Take a fresh look at your lifestyle.

أسلوب التوكيد في قصة البقرة

0 1٬698

       قبل الخوض في تحصيل النقاط الأسلوبية البارزة في قصة البقرة لابد لنا من وقفة قصيرة في التعريف بقصة البقرة التي إنما سميت السورة باسمها، فما هي قصة البقرة؟ وما العبرة المستفادة والمحصلة منها؟.
إن القرآن الكريم يعرض القصة بأسلوب معجز، لم يعط المبررات للقتل الذي حصل في القصة، ولكن تذكر الكتب تعليلات كثيرة لهذا القتل منها: (أن دافع القتل في هذه الحادثة إما المال أو الزواج، منهم من قال: إن ثريا من بني إسرائيل لم يكن له وارث سوى ابن عمه، فطال عمر هذا الثري ولم يطق الوارث مزيدًا من الانتظار، فقتله خفية ليحصل على أمواله وألقى جسده في الطريق، ثم بدأ بالصراخ والعويل، وشكا الأمر إلى موسى(عليه السلام). وقال آخرون: إن القاتل أراد أن يتزوج من ابنة القتيل، فرفض ذلك، وزوج ابنته إلى أحد أخيار بني إسرائيل، فقعد له وقتله)(1).
إن من أساليب القرآن الكريم المعجزة أن يورد القصة من دون أن يقدم الدوافع والمسببات التي أدت إلى الجريمة، ولكنه يقدم القصة على جانب يشعر بأنها حدثت بالفعل وأنها نوع من المسلمات، وقصة البقرة الواردة في القرآن الكريم هي كما يأتي: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ* قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء الله لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ* وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ* فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (سورة البقرة: من الآية 67ـ 73).

لاشك أن للقرآن الكريم حكمته في ترتيبه التوافقي المعجز، فالترتيب في الآيات القرآنية مع المضمون له علاقة وثيقة مترابطة غاية الترابط في وحدة عضوية متماسكة ، ولكن يبدو أنه في القصة أكثر وضوحًا وجلاءً للقارئ، لأن القصة بطبيعتها لابد لها من التسلسل والانسياق. وهذا التسلسل والانسياق واضح من خلال تسلسل الأحداث فيها. فمن خلال الحوار وتسلسل الأحداث يتضح هذا التسلسل. وهذا ينطبق غاية الانطباق في قصة البقرة موضوع البحث. إذ تتناغم الفقرات والآيات ببعضها لتحصيل غاية عليا من إيراد القصة القرآنية، فنلاحظ كيفية التسلسل في أن الكلام كان قبل القصة مع بني إسرائيل، وكيف أنهم استهانوا بعهودهم مع الله سبحانه وتعالى وكثرة تجاوزاتهم فجاء التعضيد على عدم انصياعهم وامتثالهم للأوامر بهذه القصة، فالقصة جاءت في النهاية للعبرة التي ساقها القرآن الكريم. ثم إن القصة جاءت متسلسلة الأحداث حتى وصلت إلى الذروة في عنادهم، حتى الخاتمة بإذعانهم وما كادوا يفعلون فهي (ترسم سمة اللجاجة والتعنت والتلكؤ في الاستجابة، وتمحل المعاذير، التي تتسم بها إسرائيل)(2)

والآيات في قصة البقرة عبارة عن (قصة قصيرة) محكمة النسج فيها الحوار وفيها الأحداث وفيها الشخوص، ونخرج منها برسالة تحاول القصة أن تقدمها ألا وهي: (طبيعة بني إسرائيل وجبلتهم الموروثة. وجانب دلالتها على قدرة الخالق، وحقيقة البعث، وطبيعة الموت والحياة ثم جانب الأداء الفني في عرض القصة بدءًا ونهايةً واتساقًا مع السياق(3). صحيح أن طبيعة بني إسرائيل، وجبلتهم الموروثة بنيت على العناد والجدال، ولكن هذه صفات إنسانية يجتمع بها الناس كافة، والقرآن بطبيعته عندما يورد قصة ويريد أن يسوق منها رسالة معينة، إنما يريد أن يسوقها للجميع وليس لمجتمع على حساب مجتمع آخر. يقول الكاتب نفسه في هذا الإطار:(إن السمات الرئيسية لطبيعة إسرائيل تبدو واضحة في قصة البقرة هذه: انقطاع الصلة بين قلوبهم، وذلك النبع الشفيف الرقراق: نبع الايمان بالغيب، والثقة بالله، والاستعداد لتصديق ما يأتيهم به الرسل. ثم التلكؤ في الاستجابة للتكاليف، وتلمس الحجج والمعاذير، والسخرية المنبعثة من صفاقة القلب وسلاطة اللسان)(4)

وقول في موضع آخر في نفس الصدد: (…وينفذوا بذبحها امر ربهم، ويعفوا انفسهم من مشقة التعقيد والتضييق .. ولكن إسرائيل هي إسرائيل)(5) ولكن أليس هذه الصفات تعم الجميع؟ وأليس القرآن عالميًا بدعوته، وهل مهمة القرآن هو إيراد صفات بعض المجتمعات. إن مهمته أعلى وأكبر من هذا، إنها مهمة أكبر من عقولنا وفهمنا، ولكن أريد أن أقول إنه ليس معنى هذا القول أن هذه الصفات لا توجد في بني إسرائيل، بل هي موجودة ويقررها القرآن الكريم في أكثر من موضع،ولكن أقول: إن التركيز على هذه الخصائص وخصها على بني إسرائيل هذا ليس بصحيح لأنها صفات عامة ومن خصائص ومميزات البشرية بصورة عامة، ألم يكن مشركوا قريش هكذا؟! ألم يكن المنافقون هكذا؟!..
هذا فضلًا عن المضامين الأخرى التي تريد القصة أن تردها في أسلوبها المتسلسل من قدرة الله على البعث، وطبيعة التعامل الصحيح الذي يجب أن يكون بين العبد وخالقه. فالنسق (عندما يعمد المبدع إلى تكوين جملة لغوية يقوم بعمليتين متكاملتين: في الأولى يجري اختيارًا في مفردات مخزونة اللغوي، وفي الثانية يجري عملية تنظيم ما تم اختياره، بحيث يتلاءم هذا التنظيم مع النسق الذي يدور فيه الكلام)(6). ويجب أن لا ينفك هاتان العمليتان في إقامة النص، سواء أكان عملًا إبداعيًا أدبيًا، أو حتى علميًا، لا الانفكاك يعني عدم إيصال الرسالة إلى المرسل إليه، وبالتالي عدم بلوغ الغاية التي من أجلها تم إنشاء الرسالة. فيكون الاتساق والترتيب في النص (أشبه شيء بالنور في جملة نسقه، إذ النور جملة واحدة وإنما يتجزأ باعتبار لا يخرجه من طبيعته، وهو في كل جزء من أجزائه وفي أجزائه، جملة لا يعارض بشيء إلا إذا خلقت سماء غير السماء، وبدلت الأرض غير الأرض، وإنما كان ذلك لأنه صفى اللغة من أكدارها، وأجراها في ظاهرها على بواطن أسرارها، فجاء بها في ماء الجمال أملأ من السحاب، وفي طراءة الخلق أجمل من الشباب، ثم هو بما يتناول بها من المعاني الدقيقة التي أبرزها في جلال الإعجاز، وصورها بالحقيقة وأنطقها بالمجاز)(7). لأن للغة نظامها الذي يبدعه المبدع أيّا كان، فيطرد فيها الانزياح والانتهاكات، وقد أشار البلاغيون إلى أهمية أن لكل مقام مقال يليق به ويعضده، أي اتصال الصياغة بالسياق.
إن الاتساق المسيطر على أجواء القصة جاء على أسلوب منتظم منسق فهي (قصة قصيدة يبدؤها، فإذا نحن أمام مجهول لا نعرف ما وراءه. نحن لا نعرف في مبدأ عرض القصة لماذا يأمر الله بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، كما أن بني إسرائيل إذ ذاك لم يعرفوا وفي هذا اختبار لمدى الطاعة الاستجابة والتسليم)(8). والقصة القصيرة التقليدية كما نعلم لابد لها من بداية ووسط ونهاية. وهذا يعني الاتساق الزمني والمكاني النابع من الأحداث ودور الأشخاص فيه.
(ثم تتابع الحوار في عرض القصة بين موسى وقومه، فلا نرى الحوار ينقطع ليثبت ما دار بين موسى وربه، على حين أنهم كانوا في كل مرة يطلبون منه أن يسأل ربه، فكان يسأله، ثم يعود إليهم بالجواب.. ولكن سياق القصة لا يقول: إنه سأل ربه ولا أن ربه أجابه.. إن هذا الأسلوب هو اللائق بعظمة الله، التي لا يجوز أن تكون في طريق اللجاجة التي يزاولها بنو إسرائيل!)(9)

فأسلوب القصة يعتمد على إبراز الأشياء الكبيرة والظاهرة والمهمة في جريان الأحداث ودورها في إغناء تأثير القصة في نفس المتلقي.
فـ (موضوع الأسلوب هو التعبير اللغوي عن الأفكار. وقوامه عنصران: الكلمات والجمل)(01).ومن خلال هذين العنصرين المهمين يتمحور دور المنشئ وتبلغ أهميته، وهذان العنصران متاحان للجميع، ولكن من يمتلك الموهبة الكبيرة هو الذي يتميز بهما. والنص القرآني كونه نصًا معجزًا من الجوانب كافة، فهو كلام الله (سبحانه وتعالى) يكون هذان العنصران قد أديا دورهما في أرقى أسلوب من النظم والتناسق والتسلسل وإيصال الهدف الذي يسعى إليه القرآن في إيصاله.
و (لكل أسلوب يعبر به عن مراده، فالأسلوب هو: طريقة لاختيار الكلمات ونظمها لتؤثر في نفس السامع أو القارئ، وتدعم المعنى الذي يريده الكاتب أو المتكلم ونقله إلى نفس السامع أو القارئ في قوة. ولذلك تختلف قيمة أقوال الشعراء والكتاب تبعًا لاختلاف أساليبهم)(11). فما بالك بكلام الله سبحانه الله الكلام الذي أعجز الجميع وتحدى الجميع.

نشرت في العدد المزدوج 57-58


(1) قصص القرآن:ص298.
(2) في ظلال القرآن/ج1، ص77.
(3) ن م/ج1، ص77.
(4) ن م.
(5) ن م: ج1، ص78.
(6) البلاغة والأسلوبية، د.محمد عبد المطلب، ص305.
(7)إعجاز القرآن والبلاغة والنبوية/ص74.
(8) في ظلال القرآن:ج1، ص78.
(9) ن م.
(01) في الأسلوب الأدبي/22.
(11) أسلوب التوكيد في القرآن الكريم/ص:7.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.