(نقل بتصرف من موسوعة الغدير /للشيخ الأميني ج3ص405)
من فحول الشعراء، وفارس مقدام في الهيجاء ربما يرتج القول فيه، فلا يدري القائل ماذا يصف، أيطريه عند صياغة القول؟ أو يصفه عند قيادة العسكر: وهل هو عند ذلك أبرع؟ أم عند هذا أشجع؟ وهل هو لجمل القوافي أسبك؟ أم لازمة الجيوش أملك؟ والخلاصة أن الرجل بارع في الصفتين، ومتقدم في المقامين، جمع بين هيبة الملوك، وظروف الأدباء، وضم إلى جلالة الأمراء لطف مفاكهة الشعراء، وجمع له بين السيف و القلم، فهو حين ما ينطق بفم كما هو عند ثباته على قدم، فلا الحرب تروعه، ولا القافية تعصيه، ولا الروع يهزمه، ولا روعة البيان تعدوه، فلقد كان المقدم بين شعراء عصره كما أنه كان المتقدم على أمرائه،كان من السنة الصادقين الصادعة بالحق ونصرة أهل البيت هو الشاعر البطل والثائر المخضرم الحارث بن سعيد بن حمدان المكنى والمشهور (بابي فراس الحمداني) رحمه الله، لا اعتقد أن هناك من لم يسمع بأبي فراس فهو أشهر من نار على علم. وأبو فراس الحمداني من مواليد عام 320 هجرية وقد عاش يتيماً، قتل أبوه سعيد بن حمدان وكان عمره ثلاث سنوات فربته أمه وأحسنت تربيته، أحسنت تربيته وكانت توصيه: يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فنشأ بطلاً فارساً شجاعًا شاعرًا وعالمًا، قاتل في صد الغزاة المناوئين للدولة الحمدانية وهاجم جيوش الرومان الطامعة في قلعة حلب، في هذه المواجهة أسر وسجن أسيرًا سبع سنوات. وكان بعدها لفترة أميرًا على قلعة ماردين. وكان سبب ثقافته اتصاله الكثير بعلماء الإمامية حيث كان يتردد بكثرة على منطقة جبل عامل المشهورة بكثرة العلماء والشعراء، ومن خلال الدولة الحمدانية كان يرتبط ببعض العلماء الكبار فأصبح ذا ثروة علمية وأدبية وذا عقلية وضاءة وكان بعد ذلك احد الألسنة الصادعة في نشر أفكار أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم)، ولما طبعت العملة أيام الدولة الحمدانية طبعت الدنانير في جانب منها أسماء الخمسة أهل العباء (سلام الله عليهم) وكان هذا الابتكار بسعي وباقتراح منه. شوش البعض وقال إن أبا فراس الحمداني زيدي الهوى وبعضهم قال إنه إسماعيلي، لكن اعتناقه للمذهب الإمامي الاثني عشري أوضح من الاحتمالات والتخمين أو الاتهام،ويظهر ذلك جليًا من خلال قصيدته الميمية التي هي رسالة بحد ذاتها دافع فيها عن أهل البيت(عليهم السلام) وفضح العباسيين على ادعاءاتهم الزائفة لأنهم كانوا يسخرون بعض الشعراء يمدحوهم ويفضلوهم على أهل البيت فاضطر أبو فراس رحمه الله أن ينظم القصيدة الميمية التي هي ثورة بحد ذاتها، حيث وصفها الحاكم العباسي المعتصم قائلاً: أضر علينا من مئة ألف سيف مشهورة، والإمام الصادق (عليه السلام)يقول:( أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر) فأصبحت القصيدة الميمية من أروع ما يفتخر به عالم الشعر والأدب بعد عالم الثورات، قصيدة ثائرة أربعين بيتاً أو أكثر تسمى الشافية ومطلعها:
الحق مهتضم والدين مخترم وفيءُ آل رسول الله منقسم
الشاعر المعروف الصاحب بن عباد له كلمة رائعة في وصف أبي فراس الحمداني يقول : (بدأ الشعر بملك وختم بملك)، بدأ بشعر امرؤ القيس وختم بشعر أبي فراس رحمه الله، له ديوان مطبوع وقد طبع أربع عشرة مرة ربما أكثر.
على أي حال الحديث طويل عن أبي فراس الحمداني توفي شاباً هذا الشاعر البطل دون أن يكمل العقد الرابع من عمره عام 357هـ بعد مرض عضال يخاطب ابنته الصغيرة بأبيات مؤلمة يقول:
بنيتـي لا تـجـزعي
كـل الأنـام إلى ذهاب
نوحي علي بحسرة
من خلف سترك والحجاب
قولي إذا كلمتني
وعييت عن رد الجواب
زين الشباب أبو فراس
لم يمتع بالشباب
أؤكد هنا أن هذا الشاعر لو لم يكن له إلا قصيدته الميمية التي سبق أن تحدثت عنها لكفاه ذلك فخراً أمام الله، وأي زاد أعظم عند الله من الدفاع عن مظلومية أهل البيت ونشر فضائلهم عليهم السلام.. وإليكم أبياتا من هذه القصيدة :
الحقُ مهتَضمٌ والدينُ مختَرمُ
وفيءُ آل رسولِ الله مقتَسمُ
وفتيةٌ قلبُهم قلبٌ إذا ركبوا
وليس رأيُهم رأيا إذا عزِموا
يا للرجال أما لله منتصرٌ
من الطغاة ؟ أما لله منتقمُ
بنو عليٍ رعايا في ديارِهُمُ
والأمرُ تملكُه النِسوانُ والخدمُ
للمتقين من الدنيا عواقبُها
وإنْ تعجَّلَ منها الظالمُ الأثِمُ
أتفخرون عليهم لا أباً لكُمُ
حتى كأن رسول اللهِ جدَّكمُ
ولا توازنَ فيما بينكم شرفٌ
ولا تساوت لكم في موطنٍ قدمُ
قامَ النبيُ بها ( يومَ الغديرِ ) لهم
واللهُ يشهدُ والأملاكُ والأممُ
*وصَيَّروا أمرهُم شورى كأنهُم
لا يعرفون وُلاةَ الحقِ أيَّهمُ
تاللهِ ما جَهِلَ الأقوامُ موضِعَها
لكنهم ستروا وجهَ الذي علموا
ثم ادعاها بنو العباسِ ملكَهُم
ولا لهم قِدمٌ فيها ولا قَدمُ
كم غدرة لكم في الدين واضحة
وكم دمٍ لرسولِ الله عندكمُ
لا بيعةٌ ردعتكم عن دمائهم
ولا يمين ولا قربى ولا ذممُ
هيهات لا قَرَّبتْ قُربى ولا رحِمٌ
يوماً إذا أُقصت الأخلاقُ والشيمُ
كانت مودةُ سلمانٍ لهم رحمًا
ولم يكن بين نوح وابنه رحمُ
ليس الرشيد كموسى في القياس ولا
مأمونكم كالرضا لو أنصف الحكمُ
يا عصبة شقيت من بعد ما سعدت
ومعشرًا هلكوا من بعد ما سلموا
أي المفاخر أمست في منازلكم
وغيركم آمر فيها ومحتكمُ ؟
أنى يزيدكم في مفخرٍ علمٌ ؟
وفي الخلاف عليكم يخفق العلمُ
يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم
لمعشر بيعهم يوم الهياج دمُ
خلوا الفخار لعلامين إن سئلوا
يوم السؤال وعمّالين إن علموا
لا يغضبون لغير الله إن غضبوا
ولا يضيعون حكم الله إن حكموا
تنشى التلاوة في أبياتهم سحرًا
وفي بيوتكم الأوتار والنغمُ
منكم علية أم منهم ؟ وكان لكم
شيخ المغنين إبراهيم أم لهمُ ؟
إذا تلوا سورة غنى إمامكم
قف بالطلول التي لم يعفها القدمُ
ما في بيوتهم للخمر معتصرٌ
ولا بيوتكم للسوء معتصم
ولا تبيت لهم خنثى تنادمهم
ولا يُرى لهم قرد ولا حشمُ
الركن والبيت والأستار منزلهم
وزمزم والصفا والحِجر والحرمُ
وليس من قَسَمٍ في الذكِر نعرفهُ
إلا وهم غير شكٍ ذلك القسم