(9).
ولم يقتصر الأئمة(عليهم السلام) في تلك التربية على أتباعهم ومحبيهم والمعتقدين إمامتهم، بل تعدّوهم إلى مخالفيهم، بل حتى إلى من ينصب لهم العداء أيضاً، فكانوا(عليهم السلام) يختارون الوقت المناسب لإلقاء الموعظة بين يدي الطرف الآخر، من أجل إلقاء الحجة عليه،وليجعله مذعنًا للحق،لا يستطيع إنكاره.
وما نراه خارجًا من كثرة وعظ الأئمة (عليهم السلام)
لشيعتهم، وقلّة وعظهم لمخالفيهم، إنما سببه هو أن المخالف لا يسمع لهم، بل بعضهم لا يرونهم أهلًا للوعظ، بل كان كثيرًا ما ينعكس الأمر، فبعضهم كان يحاول وعظ الإمام(عليه السلام)، إلا أن الإمام(عليه السلام) يردّ عليه موعظته، ويوقفه على خطئه.
خامسًا: ردّ الشبهات العقائدية التي يحاول الحكام أو غيرهم إشاعتها، بغية تزلزل عقيدة شريحة من الناس، مضافًا إلى مناظرة الخصوم الذين تأثروا بالباطل، وغرّهم إعلام حكومات الجور.
وهذا الأمر كما قام به الأئمة(عليهم السلام)
أنفسهم، فتصدّوا للمناظرات والاحتجاجات
مع الخصوم، خصوصًا في أمر الإمامة، وما أبقوا للخصم مجالًا يلوذ به في معاندته للحق، فإما أن يُذعن ويعترف ببطلان ما هو متمسّك به، وإما أن يصرّ على رأيه مستكبراً (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّاً) (النمل: 14).
كذلك عَمَدوا(عليهم السلام) إلى تدريب وتهيئة جماعة من أصحابهم على المناظرات، عندما وجدوا فيهم القابلية لذلك.
فيوم دخَلَ الشاميُّ على الإمام الصادق (عليه السلام)
من أجل أن يناظر أصحابه، ما كان عند الإمام(عليه السلام) إلا يونس بن يعقوب، فتكلم الإمام(عليه السلام) مع الشامي ودحض حجّته، ثم قال ليونس بن يعقوب: يا يونس، لو كنت تُحسن الكلام كلمته، فقال يونس: فيا لها من حسرة، تأسفاً لعدم قدرته على المناظرة.
ثم أمره الإمام الصادق(عليه السلام) أن يخرج فيُدخل عليه جماعة من أصحابه من المتكلمين، ممن تدرّبوا على إفحام الخصوم، يقول يونس: فأدخلت حمران بن أعين وكان يحسن الكلام، وأدخلت الأحول وكان يحسن الكلام، وأدخلت هشام بن سالم وكان يحسن الكلام، وأدخلت قيس بن الماصر وكان عندي أحسنهم كلاماً، وكان قد تعلم الكلام من علي بن
الحسين(عليهما السلام).
ثم إن الإمام الصادق(عليه السلام) أخرج رأسه الشريف من الخباء فنظر إلى هشام بن الحكم وقد أقبل، فقال(عليه السلام): هشام ورب الكعبة، فرحًا بقدوم هشام.
ثم إن هؤلاء الأعيان الذين دخلوا على الإمام الصادق (عليه السلام) حاججوا ذلك الشامي وغلبته حجّتُهم، حتى أذعن وأقرّ بالحقّ(10).
وهذه القصة تدلّنا على كون هؤلاء تعلّموا أصول المناظرة منهم(عليهم السلام)، حيث تذكر أن قيس بن الماصر تعلّم الكلام من الإمام زين العابدين(عليه السلام)، رغم قساوة تلك الفترة سياسيًا، وانعزال الإمام(عليه السلام) عن الساحة، كما أنها تشير من طرف خفيّ إلى تشجيعهم(عليهم السلام) على تلك المناظرات، خصوصًا بعد قول الإمام الصادق(عليه السلام) لهشام عقيب تلك المناظرة مع الشاميّ: (مثلُك فلْيكلّم الناس، فاتّق الزلة، والشفاعة من ورائك إن شاء الله)(11).
وهكذا عشرات المجالات، كرفع معنويات بعض الشيعة بإراءته معجزة من معاجزهم(عليهم السلام)، ودفع مساعدات مالية لمن يضطهده الحاكم، أو يضيق عليه الرزق، والتأكيد على ظلاماتهم وخصوصاً ظلامة سيدة النساء والإمام الحسين (صلوات الله عليهما)، وغير ذلك مما يضيق المقام عن ذكره، كله على عاتق الإمام(عليه السلام)، هو المسؤول عنها، وعليه أن يتعامل معها بغاية الدقّة.
وفي هذا الصدد يحسن أن أذكر قصة نتعرّف من خلالها إلى ظروف الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) السياسية والاجتماعية، وكيف كان(عليه السلام) يتعامل مع تلك الظروف، فقد روى ابن شهراشوب في (مناقب آل أبي طالب) أن الإمام العسكري (عليه السلام)
دعا أحد خدمه، فدفع إليه خشبة طويلة ملء الكف، وأمره أن يذهب بها إلى العَمري، ومعلوم أن العَمري كان على جانب من الجلالة والوثاقة عند الإمامين
العسكريين (عليهما السلام).
فمضى الرجل في مهمّته، فلما صار في بعض الطريق زاحمه سقّاء معه بغل، فناداه السقّاء أن يرفق بالبغل ويمهله حتى يمرّ، فرفع الرجلُ الخشبةَ التي كانت معه وضرب بها البغل، فانشقّت الخشبة، فإذا فيها كتب ورسائل، يريد الإمام(عليه السلام) إيصالها إلى العَمري بشكلِ لا يطّلع عليه أحد، يقول: فبادرت سريعًا، فرددت الخشبة إلى كُمّي، فجعل السقاء يناديني، ويشتمني ويشتم صاحبي.
فرجع الرجل إلى الدار، فلما قرُب استقبله عيسى الخادم من الباب الثاني، فقال: يقول لك مولاي (أعزه الله): لِمَ ضربت البغل وكسرت الخشبة؟ فقلت له: يا سيدي، لم أعلم ما الخشبة، فقال له الإمام(عليه السلام): إذا سمعت لنا شاتمًا فامض لسبيلك التي أُمرت بها، وإياك أن تجاوب من يشتمنا، أو تعرّفه من أنت، فإنا ببلد سوء، ومِصر سوء، وامض في طريقك، فإن أخبارك وأحوالك ترد إلينا(12).
وفي هذه القصة دلالات واضحة للقارئ الكريم لا حاجة إلى تفصيلها.
وختامًا أودّ التنويه إلى أن ما ذكرناه من أدوار للأئمة(عليهم السلام) لا نقصد به أن كل واحد منهم (صلوات الله عليهم) قام بجميع تلك الأدوار، ذلك لأن ظروفهم متباينة مختلفة، وكل واحد منهم إنما كان يعمل حسب ما يحتّم عليه ظرفه المحيط به.
وكلّي أملٌ بأني قد أوصلت للقارئ الكريم فكرة موجزة عن الظروف العصيبة التي مرت بأهل البيت (صلوات الله عليهم) وبشيعتهم، وما قاموا به من أدوار في ظلّ تلك الظروف.
نشرت في العدد 62
1) الكافي ج4 ص83.
2) الغارات/إبراهيم الثقفي الكوفي/ج2 ص573.
3) كثير النوا: كثير بن قاروند، بتري، كوفي، عامي. (معجم رجال الحديث/السيد الخوئي/ج15 ص112)
4) الكافي للكليني/ج8 ص101.
5) البحار للمجلسي/ج30 ص241.
6) المناقب لابن شهراشوب ج3 ص375.
7) الكافي/ج3 ص277
8) وسائل الشيعة/الحر العاملي ج1 ص444.
9) شرح النهج ج1 ص26.
10) الكافي/ج1 ص172.
11) م.ن.
12) المناقب/ج3 ص529.