ليست هذه الدراسة تكفي لوفاء العالم والمجتهد الكبير، فحياته أوسع من أن يشار إليها بالصفحات، وأكرم من أن تعرَّف، بعد أن أصبح اسمه يُردَّد على كل فمٍ ولسان. وإني لأرجو أن أضع بين أيدي القرّاء قليلاً مما يعتز به جيلنا ويفخر.
يعد السيد ميرزا مهدي الشيرازي واحداً من هؤلاء العظماء الذين أسهموا في حركتنا الفكرية والدينية والاجتماعية، له علينا حق الدرس والمراجعة، لأن في درسه خدمة لواقع الفكر الإسلامي المعاصر ولمستقبله وشخصيته، على تماس بين فكرها ومعتقدها، من أجل إيجاد أجواء متفتحة لتنمية المواهب الفكرية، فلابد من العمل في هذا المجال في الحوزة والوقوف على الحاجات العقلية في المجتمع. فهو يطلب من الناس أن يحرصوا على القواعد والآداب والأصول تماماً كما كان يفعل هو. لقد كان انعطافة في تاريخ كربلاء المعاصر، وله قدم راسخة في الدراسات الفقهية والأصولية على حدٍ سواء، وكان من رعاة الحركة العلمية، وله مآثر إصلاحية جليلة جعل الكربلائيين يندفعون ويتحمسون لنصرته ومساندته بما يشبه الإجماع العام.
مولده ونشأته ودراسته:
ولد السيد مهدي بن السيد حبيب في مدينة كربلاء سنة1304هـ(1) الموافق لسنة 1866م، ونشأ في بيت كريم تحف به مظاهر الحياة والنعمة، وتربى في أحضان والديه، ودرس مبادئ العلوم الأولية على أساطين العلم وجهابذة الأدب، ثم هاجر إلى سامراء وأقام بها لإكمال مقدمات دراسته، عاد بعدها إلى كربلاء، ومنها قصد النجف الأشرف، وتتلمذ على جمع من الأفاضل، وقد بقي مكباً على البحث والمراجعة آخذاً سبيل الزهد والانزواء والعبادة، ثم قفل راجعاً إلى كربلاء بإلحاحٍ من الزعيم السيد أقا حسين القمي الحائري، وبقي فيها إلى حين وفاته، عاملاً على إحياء الشريعة ونشر العلم رئيساً جليلاً، حتى أصبحت كربلاء تخطو خطوات واسعة إلى الأمام(2).
وعاش في الجو المتشبع بالخصال الطيبة. وكان له الفضل في تنبيه الأذهان والمذاكرة في الشؤون الدينية. إنه شخصية تملأ العقل والقلب، وتظل تقترب منك وتستولي عليك حتى ترى من خلالها الدنيا.
أساتذته:
نقل لنا المؤرخون أسماء جملة من أساتذته الذين درس عليهم، وهم من أكابر الفقهاء:
1ـ آقا رضا الهمداني.
2ـ الميرزا محمد تقي الشيرازي الحائري.
3ـ السيد محمد كاظم اليزدي.
4ـ الشيخ حسين النائيني.
5ـ الشيخ ضياء الدين العراقي.
6ـ السيد عبد الله التوسلي.
7ـ السيد حسين الهندي(3).
إجازاته:
تشير كتب السير والتراجم أنَّ إجازات الاجتهاد التي حصل عليها من علماء عصره كثيرة، وإجازات أساطين الحديث والدراية والرواية أيضاً. منها: إجازة الرواية لآية الله السيد حسين القمي وكذلك حجة الإسلام الميرزا محمد الطهراني السامرائي صاحب مستدرك بحار الأنوار وحجة الإسلام الشيخ آغا بزرك الطهراني صاحب (الذريعة) والمحدث الشيخ عباس القمي صاحب (مفاتيح الجنان) وغيرهم(4).
صفاته:
إن الله سبحانه وتعالى أعطى السيد الشيرازي الموهبة أو الصفة التي رفعته عالياً، فقد كان أنموذجاً للإباء، قوي الشخصية، متوقد الفكر واسع الصدر، ذكي القلب، عزيز الجانب، أحاط بالمعقول والمنقول حتى كان محط أنظار طلاب الحوزة العلمية، فلا تفتر له همة ولا يرجى لنفسه الخمول. كان متديناً زاهداً عابداً مهذباً في أخلاقه. وقد رزق بذاكرة قوية لا تنسى، وكان قارئاً فهماً محدثاً مكثراً ثقة أميناً مستوراً، يحب أفعال الخير، لذلك كان يستحق التعظيم والاحترام من الجميع.
جهاده ونشاطه السياسي:
في مستهل حياته العلمية شارك مع آية الله الشيخ محمد تقي الشيرازي الحائري في ثورته ضد الانكليز، كما أفتى مع مجموعة أخرى من الفقهاء إبان حركة مايس عام 1941م المصادف لسنة 1360هـ بضرورة الثورة ضد الإنكليز وطردهم من العراق. كما صاحب آية الله العظمى السيد حسين القمي الحائري في سفرته إلى إيران وشاركه في الحركة ضد الشاه رضا بهلوي الأول، مما اضطر دولته للاستجابة لمطالبهم. وكان له دور كبير في التصدي للمد الأحمر في العراق بعد ثورة 14 تموز 1958م/1387هـ، وكان لفتواه أعظم الأثر(5).
آثاره:
قرأ العلامة الكبير الشيء الكثير، لأنه قارئ يحاول أن يفهم، وهو مفكر يريد أن يبحث عن أشياء كثيرة في هذه الدنيا، قال كلمته ومشى، والتزم بقضايا المجتمع، يحمل في يده مصباحاً قوياً يوجهه في كل الاتجهات، وعنده رغبة في المعرفة وقدرة على الفهم لذلك صنَّف مجموعة من المؤلفات القيمة في شتى فروع العلم والمعرفة. وإن التراث الضخم الذي قدمه أثرى به المكتبة الإسلامية، ويشهد بقدرته الفائقة وثقافاته الواسعة ومكانته السامية كل العلماء والمؤلفين. وهذه أبرز آثاره:
1ـ الشرح على العروة الوثقى.
2ـ رسالة في مباحث أصولية.
3ـ كشكول في مختلف العلوم.
4ـ رسالة حول فقه الرضا.
5ـ تعاليقه على رسالة الأصطهباناتي.
6ـ تعليقه على رسالة السيد أبو الحسن الأصفهاني.
7ـ تعليقه على رسالة القمي.
8ـ تعليقه على العروة الوثقى.
9ـ ديوان شعره(6).
من خلال دراستنا لأعماله، تبين لنا بوضوح أن الرجل فقيه عصره، ومفكر من طراز رفيع، غني جداً بأفكاره، وليس المهم أن تطلق عليه صفة العالم أو المفكر أو الشاعر، وإنما هو يريد أن يعرف وأن يفهم وأن يعتبر بعد ذلك، وهذا هو الذي يشغله دائماً.
وإني لأهيب بأسرته في هذه الذكرى (ذكرى مرور نصف قرن أو يزيد على رحيله) أن تثابر مشكورة على نشر ما لم ينشر بعد من آثار هذا العالم الفذ الذي أفنى عمره من أجل العلم وإشاعته بين الناس، وخدمة للّغة والدين اللذين أحبهما والدهم أقصى غاية الحب.
شعره:
كانت للسيد مهدي القابلية الجمة على حفظ القصائد المطولة ودواوين الشعراء والأحاديث النبوية الشريفة وخطب أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) في نهج البلاغة، فقد جعلته القراءة المكثفة قادراً على قرض الشعر على اختلاف فنونه وأوزانه، فقد أولاه كل العناية. وفي شعره صدق الإحساس والكلمة الأصيلة والجمل المتناسقة المتواضعة بجمال الفن كلها طيّعات لفكره وقلمه، بعيدة عن اللبس والغموض، وإذا كان الشعر مرآة النفس، فالمترجم مرآة صافية لشعره. ومما تجدر الإشارة إليه أنّ الغالب على شعره هو مدائح النبي وأهل بيته ورثاؤهم، وهذه مقاطع من قصائده: قال من قصيدة بلغت 200بيتٍ أولها:
أرى وجد قلبي مستنير الجوانب
وفيض دمعي مستهل الذوائب
وقال طاب ثراه في مديح فاطمة
الزهراء (عليها السلام):
درة أشرقت بأبهى سناها
فتلألأ الورى فيا بشراها
بلغ الكون من سنا نور قدس
بسنا ناره أضاء طواها
وقال مادحاً الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)من قصيدة:
يا رسول الله يا حصن التقى كهف الورى
قم وجيعاً لابنك المسموم من أيدي العِدى
لهف نفسي للزكي المجتبى فرخ الرسول
حيث أمست منه شمس العز في ذل الأفول
رحيله:
باتت مدينة كربلاء ليلتها المشؤومة،
وفي جو خانق مكفهر تكاد تنكمش فيه القلوب، وتنقبض فيه الأنفاس وهي تقاوم ذلك الحدث بصبر وجلد، حتى إذا انبثقت خيوط مشرقة من كبد الفجر المضيء وراحت تقتحم ظلمات الليل المشؤوم وتمزقها تمزيقًا وتمحي آثارها الداكنة في أديم السماء، فعاد الصباح الباكر بانطلاقته المعهودة في موكب ضخم تحف به الشمس بهالة من نورها الأرجواني اللآلئ(7) حيث وافته المنية في اليوم الثاني والعشرين من شهر شعبان المعظم سنة 1380هـ/ 1960م فخسرت الحوزة العلمية بفقده علماً شامخاً ونبراساً مضيئاً، ولا يخامرنا أدنى شك بأن جهوده المضيئة التي بذلها في خدمة العلم والدين، والمرجعية كانت من جملة العوامل التي أنهكت قواه وأثرت في صحته العامة. وجرى له تشييع فخم لم تشهد كربلاء مثيلاً له اشتركت فيه كافة الطبقات كان من بينها وفد سماحة آية الله العظمى السيد محسن الحكيم من النجف الأشرف، ثم أُنهي به المطاف في مقبرة الزعيم آية الله الشيخ محمد تقي الحائري الشيرازي في الروضة الحسينية المقدسة، وأقيمت على روحه مجالس الفاتحة في كافة أنحاء العراق. وترك أولادًا ظلوا مواظبين على تحصيل العلوم.
وأقيم له حفل تأبيني كبير في مدينة كربلاء(8) بمناسبة أربعين يوماً على رحيله في الصحن الحسيني الشريف، شارك فيه جمع من الأدباء والأعلام.
كما رثاه الشعراء والأدباء في الاحتفالات التأبينية التي أقيمت في كربلاء وغيرها من المدن الإسلامية الأخرى. وكان من بين الشعراء الذين أسهموا في تأبينه الخطيب الشاعر الشيخ حسين البيضاني فقال من قصيدة ألقاها في المدرسة الهندية الدينية ومطلعها:
ترجلت الطفوف عن المعالي
وغال شموسها صرف الليالي(9)
ورثاه الخطيب الشاعر السيد حسين المرعشي الشهرستاني بقصيدة مطلعها:
تيقنت أن الموت مافيه مهرب
وأن أختشي منه به أتهيّبُ(10)
وقلتُ من قصيدة ألقيتها في الاحتفال التأبيني الذي أقامه خدمة الروضتين المقدستين في الحسينية الحيدرية (الطهرانية) غبّ وفاته، مطلعها:
أتــــرانا وللهــمـــوم أوارُ
في الحنايا وللقلوب استعارُ(11)
لقد عاش العالم الفقيه آية الله السيد الميرزا مهدي الحسيني الشيرازي حياة حافلة بالعمل الدؤوب والجهود المبذولة في خدمة مذهب أهل البيت(عليهم السلام) والدفاع عن بيضة الإسلام. وها هي ذي أيام تمرّ وأنا أتصور مجلسه في الصحن الحسيني الشريف لم يتغير، كأنه لم يزل حياً، والحق يقال إنه لم يزل حياً في نفوس عارفيه ومقدري فضله.
نشرت في العدد 62
1) أعيان الشيعة ـ محسن الأمين ج5: ص115.
2) أعيان الشيعة ج5:ص116، وانظر تاريخ الحركة العلمية في كربلاء نور الدين الشاهرودي ص202 و203.
3) معارف الرجال ـ الشيخ محمد حرز الدين ج3: ص 166.
4) سلسلة الأعوام في وفيات الأعلام الشيخ حسين البيضاني ص24.
5) مجلة (المرشد) السورية (عدد خاص بأسرة آل الشيرازي) ع 17 و18، ص27 (2004م).
6) مجلة (أجوبة المسائل الدينية) الكربلائية ـ ع 10 ـ لسنة 1380هـ.
7) في ذكرى فقيد الإسلام الخالد ـ الإمام الشيرازي ـ
السيد صادق آل طعمة ص 30.
8) جريدة (الوطن) البغدادية العدد 201 السنة العاشرة (7 نيسان 1961م)
9) سلسلة الأعوام في وفيات الأعلام الشيخ حسين البيضاني ص 25.
10) شعراء كربلاء ـ سلمان هادي آل طعمة (مخطوط) ج1.
11) بين الظلال ـ المجموعة الشعرية الثانية ـ سلمان هادي آل طعمة /ص 146.