Take a fresh look at your lifestyle.

قبسات من مناجاة الراجين

0 924

       وردت هذه المناجاة ضمن أدعية الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين(عليه السلام).
إن معنى الرجاء الذي اختصت به هذه المناجاة يرادف الأمل والطمع ,أي تعلق القلب والنفس أو انتظارها لحصول أمر محبوب عندها(1), ووردت لفظة الأمل في بعض مقاطع الأدعية من الصحيفة السجادية ,كقول الإمام زين العابدين(عليه السلام): (وَأَنَا الْعَبْدُ الضَّعِيْفُ عَمَلًا الجَسِيْمُ أَمَلًا) والمراد بالأمل هنا هو الأمل لرحمة الله تعالى وعفوه ورضوانه (2) وكذا وردت لفظة الرجاء في الصحيفة السجادية، منها قوله(عليه السلام):(فَإِلَيْكَ أَفِرُّ، ومِنْكَ أَخَافُ، وبِكَ أَسْتَغِيثُ، وإِيَّاكَ أَرْجُو) ورجاء الله تعالى عبارة عن توقع إحسانه ورحمته ومغفرته(3),

وبما أن الأمل والرجاء مترادفان فلا يستبعد استعمال اللفظتين في نفس هذه المناجاة للراجين , فقد ورد ذكر الأمل والرجاء فيها على أنه غاية كل رجاء، ولامرجو فوقه فيتعدى إليه رجاء الراجين بخلاف من سواه من المرجوين, إنه الغاية عند انقطاع الراجي من جميع من دونه أو أنه المحبوب الذي لايتعلق القلب بحصول محبوب سواه(4).
بدأت مناجاة الراجين بالنداء، ومعنى النداء هو طلب ودعوة، فعندما تدعو غيرك تناديه بأحرف النداء ومنها الياء :فيقول(عليه السلام):( يا مَنْ إِذا سَأَلَهُ عَبْدٌ أَعْطاهُ وَإِذا أَمَّلَ ما عِنْدَهُ بَلَّغَهُ مُناهُ وَإذا أَقْبَلَ عَلَيْهِ قَرَّبَهُ وَأَدْناهُ وَإِذا جاهَرَهُ بِالعِصْيانِ سَتَرَ عَلى ذَنْبِهِ وَغَطَّاهُ وَإِذا تَوَكَّلَ عَلَيْهِ أَحْسَبَهُ وَكَفاهُ)، هذه القضايا التي بدأت بها المناجاة هي مقدمات وتمهيد لمعرفة أخرى تترتب عليها, جعلت تلك المقدمات تهيئة للنفوس والأذهان وشحذ الهمة في القلوب أو التذكير بآثار الحق سبحانه وتعالى وأفعاله بالعباد وتفضله على البرية من العطية منه تعالى وبلوغ المأمول والتقرب منه عند الإقبال علية والستر على الذنوب والكفاية عند التوكل,فهذه القضايا تمهد الباب لبيان فضل الله تعالى ونعمه وإحسانه على الجميع وذاك من أهل عالم الإمكان أهل الفقر والحاجة فلا يعثر على شيء من آماله ولعله يخيب في سعيه وتغلق الأبواب في وجهه.
إن المعارف الحقة هي التي تبني فكر الإنسان وباطنه وتكون لها آثار على مستوى الإيمان، فما تعكسه هذه المناجاة في بدايتها هو البحث عما تتعلق به القلوب وتميل إليه هو الغني المطلق ,إن الحاجة والمحدودية هي من سمات موجودات عالم الدنيا وجميع أبناء البشر سواء في ذلك، فالمناجاة تبحث عن بعد مهم من أبعاد المعرفة المعنوية ألا وهي الالتجاء إليه دون غيره وتوقع حصول الأمر المرجو منه تعالى وتفويض الأمر إليه، فإن كانت هذه الأمور هي من آثار الحق وصنعه الجميل بالعباد فهل يرجع أحد عن بابه بالخيبة مصروفًا، فقول (عليه السلام):(إِلهِي مَنِ الَّذِي نَزَلَ بِكَ مُلْتَمِساً قِراكَ فَما قَرَيْتَهُ وَمَنِ الَّذِي أَناخَ بِبابِكَ مُرْتَجِياً نَداكَ فَما أَوْلَيْتَهُ؟ أَيَحْسُنُ أَنْ أَرْجِعَ عَنْ بابِكَ بالْخَيْبَةِ مَصْرُوفاً).
إن في هذه المناجاة وغيرها حقائق تناسب أحوال معينة لدى المؤمنين، فالمؤمن يجاهد لأن يشعر بالجانب المعنوي والالتفات إليه ,وهو يعيش في هذه الدنيا المليئة بالمنغصات والابتلاءات النفسية التي يضعف قلبه أمامها وتعلقه بالآمال والطموحات التي تدفعه من جانب إلى جانب ويبحث عن بر السلامة عند هذا ما تشعر به تلك المقدمات، إن الله تعالى تفضل على العبد وأعطاه، وعلى الإنسان معرفة تلك النعم وإرجاعها إليه تعالى بمايتناسب مع مستوى الراجين الذين عرفوه وإحسانه، فيقول(عليه السلام):(وَلَسْتُ أَعْرِفُ سِواكَ مَوْلىً بِالإحْسانِ مَوْصُوفاً؟ كَيْفَ أَرْجُو غَيْرَكَ وَالخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدِكَ وَكَيْفَ أُؤَمِّلُ سِواكَ وَالخَلْقُ وَالأَمْرُ لَكَ أَأَقْطَعُ رَجائِي مِنْكَ وَقَدْ أَوْلَيْتَنِي ما لَمْ أَسْأَلْهُ مِنْ فَضْلِكَ، أَمْ تُفْقِرُنِي إِلى مِثْلِي وَأَنا أَعْتَصِمُ بِحَبْلِكَ؟).
الإحسان هو مصدر أحسَنَ :أي فَعَلَ الحسن، فإن كان الفعل متعديًا إلى الغير قيل :أحسنَ إليه، وإن كان لازمًا بالفاعل قيل :أحسن(5) – قال في المفردات :(والإحسان يقال على وجهين أحدهما الإنعام على الغير يقال أحسن فلان والثاني إحسان في فعله، وذلك إذا علم علمًا حسنًا أوعمل عملًا حسنًا)(6) ولعل قول (إحسان في فعله) هو أن الإحسان وصف لنفس الفعل،أي بمعنى إتيان الفعل حسنًا وقد أشار العلامة الطباطبائي صاحب تفسير الميزان إلى ذلك،كما هو من ظاهر كلامه في قوله تعالى:(إنَّ اللهَ يأمُرُ بالعَدْلِ والإحسانْ )(النحل:90)المراد به الإحسان إلى الغير – دون الإحسان بمعنى إتيان الفعل حسنًا – وهو إيصال خير أو نفع الغير لاعلى سبيل المجازاة أي يجازي الإحسان بالإحسان ,والمقابلة كان يقابل الخير بأكثر منه ويقابل الشر بأقل منه ,بل ويوصل الخير إلى الغير مُتبرعًا به ابتداءً، قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعائه في الشكر من الصحيفة : (وذَلِكَ أَنَّ سُنَّتَكَ الإِفْضَالُ، وعَادَتَكَ الإِحْسَانُ، وسَبِيلَكَ الْعَفْوُ)(8)

وفيه أيضًا من نفس الدعاء:(فَتَبَارَكْتَ أَنْ تُوصَفَ إِلَّا بِالإِحْسَانِ)(9).إن هذا المقطع ينقلنا مع الراجين إلى مرحلة الشهود والحضور وعلاقة الراجي بالله تعالى – وسيأتي في المقطع الآتي الإشارة إلى ذلك تلك العلاقة والصلة جذورها المعرفة التوحيدية ومعرفة الوجود بأن كل سبب هو منه تعالى وهو مسبب الأسباب بل كل شيء منه تعالى حتى أنفسنا التي ننخدع بها ونتصور أن لنا نسبة معينة من الاستقلال، فنحن وجودات عين الحاجة إليه تعالى كما يحتاج الضمير الهاء في كلمة (منه) لبيان منعاه إلى الاتصال والربط مع الحرف (من), فالكل يعاني من علامات الضعف والحاجة فلذا هذا المقطع يذكر معرفة الإحسان وفي قبالها الفقر لي ولأمثالي.وكذا من خلال المقطع الآخر يقول(عليه السلام):(وَكَيْفَ أَلْهُو عَنْكَ وَأَنْتَ مُراقِبِي؟) يعكس مرتبة الحضور الإلهي لديهم وعدم الغفلة عنه تعالى أو نسيانه عند حركتهم في مجالات الحياة والعمل من خلال التوكل والتفويض إليه أو إلى مراتب أعلى من الرضا والتسليم بحسب درجات إيمان المؤمنين وتكاملهم , وهناك فرق كبير بين أن يتحول عالم الغيب إلى فكرة في ذهن الإنسان ومجرد تصورات دون أن تكون حالة تشهدها النفس وملكة تصدر عنها الأفعال.ويقول(عليه السلام)أيضًا:(إِلهِي بِذَيْلِ كَرَمِكَ أَعْلَقْتُ يَدِي وَلِنَيْلِ عَطاياكَ بَسَطْتُ أَمَلِي، فَأَخْلِصْنِي بِخالِصَةِ تَوْحِيدِكَ وَاجْعَلْنِي مِنْ صَفْوَةِ عَبِيدِكَ). إذا كان الله تعالى حاضرًا ويراقبنا في السر والعلن والأمور كلها بيديه فيحتاج المؤمن إلى هداية ونور يضيء له طريقه لكي يخلص له من شبهات التعلق بغير الله تعالى بعد أن بينت له المناجاة فقر الجميع , فنرى المناجاة تشير إلى التوحيد والعبودية وهي وسيلة تطهير النفس والقلب من المتعلقات وسد الطريق على سطوات الشيطان ,ولعل المناجاة تشير إلى التوحيد والعبودية فهذه من الأمور المهمة في حياة الإنسان المعنوية وهي المعينة في الرجاء بقرينة ما ذكرته المناجاة في آخرها (أسْأَلُكَ بِكَرَمِكَ أَنْ تَمُنَّ عَلَيَّ مِنْ عَطائِكَ بِما تَقِرُّ بِهِ عَيْنِي وَمِنْ رَجائِكَ بِما تَطْمَئِنُّ بِهِ نَفْسِي وَمِنَ اليَقِينِ بِما تُهَوِّنْ بِهِ عَلَيَّ مُصِيباتِ الدُّنْيا وَتَجْلُو بِهِ عَنْ بَصِيرَتِي غَشَواتِ العَمى),فالمعارف الحقة مطلوبة ولها علاقة في الحياة الراجين، فطلب هذه الأمور تزيد في انبعاث الحياة المعنوية وتجعل المؤمن يتعالى بوضعه النفسي ويلتحق بالراجين الذين يدعونه دون غيره، وعلى هذا تكون حركة الإنسان وعمله.
إن الأمر المحبوب الذي تنتظره النفس وتتوقعه إن حصلت أكثر أسبابه الداخلة تحت اختيار للعبد، ولم يبق إلا ما لا يدخل تحت اختياره، وهو فضل الله تعالى بصرف القواطع والمفسدات، فهو الرجاء والأمل صادق عليه، وإذا كانت الدنيا مزرعة الآخرة فالنفس هي الأرض وبذرها حب المعارف الإلهية , وساير أنواع الطاعات جارية مجرى إصلاح هذه الأرض من تقليبها وتنقيتها وإعدادها للزراعة وسقايتها بالماء, والنفس المستغرقة بحب الدنيا والميل إليها كالأرض السبخة التي لاتقبل الزرع، ويوم القيامة يوم الحصاد، فلا حصاد إلا لمن زرع، ولا زرع إلا لمن بذر ,كما لاينفع الزرع في أرض سبخة كذلك لاينفع عمل مع خبث النفس وسوء الأخلاق المنافية للإيمان، فينبغي أن يقاس عمل العبد ورجائه لرضوان الله تعالى بأمل صاحب الزرع ورجائه، والناس على مراتب في ذلك، فلو بذر الإنسان الأرض بذرًا صالحًا وأمده بالماء وساير مايحتاج إليه ومنع مايفسده ثم انتظر فضل الله تعالى في تمام زرعة وبلوغ غايته فأمله ورجاؤه في محله، وهكذا حال العبد إذا بذر المعارف الإلهية في أرض نفسه في أيامه ومبدأ التكليف ودام على سقيه بالطاعات واجتهد في طهارة نفسه عن شوائب الأخلاق الرديئة التي تمنع نماء العلم وزيادة الإيمان وتوقع من فضل الله تعالى وكرمه أن يثبته على ذلك إلى زمان وصوله وحصاد عمله، وذلك التوقع هوالأمل المحمود والرجاء الممدوح وهو درجة السابقين (10)

نشرت في العدد 56


(1)شرح الصحيفة السجادية السيد علي خان المدني ص306وص 355,نسخة حجرية.
(2)المصدر السابق ص 307
(3)المصدر السابق ص 521
4ـ شرح الصحيفة ص286
(5)المصدر السابق ص 341
(6)مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص 167الاميرة للطباعة والنشر بيروت الاولى 2010
(7)تفسير الميزان السيد محمد حسين الطباطبائي ج 12 ص 332 الأعلمي بيروت الأولى 1997
(8)الصحيفة السجادية ص 118 مطبعة ثامن الحجج الأولى 1387
(9)المصدرالسابق 120
(10)انظر شرح الصحيفة السجادية ص 307

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.