لم يشك أحد في علو شأن الشيخ الأنصاري وسمو مرتبته، وأنه هو المجدد للقرن الثالث عشر الهجري، وهو الذي أعطى للأصول هذا الثوب الجميل، وإليه يرجع الفخر في توسعة الاستدلال هذا الشكل الدقيق، فقد اعتاد أن يشبع البحث من كل الجهات حين الدخول فيه. فعلم الأصول الذي يعد من أهم العلوم، إذ كان وما زال رصيدًا للاجتهاد الحي والمتطور، وقد وصل إلى ذروته وقد أرسيت قواعده الرصينة بيد الشيخ الأنصاري(قدس سره)، فحقيق أن يقال له:
أستاذ المجتهدين والفقهاء المحققين .
اسمه ونسبه:
مرتضى بن الشيخ محمد أمين بن الشيخ مرتضى… ويصل نسبه إلى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري(رضي الله عنه). ولأجل كون انتهاء نسبه إلى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) كانت تسميته بالأنصاري (1).
ولادته:
ولد في عيد الغدير سنة 1214 هـ في مدينة دزفول. وهي بلدة جنوبية من بلاد إيران…أبوه محمد أمين كان من العلماء والوجهاء في مدينة دزفول، وأمه من الصالحات العابدات حيث لم تترك صلاة الليل طيلة حياتها. وكان ولدها الشيخ الأنصاري يعتني بها كثيراً، إلى أن
توفيت (2).
أسفاره:
كان كثير السفر لأجل الاطلاع على العلماء في كل مكان والاستفادة منهم، فكان أول سفر قام به سنة 1232هـ، مع والده إلى العراق لأجل الزيارة. وكان عمره آنذاك ست عشرة سنة. فبقي أربع سنوات في كربلاء مع والده، ثم رجع إلى مدينته دزفول.
ثم رجع إلى كربلاء بعد سنة تقريباً فبقي فيها سنة أو أكثر، ثم عاد إلى النجف الأشرف. ثم ذهب إلى زيارة الإمام الرضا (عليه السلام)، وصحبه أخوه الشيخ منصور. بعد مروره ببلده (دزفول).
فلما وصل إلى بروجرد ـ وهي مدينة في الطريق إلى مشهد ـ، بقي فيها شهراً.ومنها إلى أصفهان، وبعد عدة أيام في أصفهان ذهب إلى كاشان، فبقي فيها أربع سنوات، ثم إلى مدينة مشهد مقصده الأساس من هذا السفر. وبعد الزيارة رجع إلى دزفول وكان أهلها يترقبون مجيئه، فخرجوا باستقباله على بعد أربعة فراسخ من دزفول. بقي عدة سنوات، ثم ذهب إلى شوشتر ليسافر منها إلى النجف الأشرف، وكان ذلك سنة 1249ه.
ولما وصل إلى النجف الأشرف بقي فيها يواصل التدريس والتحقيق والتأليف ولم يخرج منها إلا إلى الحج، وبعد أداء الحج رجع إلى النجف، حيث كان مثواه النهائي فيها(3).
دراسته ومكانته العلمية:
حينما سافر إلى كربلاء مع والده وهو شاب التقى والده بالسيد محمد المجاهد العالم المعروف، فلفت ذكاء الشيخ انتباه السيد من خلال محادثته، فطلب السيد من والده أن يبقي الشيخ في كربلاء فوافق، وبقي الشيخ في كربلاء، وتعهد السيد بجميع ما يحتاجه(4)….
ومما يدل على مقام الشيخ الشامخ وعلمه الغزير، أنه لما وصل إلى كاشان،
وبقي فيها أربع سنوات ليستفيد من الملا أحمد النراقي، قال الشيخ النراقي عندما أراد مفارقته: استفادتي من هذا الشاب – أي: الشيخ الأنصاري – أكثر من إفادتي له. وهكذا كان لا يدخل مدينة إلا ويسبقه إليها صيته العلمي ولا يضيع وقته سدى سواء في السفر أو الحضر.
وبعد الأسفار الطويلة استقر في النجف ليستفيد من علمائها، فحضر درس الشيخ الجواهري، وحضر درس الشيخ علي بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء وهو آخر أستاذ درس عنده الشيخ الأنصاري، ومن بعده لم يدرس على أحد، بل كانت له حوزة مستقلة عامرة يدرّس فيها…ولما توفي الشيخ علي كاشف الغطاء كانت زعامة الشيعة بيد الشيخ حسن كاشف الغطاء أخي الشيخ علي، والشيخ محمد حسن صاحب الجواهر…وبعد وفاة الشيخ حسن كاشف الغطاء عام 1262ه اختصت المرجعية بالشيخ محمد حسن صاحب الجواهر. وفي سنة 1266ه مرض صاحب الجواهر، فأمر بتشكيل مجلس يحوي جميع العلماء، فلما حضر جميع العلماء عنده قال صاحب الجواهر: أين الشيخ مرتضى، ثم أمر بإحضاره، فلما بحثوا عنه وجدوه في حرم أمير المؤمنين(عليه السلام) يدعو لصاحب الجواهر بالشفاء، وعند انتهائه من الدعاء حضر عند صاحب الجواهر، فأجلسه على فراشه وأخذ بيده ووضعها على قلبه وقال: الآن طاب لي الموت، ثم قال للحاضرين: هذا مرجعكم من بعدي، ثم قال للشيخ: قلل من احتياطاتك، فإن الشريعة سمحة سهلة. لما كان يعرفه منه من كثرة احتياطاته في الأحكام الشرعية مع عدم دلالة الدليل على ذلك(5).
وهذا العمل من صاحب الجواهر ليس إلا لتعريف شخصية الشيخ الأنصاري وأعلميته، وإلا فالمرجعية غير قابلة للوصية… فاستلم شيخنا الأنصاري(قدس سره)
زعامة الشيعة ومرجعيتها من سنة 1266 إلى سنة 1281. أما عصره فإنه يمتاز بكثرة العلماء والمجتهدين ويعتبر من العصور المنيرة، ومع هذا نرى نور الشيخ الأنصاري طغى على الجميع وعلمه وصل إلى أعلى حد، بحيث اتفقت الشيعة بأجمعها على مرجعيته واقتدى به جميع العلماء واستفادوا من نمير علمه(6).
مشايخه:
شيخنا الأنصاري لم يكن تلميذاً كبقية التلاميذ، بل كان يغتنم الفرص عند دراسته لأجل فتح المباحثات العميقة مع أساتذته، حتى قال أستاذه النراقي فيه ما قال، لذا فنحن نذكر بعض فطاحل العلماء الذين حضر عندهم:
1ـ السيد صدر الدين العاملي.
2ـ الشيخ موسى بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء.
3ـ الشيخ علي بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء.
4ـ الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر.
5ـ السيد محمد المجاهد.
6ـ الملا أحمد النراقي.
7ـ الملا محمد المازندراني المعروف بـ (شريف العلماء). وآخرين.
تلامذته:
لو تفحصنا في الفترة ما بين أواسط القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر لوجدنا أكثر المجتهدين والعلماء المحققين من تلامذته، وهذه البرهة من الزمن هي وقت رواج العلم ووصوله إلى أوجه، ولا نبالغ إن قلنا: إن عدد تلاميذه البارزين يبلغ المئات. وقد أثرت عبارات كثيرة على ألسن العلماء المعاصرين وغيرهم من أن كل من أتى بعد الشيخ الأنصاري هو تلميذ له لأنه قد أسس أصولاً للفقه بشكل جذري. لذا لا مجال لسرد تلامذته إلا من أجل السياق فنذكر أهمهم:
1ـ السيد أحمد التفريشي.
2ـ الشيخ جعفر كاشف الغطاء.
3ـ الميرزا حبيب الله الرشتي.
4ـ السيد جمال الدين ألأسد آبادي المعروف بجمال الدين الأفغاني.
5ـ الميرزا حسن الآشتياني.
6ـ حسين النوري صاحب مستدرك الوسائل.
7ـ المجدد الشيرازي السيد محمد حسن.
8ـ الشيخ محمد طه نجف.وغيرهم الكثير(7).
مؤلفاته:
ولقد اكتسبت مصنفاته حظًا عظيمًا، فرسائله ومكاسبه مضافًا إلى أن عليها مدار التدريس شذ من لم يعلق عليها من مشاهير العلماء بعده، فممن علق على الرسائل ميرزا موسى التبريزي والميرزا حسن الآشتياني والشيخ حسن المامقاني والشيخ ملا كاظم الخراساني والشيخ آغا رضا الهمداني، وكل حواشيهم مشهورة مطبوعة، وممن علق على المكاسب السيد كاظم اليزدي والشيخ آغا رضا(8).
ألف شيخنا الأعظم كتباً كثيرة مشتهرة، عليها مدار التدريس في الحوزات العلمية، ووصلت شهرة كتبه درجة بحيث لم يكد يجهل بها أحد، وذلك لما تحويه مؤلفاته من دقة وإمعان نظر وتحقيقات جديدة، بحيث إنه لما يدخل في بحث ما لا يترك صغيرة وكبيرة إلا ويذكرها. فمن أشهر تلك المؤلفات:
1ـ المكاسب المحرمة.
2ـ فرائد الأصول….. إضافة إلى ما يقارب تسعة وعشرين مؤلفاً ما بين كتاب ورسالة في الفقه وأصوله.
أقوال العلماء في حقه:
(رزقنا الله الاجتهاد، الذي هو أشدّ من طول الجهاد) هذه الكلمة للشيخ الأنصاري نقلها عنه السيد حسين البرجوردي في بعض دروسه على تلامذته، حيث ذكر أن الشيخ كان يرددها، ثم علق عليها السيد البرجوردي بقوله: (هذه الكلمة الصادرة عن شخصية لامعة في سماء العلم والفضيلة وعن بطل كبير في مجالي الفقه والأصول من الذين لا يسمح بهم الدهر إلا في فترات يسيرة ويضن بهم إلا في الفينة بعد الفينة …. أن الشيخ الأعظم – وهو أستاذ الفقهاء والمجتهدين وقد عكف على كتبه العلماء واستضاء بنور علمه – الفضلاء يتمناه ويطلب منه سبحانه أن يرزقه )(9).
وقد مدح شيخنا الأنصاري كثير من العلماء الربانيين وغيرهم الذين جاؤوا بعده. بل إن المناوئين له لم يتمكنوا من إخفاء إعجابهم به، فقد رآه النائب السياسي لبريطانيا في مدينة المدائن في الصحراء قاصداً زيارة سلمان المحمدي، فقال: (أقسم بالله هو عيسى بن مريم أو نائبه الخاص). كما وصفه والي العراق عندما سأله السلطان العثماني عنه بأنه الفاروق الأعظم. ومن كانت هذه أوصافه عند أعدائه كيف تكون عند أوليائه؟(10)
والفضل ما شهدت به الأعداء..
تقواه وزهده وتواضعه:
كان الشيخ الأعظم مصداقاً لجميع مكارم الأخلاق، اقتداءً منه بنبيه الأكرم محمد وأئمته الأطهار سلام الله عليهم أجمعين. فلما توفي صاحب الجواهر بعد أن ذكر للعلماء أن أعلم الناس بعده هو الشيخ الأنصاري، امتنع الشيخ من الفتوى وأرسل رسالة إلى سعيد العلماء المازندراني وقال له: بأنا لما كنا في كربلاء وكنا نحضر درس شريف العلماء كانت استفادتك وفهمك أكثر مني، فالآن الأولى لك أن تأتي إلى النجف وتستلم هذا الأمر المهم. فأجابه سعيد العلماء: بأن قولك صحيح، لكنك كنت في هذه المدة مشغولًا بالدرس والتدريس والمباحثة، وأنا تسلمت أمور الناس، فأنت أولى مني. فلما وصلت رسالة سعيد العلماء إليه ذهب إلى حرم أمير المؤمنين(عليه السلام) وطلب منه أن يعينه على هذا الأمر الخطير، وأن يحفظه من الوقوع في الخطأ والزلل(11).
والشيخ مع عظمته العالية كان يصغي إلى كل من يتكلم أو يسأل في مجلس درسه وإن كان من أصاغر طلبته. وكانت عادة الشيخ في كل ليلة جمعة أن يقيم مجلس العزاء، ثم يطعم بعض الفقراء.
وفاته ومدفنه:
توفي شيخنا في النجف الأشرف بداره في محلة الحويش، سنة 1281هـ ودفن في صحن أمير المؤمنين(عليه السلام)في الحجرة المتصلة بباب القبلة وقبره معروف لحد الآن وعليه شباك.
فسلام عليه يوم ولد ويوم توفي ويوم يبعث حياً.
نشرت في العدد 62
1) مقدمة كتاب التقية للشيخ الأنصاري /بقلم فارس محمد رضا الحسون.
2) م.ن.
3) راجع أعيان الشيعة/ج10 ص116.
4) م.ن.
5) مقدمة كتاب التقية.
6) أعيان الشيعة/ج10 ص118.
7) مقدمة كتاب التقية.
8) أعيان الشيعة/ج10 ص118.
9) مقدمة كتاب المهذب للقاضي ابن البراج ج2ص4/ بقلم جعفر السبحاني.
10) مقدمة كتاب التقية.
11) م.ن.