Take a fresh look at your lifestyle.

موقف القرآن الكريم والرسول(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)(من الشعر)

0 3٬511

د.جواد غلام علي زاده
جامعة زابل (سيستان) ـ إيران

    لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن الشعر يحتل مساحة كبيرة في خارطة الفنون الأدبية في جميع العصور التي مرت وتمر بنا. سرّ ذلك يعود إلى أن الشعر من جانب يقترن بعنصر الإيقاع، الوزن والقافية، ومن جانب آخر يقترن بالعنصر العاطفي، ولكل منهما تأثير عميق في النفوس بحيث يهزّها ويبعث فيها الحركة والمتعة والنشاط، فالشعر له أثر كبير في توجيه مشاعر الناس وأهوائهم، ولذلك نراه في الحقيقة وسيلة إمالة الناس نحو كل أمر حق أو باطل. من هذا المنطق رأينا من الواجب تعيين معايير الشعر وجودته في نظر القرآن وكذا عند
النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت(عليهم السلام)، لكي يكون للشعراء منطق قرآني وإسلامي وراء ما ينشئونه من الأشعار.
موقف القرآن الكريم من الشعر:
لقد جاء الإسلام ليحدد موقفًا مبدئيًا من كل الأحوال والقضايا التي كانت تشغل الإنسان، وبالأخص العربي الذي نزل القرآن بلسانه، وفي ذروة تلك القضايا الشعر الذي هو مظهر البلاغة في حياة العرب وسجل أمجادهم، وقد وردت في القرآن الكريم آيات تناولت الشعر والشعراء حملها بعض الباحثين على معنى آخر وبنوا على تصورهم لها أحكامًا واهية، حيث رأوا أن القرآن وقف من الشعر والشعراء موقف العداء والمناجزة، مما أدى إلى انحسار الشعر أو ضعفه على الأقل في فجر الإسلام، ويمكن أن نرصد الآيات التي ذكرت الشعر والشعراء، وهي قوله تعالى: (بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ)(الأنبياء: 5)، وقوله تعالى: (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)(الشعراء: 224و 225و 226و 227)، وقوله تعالى: (وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ)(الصافات:36)، وقوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ)(الطور:30)، وقوله تعالى: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ* وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ)(الحاقة:41و 42)، أما الآية التي ذكرت الشعر فهي: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ)(يس:69).
وبالرجوع إلى استقراء الآراء التي أدلى بها المفسرون في هذه الآيات نجد أنها منصبة على نفي الشاعرية عن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)لا على ذم الشعر كما يعتقد البعض، وباعتبار السياق التاريخي الذي نزلت فيه هذه الآيات، والذي احتدم الصراع فيه بين الشرك والإيمان، وازدادت فيه حيرة المشركين حيال هذا النمط المعجز (القرآن)، يمكن اعتبار هذه الآيات رداً على العرب الذين دفعتهم حيرتهم إلى وصم القرآن بأنه شعر، ووصف النبي(صلى الله عليه وآله)بأنه شاعر لعظمة الشعر في نفوسهم وفخامته في قلوبهم، ولأن كلمة (شاعر) مرادفة عندهم لكلمة مجنون وساحر وكاهن (لأن الناس كانوا يعتقدون أن للشاعر الجاهلي شيطانًاأو قرينًا من الجن يلهمه أحيانًا، وأحيانًا كان يدفعه بغضاضة إلى الإنشاد(1)

ويظهر أن القرآن وصف نمطًا خاصًا من الشعراء وسمهم (بالكذب والغلو في الادعاء وتزييف القول، وهم فئة الشعراء التي كانت تزعم أنها على اتصال بالجن والشياطين تتلقى منهما الإلهام وتستوحي منها الأفكار والآراء)(2) وأساطيرهم في ذلك كثيرة لا تستقصى.
لقد أصبح من الممكن الآن أن نقول: إن مدار الآيات الآنفة هي نفي صفة الشعر عن القرآن الكريم. ونفي صفة الشاعرية عن الرسول(صلى الله عليه وآله)، كما أنها اعتنت بمفهوم الشعر عند العرب المشركين وبموقفهم من القرآن، وأنها كذلك وضعت حدًا فاصلًا بين الشعر والنبوءة،(وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ) الشعر انفعال، وتعبير عن هذا الانفعال، والانفعال يتقلب من حال إلى حال. والنبوءة وحي، على منهج ثابت، على صراط مستقيم يتبع ناموس الله الثابت الذي يحكم الوجود كله، ولا يتبدل ولا يتقلب مع الأهواء الطارئة تقلب الشعر مع الانفعالات المتجددة التي لا تثبت على حال، والنبوءة اتصال دائم بالله، وتلقّ دائم عن وحي الله، ومحاولة دائمة لرد الحياة إلى الله. بينما الشعر في أعلى صوره أشواق إنسانية إلى الجمال والكمال مشوبة بقصور الإنسان وتصوراته المحدودة بحدود مداركه واستعداداته، فطبيعة النبوءة وطبيعة الشعر مختلفتان من الأساس. هذه في أعلى صورها أشواق تصعد من الأرض. وتلك في صميمها هداية تتنزل من السماء.
أما فيما يتعلق بالمعيار القرآني الذي نراه في بعض الآيات المذكورة،لابد أن نقول إن القرآن لم يحرِّم الشعر في ذاته بل أراد أن يكون الموقف الجمالي خاضعاً للموقف الديني متأثرًابالمثُل الجديدة التي جاء بها الإسلام، وحاول أن يوفق بين الموقف الجمالي وبين الموقف الديني، حتى لا يجد الفنان خصومة بين الدين الجديد والجمال الفني، وبهذا السبب قد تغير الميزان الذي يوزن به الشعر بعد نزول قوله تعالى: (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ). والقرآن الكريم يستدعي في الآيات السابقة موقفًا إيمانيًا اعتقاديًا، ويحكم على الشعراء بأن أتباعهم هم الضالون، وهو كالهائمين على وجوههم منحرفين عن سبيل الحق وطريق الرشاد، لما يغلب عليهم من الهوى ويخوضون في كل فن من الكلام، ويقولون من لغو وباطل في مدح وذم، ومن ثم ينهون عن أشياء يرتكبونها. ثم يواصل حكمه على الشعراء بكلامه: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) فيستثني من الحكم السابق ومن تلك الحملة التي حملها على الشعراء، عدداً من الشعراء المؤمنين الملتزمين بأوامر الله ونواهيه، والذين يؤمنون بالله ويتبعون الرسول ويكثرون ذكر الله وتلاوة القرآن، ويحدد لنا خصائصهم، وهي الإيمان والعمل الصالح وهذا يعني أن لا يشغلهم الشعر عن ذكر الله.
ومما يستفاد من هذه الآيات أن الميزان الذي يوزن به الشعر يتمثل في مدى مطابقة التجربة الجمالية للتجربة الإيمانية والأخلاقية، فالشعر الحسن الذي يسمح به المجتمع الإسلامي هو ما يخلو من الكذب ويوافق الحق ويدعو إلى الفضائل، والشعر الرديء الخبيث الذي ينهى عنه القرآن هوما يوافق الباطل والكذب.
موقف الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)من الشعر:
لقد بسطنا كيفية تناول القرآن الشعر فلم نعد نحتاج للاستفاضة في موقف الرسول (صلى الله عليه وآله) من هذا الفن إذ إنه موقف القرآن عينه، اللهم إلا إذا أوردنا آثارًا من السنة تشرح وتعضد موقف التنزيل. لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بغافل عن تأثير الشعر في النفوس حيث قال في الشعراء ومكانتهم في المجتمع: (هؤلاء النفر أشدّ على قريش من نضح النبل)(3)، وقال في الشعر: (لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين)(4).

وهذا يدل على أنه كان يدرك أن الشعر صار جزءًا من طبيعتهم التي فطروا عليها ولذلك لم يكن عليه الصلاة والسلام نابذًا للشعر ولا مجافيًا له وجّههُ وجهةً دينيةً وأخلاقيةً وأنار سبيل سالكيه، وكان يقول:(الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام)(5). ويقول:(إنما الشعر كلام، فمن الكلام خبيث وطيّب)(6). وكان يسمع الشعر ويثيب عليه ويستنشد حسان هجوه لقريش ويقول له:(اهجهم ومعك جبرائيل وروح القدس)(7)

كما استمع لشعر كعب بن زهير وخلع عليه بردته(8)، ولعل المواقف التي أشاد فيها الرسول أكثر من المواقف التي ذمه فيها، وقد قال (صلى الله عليه وآله):(لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا)(9)، كما ورد عنه في سياق الذم قوله عندما ذُكر امرؤ القيس :(إنه أشعر الشعراءوقائدهم إلى النار)(10)، وقوله: (ذلك رجل مذكور الدنيا ومنسيٌ في الآخرة، يأتي يوم القيامة ومعه لواء الشعراء حتى يوردهم النار)(11).
فمما لا شك فيه هو أن هذه الأحاديث لا تقصد إلا أولئك الشعراء الذين يتخذون الشعر لهوًا ولعبًا، أو يوقدون به نيران العداوة بين الأمة الإسلامية التي وحّدها الإسلام بعد أن كانت قبائل متفرقة.
ويبدو مما تقدم أن المعيار النقدي في الشعر عند رسول الله(صلى الله عليه وآله) يتصل بالمضمون الشعري أكثر من
اتصاله بالشكل، فأحسن الشعر عنده ما دعا إلى الفضائل والحق وأسوأشعر عنده ما يخالف الحق ويدعو إلى الرذائل.
موقف الأئمة الطاهرين(عليهم السلام)من الشعر:
لو تأملنا في آراء نقدية رُويت عن الأئمة المعصومين(عليهم السلام)لرأينا أنهم ساروا سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في نقدهم للشعر، ونهجو منهجه في تقييمه على أساس المعيار والمقياس الخلقي.
ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) (يا معشر الشيعة علّموا أولادكم شعر العبدي فإنه على دين الله)(12).
وممن تجدر الإشارة إليه من الأئمة المعصومين(عليهم السلام)بهذا الصددالإمام علي(عليه السلام)
حيث نرى آراء نقدية تدلّ على ذوق أدبي ومعرفة واسعة وبصر ثاقب بالشعر والشعراء فقد حكي أنه(عليه السلام)قال: (لو أن الشعراء المتقدمين ضمّهم زمان واحد، ونصبت لهم راية، فجروا معاً، علمنا السابق منهم، وإن لم يكن، فالذي لم يقل لرغبة ولا لرهبة. فقيل: ومن هو؟، قال: (الكندي). قيل: ولمَ؟، قال: لأني رأيته أحسنهم نادرة وأسبقهم بادرة)(13).
فنرى أن الإمام عليًا(عليه السلام)لم يصدر حكماً نقديًا غير معلل، ولم يقف عند القول بأن هذا أشعر الشعراء أو أفضل الشعراء كما كان يفعل نقاد الجاهلية وصدر الإسلام، إنما يرى أن الشاعر الذي تدفعه الرغبة أو الرهبة إلى إنشاد الشعر لابد أن يكون كاذباً في كلامه، إما تحقيقًا لرغبة يرغب فيها أو خوفًا من خطر يهدّده، فإذن الشاعر المقدّم عند الإمام علي(عليه السلام)هو الذي ينشد شعره مجرداً عن الهوى والخوف، حتى يكون كلامه تعبيرًا عن عواطف أصيلة وليد مشاعر صادقة.
ونذكر هنا حكاية تجدر بالإشارة وهو أن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)استنشد ذات يوم دعبل بن علي الخزاعي، فأنشده دعبل قصيدته التائية المعروفة التي مطلعها:
مدارس آيات خلت من تلاوة
ومنزل وحي مقفر بالعرصات
فقال الإمام(عليه السلام): (أحسنت)(14).
فمما بعث تحسين الإمام الرضا(عليه السلام) هو ما تحتوي عليه القصيدة من قوة التأثير وحرارة العاطفة وصدق المعاني، حيث استطاع الشاعر أن يبكي الإمام بها، وإننا نرى أن القصيدة تخلو من التأنق اللفظي والزخرف البديعي وإنما تشيع فيها البساطة وإنها تختلف عن القصائد التي كانت متعة يستمتع بها الناس في أنديتهم وأسمارهم، كما تختلف عن المدائح التي كانت وسيلة لا كتساب المال.
وكذلك قد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) في السيد الحميري أنه قد فضل الشاعر على غيره بقوله: (أنت سيد الشعراء)(15).
فليس من شك في أن الأئمة(عليهم السلام)قد حاولوا أن يجعلوا الأدب يتحول إلى لسان صدق، يهدي الناس إلى الله، ويحثهم على الخير والإحسان.
الخاتمة:
نستحصل مما تقدم أن المعيار النقدي للشعر في نظر القرآن الكريم،وكذا عند الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)والأئمة المعصومين(عليهم السلام)هو الدين، وما رسمه القرآن من المبادئ الأخلاقية والإسلامية حتى يتحلى الأديب بالفضائل التي أوصاهُ بها الإسلام، ويبتعد عن مساوئ الأخلاق التي نهاهُ عنها القرآن، إلى جانب هذا المعيار الرئيسي نرى معيار العاطفة الصادقة التي يحتاج إليه الشاعر لأن يؤثر تأثيراً مباشراً وعميقاً في قلوب الناس للوصول إلى أهدافه السامية.

نشرت في العدد 56


(1)غرنباوم، دراسات في الأدب العربي، ترجمة إحسان عباس وزملائه، ص137
(2) قضية الإسلام والشعر، إدريس الناقوري ص19
(3) ابن رشيق القيرواني، العمدة، ج1، ص92
(4) المصدر نفسه، ص92
(5) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مؤسسة مناهل العرفان، المجلد 13، ص150
(6) ابن رشق القيرواني، العمدة ج1، ص85
(7) المصدر نفسه، ص92
(8) ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ج1، ص91
(9) المصدر نفسه، ص92
(10) المصدر نفسه، ص202
(11) ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ج1، ص68
(12) العلامة الأميني، الغدير، ج2، ص415
(13) ابن رشق القيرواني، العمدة، ج1، ص112
(14) أبو الفرج الاصفهاني، الأغاني، ج20، ص163
(15) العلامة الأميني، الغدير، ج2، ص322.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.