ألف السيد علي خان المدني كتاب (الدرجات الرفيعة في طبقات الإمامية من الشيعة) لتراجم أعلام الإمامية منذ عهد الرسالة المحمدية إلى عصره، فترجم فيه لرؤسائهم وأعيانهم وقادتهم وعلمائهم، لاعتبارات عديدة، وموزعين على طبقات، كلّ بحسب زمنه وصنفه.
ولعل السبب الذي دعاه إلى تصنيف هذا الكتاب أنه لم يجد كتاباً خاصاً ترجم لهم ولأعمالهم، فذهب كثير منهم أدراج النسيان أو الضياع، فلم يذكرهم ذاكر أو يسمع بهم باحث أو دارسٍ ليرتوي من معين علمهم وفيض معرفتهم، وهذا غمط لحقّهم وخسارة لغيرهم وخاصة طائفتهم التي أنجبتهم وأورثتهم هذا العلم الجمّ والفهم بأمور العقيدة والفكر بجميع مشاربه.
اتبع السيد المدني منهجاً في ترجمة أصحابه، فهو لم يكتفِ في هذا الكتاب بذكر اسم العَلَم أو نسبه ومولده ووفاته، بل تعدى ذلك إلى ذكر طرف من أخباره ولمعات من نكاتِهِ ونوادرهِ وشعرهِ، ملتزماً في كل ذلك وصفه في قالب الإيجاز والإحكام مع التزامهِ أن لا يُخليهِ من عيون الأخبار، مع التثبّت والتحري في النقل وعدم التساهل الذي لا يستسيغه العقل .
قسّم السيد المدني كتابه على اثنتي عشرة طبقة، تتلمس في هذا التقسيم أنَّ طبقاته مرتبة بحسب الأهمية، الزمانية وأخرى بالطبقية، ومتسلسلاً فيمن ترجم لهم وفق هذا السياق، فقال: (ورتبته على اثنتي عشرة طبقةً، الأولى في الصحابة، والثانية في التابعين، والثالثة في المحدِّثين الذين رووا عن الأئمة (عليهم السلام)، الرابعة في العلماء من سائر المحدثين والمفسرين والفقهاء الخامسة: في الحكماء والمتكلمين. السادسة: في علماء العربية. السابعة: في السادة الصفوية.الثامنة: في الملوك والسلاطين.التاسعة: في الأمراء.العاشرة: في الوزراء.الحادية عشرة: في الشعراء.الثانية عشرة: في النساء.
في هذا التصنيف تجد توازناً في التسلسل الزمني والتصنيف الوظيفي، فقد جعل الصحابة والتابعين في الطبقتين الأولى والثانية، فيما جعل المحدثين الذين رووا الحديث عن أئمة آل البيت (عليهم السلام) لتقدمهم على غيرهم من أهل الحديث في الدرجة الثالثة، لتأخر ظهور علم الحديث وعلومه عن زمن الطبقتين الأولى والثانية؛ ثم أردفهم بسائر المحدثين والمفسرين والفقهاء للسبب ذاته، وهكذا لباقي الطبقات الأخرى.
اشتمل كتاب (الدرجات الرفيعة) على مقدمة خصّها بما تعرّض له شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) من الظلم والاضطهاد فأصبحوا متخفين في زوايا الأستار، محتجبين عن الأنظار، حتى أصبح أحد من الناس ليقال له زنديق أو كافر أحبُّ إليه من أن يقال له: من شيعة عليٍ، لما طالهم من سوء المعاملة وقسوة التعذيب بكل أنواعه وصوره، وغصب حقهم، وقد ابتدأ ظلم آل البيت(عليهم السلام) منذ أن أزالوهم عن مقاماتهم ومراتبهم وسعوا في إخفاء مكارمهم ومناقبهم والدس عليهم ونسب الأمور الشائنة لهم.
ثم ذكر السيد المدني ما جرى لهم ابتداءً من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)ثم ولديه الحسن والحسين(عليهما السلام) ثم ما جرى لأصحابهم وشيعتهم من بعدهم، في زمن حكم بني أمية إذ كان معاوية يكتب إلى عماله: (أن برأت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كلِّ كورة وعلى كلِّ منبر يلعنون عليّاً ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة لكثرة ما بها من شيعة عليّ….)(1)، فولى عليهم زياد بن سميّة، وكان أعرف بهم من غيره، وكان يتبع الشيعة فقتلهم تحت كل حجرٍ ومدرٍ وقطع الأيدي والأرجل، ثم كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: (أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي (عليه السلام)وأهل بيته شهادة، وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم شيعة عثمان ومحبيه وأهل بيته والذين يرووْنَ فضائله ومناقبه، وتمادى معاوية أكثر من ذلك حتى أمر عماله بمحوِ اسم من ثبت بالبيّنة حبه لعليّ وأهل بيته من الديوان وإسقاط عطائه ورزقه، حتى أصبحت الشيعة في الكوفة في أسوء حال، وازداد الحال سوءً ووقع البلاء بعد استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام).
وازداد وضع الشيعة سوءًا مع مجيء بني العباس، وما لقيه أهل البيت (عليهم السلام) في دولتهم أعظم مما وقع عليهم من بني أمية، حتى قال الشاعر:
والله ما فعلت أمية فيهم
معشار ما فعلت بنو العباس
فهذا مجمل ما خصّ به السيد المدني مقدمته
ولقد ابتدأ السيد علي خان المدني الطبقة الأولى من كتابه بالصحابة وقسمهم على بابين:
الباب الأول: في بني هاشم وساداتهم من الصحابة العلية.
الباب الثاني: في ذكر غير بني هاشم.
وقد سبق الحديث عن الصحابة بمقدمات أربعة:
المقدمة الأولى(2)، كانت في تعريف الصحابة، فذكر إن الصحابي:(هو على أظهر الأقوال من لقي النبيّ (صلى الله عليه وآله) مؤمناً به ومات على الإسلام ولو تخللت ردّة، والمراد من اللقاء ما هو أعمّ من المجالسة والمماشاة ووصول أحدهما إلى الآخر وإن لم يكالمه ويدخل فيه رؤية أحدهما للآخر سواء كان ذلك بنفسه أو بغيره)(3).
ثم يعمد السيد علي خان المدني بشرح هذا التعريف ونقده وبيان رأيه في كل ما ذكره في هذا التعريف، وأهم ما في هذا القول من تعريف الصحابي(ولو تخلّلت بردّة) أي وإن تخلّل إيمان الصحابي ردّة، فإن الصحبة هذه في نظر الجمهور باقية، قال السيد المدني: (فإن اسم الصحبة باقٍ سواء رجع إلى الإسلام في حياته أي النبي(صلى الله عليه وآله) أو بعده، وسواء لقيه ثانياً بعد الرجوع إلى الإسلام أم لا، هذا مذهب الجمهور خلافاً لبعضهم)(4)، وهذا ما عليه الأشعث بن قيس، وكان ممّن ارتد وأُتِيَ به إلى أبي بكر أسيراً فعاد إلى الإسلام فقُبل منه.
ويذكر رأياً آخر في معنى الصحبة وذلك (أنَّ الصحابي هو من طالتّ صحبته ومجالسته للنبي(صلى الله عليه وآله)على طريق السمع والأخذ، وذكر أيضاً، انه قيل لا يعدُّ صحابياً إلا من أقام معه(صلى الله عليه وآله)سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين)(5).
وقبض الرسول(صلى الله عليه وآله)عن مئة وأربعة عشر صحابياً آخرهم موتاً على الإطلاق أبو الطفيل عامر بن وائلة، مات سنة مئة من الهجرة النبوية المباركة.
أمّا المقدمة الثانية(6) لطبقة الصحابة، فكانت في عدالة الصحابة عند الإمامية إذ لا يحتم الحكم بالعدالة بمجرد الصحبة، لأنّ هناك من صحب رسول الله(صلى الله عليه وآله) ثم انقلب على عقبيه بعد موت رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وعندئذ لم تثبت عدالته، ومنهم من أظهر العداوة لأهل بيته الكرام، غير عابئ بحديث النبي(صلى الله عليه وآله): (إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي، أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)(7).
لقد جعل السيد المدني من موالاة آل البيت(عليهم السلام) معياراً لعدالة الصحابة وذلك لأن الصحابة من بعد النبي(صلى الله عليه وآله) قد تفرّقوا شيعاً، فمنهم من خرج عن طريق الحق ليتبع الباطل فيوالي مَنْ عادىَ الله ورسوله وآهل بيته الكرام، ومنهم المنافقون، وهناك منهم من جعل من آل البيت(عليهم السلام) قدوتهم، مثل سلمان الفارسي وعمار بن ياسر والمقداد وأبي ذر الغفاري وغيرهم، وأورد كذلك كثيراً من الأحداث من طعن الصحابة لبعضهم فضلًا
عن السب والشتيمة، حتى بلغ حد تكفير بعضهم لبعضهم الآخر.
لذلك لم يصح عند السيد علي خان المدني الخبر بأنَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال:(أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم).
ثم يورد بعد ذلك ما نقله أهل السير والحديث عن الأخبار في ذم الصحابة لبعضهم ومناقضاتهم وتكذيبهم، عن الصحاح والمسانيد، كصحيح البخاري ومسلم ومسند أنس وعائشة وأبي الدرداء وغيرهم، مما يورد الشك في النفوس من عدالة أكثرهم وضرورة تلمّس طريق آخر للكشف عن العدالة الضائعة بينهم وفرز الصحابي العادل عن غيره.
أمّا المقدمة الثالثة(8)،
فكانت في تقسيم الصحابي بحسب الرد والقبول إلى مردود ومقبول، وقال:(إنّ الصحابي لا يخلو من أنَّ يكون إسلامه مسبوقاً بكفر كما هو غالب الوقوع أو لم يكن مسبوقاً بكفر، بل نشأ على الفطرة الإسلامية وهي قليل كأمير المؤمنين(عليه السلام) والسبطين من المقبولين، وعبد الله بن الزبير من المردودين، وكل من القسمين أمّا أنَّ يكون كثير الصحبة والملازمة للنبي(صلى الله عليه وآله)أو لا، فإن كان كثير الصحبة فلا يخلو من أن يكون سمع النص الجلي في شأن أمير المؤمنين(عليه السلام) أو لم يسمع، والذي سمع لا يخلو من أن يكون عمل بمقتضى النص ولم يخالف، كالمقداد وسلمان وأبي ذر(رضوان الله عليهم)، أو لم يعمل، والأول مقبول قطعاً، والثاني إمّا أن يكون عدم عمله بمقتضى النص عناداً واستكباراً أو إكراهاً وإجباراً؛ والأول إن كان مسلماً فطرياً فهو عند بعض الشيعة مرتد فطري، لا تقبل له توبة، ولا تُغفر له حوبة، وإن لم يكن مسلماً فطرياً فإن استبصر ثانياً ورجع إلى العمل بمقتضى النص فهو مقبول وإلا كان مرتداً غير فطري وكان مردوداً … .)(9)
.وقد رد السيد المدني الأقوال التي توهمها العامة من أنَّ الشيعة يكفرون جميع الصحابة أو أكثرهم، فهو يضع معياراً عاماً وسطاً لقبول الصحابي أو ردّه، هو موقفه من إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)إذ عَدَّ علماء الشيعة الإمامية، أن محاربي عليّ(عليه السلام) كفرة، ومخالفوه فسقة، لقول النبي(صلى الله عليه وآله): عن زيد بن أرقم:(أن رسول الله(صلى الله عليه وآله)قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام): أنا حربٌ لمن حاربتم وسلمٌ لمن سالمتم)(10). وعن عمار بن ياسر(رضي الله عنه): قال :(قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): أوصي مَنْ آمن بي وصدّقني بولاية علي بن أبي طالب، فمن تولّاه فقد تولّاني، ومَنْ تولّاني فقد تولى الله، ومن أحبَّه فقد أحبني، ومن أحبّه فقد أحبَّ الله، ومن أبغضه فقد أبغضني فقد أبغض الله عز وجل)(11)، وغيرها من الأحاديث المتواترة عن النبي(صلى الله عليه وآله) وآل بيته الكرام التي تذهب أنَّ حرب عليّ(عليه السلام)وبغضه مقياس لإيمان الصحابي وغير الصحابي.
ويخرج السيد علي خان المدني بنتيجة أن الشيعة لا تكفّر الصحابة كلّهم أو بعضهم، لكنهم وضعوا مقياسا تمثّل ما قاله النبي (صلى الله عليه وآله)في حقّ علي(عليه السلام) فيضع الصحابة على هدى هذا المعيار فيبين من خلاله درجة إيمانه وعدالته.
أمّا المقدمة الرابعة(12)، فقد ذكر فيها أن كثيرًا من الصحابة رجع بعضهم في خلافة أبي بكر وبعضهم في خلافته(عليه السلام)حتى كان أكثر الصحابة معه في حروبه، فها هي معركة الجمل، كان معه منهم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وأبو قتادة بن ربعي، وعمار بن ياسر، وقيس بن سعد بن عبادة، وعبد الله بن عباس، وقثم بن عباس، وصفوة الصحابة من الهاشميين وغير الهاشميين.أما الباب الأول: والذي هو في بني هاشم وساداتهم من الصحابة العليّة، فمنهم أبو طالب بن عبد المطلب، عم النبي محمد(صلى الله عليه وآله)، وكافله ومربيه وناصره؛ لأنّ عبد المطلب بن هاشم عندما مات أوصى بالنبي(صلى الله عليه وآله) إليه(13)، فقال:
أوصيك يا عبد مناف بعدي
بواحد بعـــد أبيه فرد
فارقه وهو ضجيع المهد
فكنتُ كالأم له في الوجد
وكان أبو طالب كثيرًا ما يخاف عليه، وكان يقيمه ليلًا من منامه ويضجع عليًّا (عليه السلام) مكانه، أيام عداوة قريش له.
وترجم السيد علي خان المدني كذلك للعباس بن عبد المطلب وأولاده عبد الله والفضل وعبيد الله وقثم وعبد الرحمن وتمام، ثم ترجم لآل أبي طالب من نحو عقيل بن أبي طالب وكذلك لأبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وأخوه نوفل وغيرهم كثير من الهاشميين.
والباب الثاني: في ذكر غير بني هاشم من الصحابة، فابتدأهم بالصحابي عمر بن أبي سلمة، وأمه أم سلمة زوج النبي(صلى الله عليه وآله)، وربيبه وهو ابن تسع سنين، وحفظ عن النبي (صلى الله عليه وآله)الحديث وروى عنه سعيد بن المسيب وغيره، وشهد هو وأخوه سلمة مع علي (عليه السلام) حروبه، وروي أنّ أمهما أتت بهما إليه (عليها السلام)فقالت: عليك بهما صدقة فلو يصلح لي الخروج لخرجت معك(14).
وترجم كذلك لسلمان الفارسي والمقداد بن الأسود الكندي، وأبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، وخزيمة بن ثابت،وأبي أيوب الأنصاري وحجر بن عدي الكندي(15)، وبلال بن رباح الحبشي وزيد بن أرقم، وغيرهم، وقد بلغ عدة المترجم لهم من الهاشميين أربعة وعشرين ومن بني هاشم ستة وأربعين صحابيًّا، وتفاوتت تراجمهم بين الإطالة والقصر، يذكر فيها أخبارهم وفضائلهم وسنة ولاداتهم ووفياتهم.
هذا ما يسمح به المقام ، ولعلنا نوفق في ذكر باقي الطبقات التي ذكرها السيد علي خان المدني في كتابه (الدرجات الرفيعة في طبقات الإمامية من الشيعة) في مناسبة أخرى.
نشرت في العدد المزدوج 57-58
(1) الدرجات الرفيعة، السيد علي خان المدني:6.
(2) ظ: الدرجات الرفيعة، السيد علي خان المدني::9-10.
(3) ظ: م.ن:9.
(4)الدرجات الرفيعة، السيد علي خان المدني:: 10.
(5) م.ن:10.
(6) انظر: الدرجات الرفيعة، السيد علي خان المدني::11-32.
(7) كفاية الخطاب، الكنجي الشافعي: 12و 24و 130، وورد هذا الحديث بأكثر من 125مصدراً ؛ انظر: الكشاف المنتقى، كاظم الفتلاوي: 208-214.
(8) ظ: الدرجات الرفيعة، السيد علي خان المدني:32-38.
(9)الدرجات الرفيعة، السيد علي خان المدني: :32.
(10) صحيح الترمذي:5/699، وقد نقل هذا الحديث أكثر من 66 مصدراً، ظ:الكشاف المنتقى، كاظم الفتلاوي:166-169.
(11) كنز العمال، المتقي الهندي: 6/154-155، وقد نقل هذا الحديث أكثر من ثلاثين مصدرًا. ظ: الكشاف المنتقى، كاظم الفتلاوي:217-219.
(12) ظ: الدرجات الرفيعة، السيد علي خان المدني:39-41.
(13)الدرجات الرفيعة، السيد علي خان المدني::41-42.
(14) ظ: الدرجات الرفيعة، السيد علي خان المدني:197.
(15) لقد نبش قبره أخيراً على يد خوارج العصر في نيسان من سنة (2013م) إبان الهجمة الشرسة الني تقوم بها عصابات الكفر والظلام على بلد الأسلام سوريا.