لقد نقل علماؤنا نصاً يبين أن لفاطمة الزهراء(عليها السلام) أراضيَ وضياعًا وهبها رسول الله(صلى الله عليه وآله) لابنته، وبالرغم من ضخامة عائدات تلك الأراضي إلا أن السيدة فاطمة(عليها السلام) لم تهتم بها، ولم تأخذ حيزاً من تفكيرها باعتباراتها المادية الدنيوية، فقد جعلت ريعها في سبيل الله، حيث آثرت بنت المصطفى مواساة الجياع والفقراء من بني هاشم وغيرهم.
يقول النص: (روى أبو بصير، قال أبو جعفر-الباقر- ألا أحدثك بوصية
فاطمة(عليها السلام)؟ قلت بلى، فأخرج حقاً أو سفطاً فأخرج منه كتاباً فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصت به فاطمة بنت محمد، أوصت بحوائطها السبعة: العواف والدلال والبرقة والمثيب والحسنى والصافية ومال أم إبراهيم إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام)، فإن مضى عليّ فإلى الحسن، فإن مضى الحسن فإلى الحسين، فإن مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدي، شهد الله على ذلك والمقداد بن الأسود والزبير بن العوام وكتب علي بن أبي طالب(عليه السلام)(1).قبل أن نخوض في هذا النص نجد مصطلحاً أطلق عليه (صدقات فاطمة)، وهي جمع صدقة، والصدقة ما تصدقت به على الفقراء، أو ما أعطيته في ذات يد للفقراء(2)،
وقد يقال أوقاف فاطمة، حيث تؤدي كلمة الأوقاف إلى معنى الصدقات، والظاهر والله العالم أن هذه الصدقات هي ما حازته فقط مولاتنا فاطمة الزهراء(عليها السلام)من إرث أبيها مما تركه القوم لها، وإن رأى بعض المؤرخين أن هذه الصدقات سلبت منها فقد سلبوها منها كما سلبوا (فدك) وغيرها من الصفايا والأنفال، والتي أشار إليها الإمام علي في خطبته حين قال: (وما أفعل بفدك وغير فدك…).
أما معنى الحوائط، جمع حائط، وهو بستان النخيل، الذي يحده حائط، فيطلق عليه حائطاً أيضًا(3).
أولاً: أصل هذه الصدقات: والصدقات عبارة عن سبع بساتين وهي المثيب، العواف، برقة، حسني، مشربة أم إبراهيم، الدلال، الصافية.
كانت هذه البساتين ملكاً لحبرٍ من علماء اليهود وأغنيائهم، يدعى (مخيريق) ولما وقعت واقعة أحد قال لليهود: ألا تنصرون محمداً، والله إنكم لتعلمون أن نصرته حق عليكم، فقالوا اليوم يوم السبت، فقال: لا سبت، فأخذ سيفه ومضى إلى النبي فقاتل، حتى أثخنته الجراح، قلما حضره الموت، قال: أموالي إلى محمد يضعها حيث يشاء(4).
وقد اختلفت الآراء في إسلام مخيريق من عدمه، فقال حماد بن زيد: كان-مخيريق- أوصى بماله للنبي لمعرفته بأنه رسول الله ولم يسلم، وهي صدقاته(عليها السلام)بالمدينة، بينما ذكر الزركلي في الأعلام: أسلم وأوصى بأمواله للنبي، توفي سنة 3هـ في واقعة أحد(5).
كما اختلفوا في أسرتهن فمنهم من قال: من بني النضير، ومنهم من قال: من بني قينقاع، ومنهم من قال: من بني القطيون(6).
وقد أثنى النبي(صلى الله عليه وآله) عليه بقوله: (مخيريق سابق اليهود، وسلمان سابق فارس، وبلال سابق الحبشة)(7)، ولابد من هذه المقارنة بين مخيريق وسلمان وبلال أن تثبت صحة إسلام مخيريق، وانه كان عالماً بنبوة النبي فاتبعه لأنه لم يكن يهودياً عادياً من عامة اليهود بل كان من علمائهم كما ذكرنا آنفاً وقد أكد الحموي ذلك بقوله: وكان أسلم، فلما حضرته الوفاة أوصى بها لرسول الله.
ثانياً: التعريف بها، والبساتين كما يلي:
1) المثيب،أو الميثب: مال بالمدينة(8)، والمال معناه البستان، وقد ارتبط اسم هذا المكان بسلمان المحمدي في رواية مفادها: (حيث كان يعمل عند بني النضير فكاتبوه على أن يغرس لهم كذا وكذا ودية حتى تبلغ عشر سعفات، فقال النبي(صلى الله عليه وآله): ضع عند كل نقير ودية، ثم غدا النبي (صلى الله عليه وآله)، فوضعها له بيده، ودعا له فيها، فكأنها كانت على ثبج البحر، علت منها ودية، فلما أفائها الله عليه جعلها صدقة، فهي صدقة بالمدينة)(9).
2) العواف،وقيل العوالي، أو الأعواف: جزع معروف بالعالية بقرب المربوع، يسقيها مهروز، وهي من أموال بني محمم(10).
3) برقة: موضع بالمدينة، به مال كانت صدقات سيدنا رسول الله(11).
4) حسني: من ناحية تدعى القف(12)، والقف وادٍ بالمدينة عليه مال لأهلها، ويستقي بستان حسني من مَهْرُوز وهو أيضاً وادٍ بالمدينة يسيل منه المطر(13)، والظاهر أن مهروزاً هذا كان يغذي الكثير من الضياع والبساتين من المياه التي تجتمع فيه، يصدر وادي مهروز من حرة واقم حيث يأخذ من شرقي هذه الحرة ومن هكر ومن حرة صفة حتى يأتي أعلى حلاءة بني قريضة وهناك ينقسم شعبتين تختلط إحدهما بوادي مُذينيب وتذهب الأخرى حتى تتصل بوادي مذينيب بفضاء بني خطمة، ثم يجتمع مذينيب ومهروز ويدخلان صدقات رسول الله إلا مشربة أم إبراهيم، ويطلق على وادي مهروز اليوم أسم الغاوي لتشعب فروعه(14).
5) مشربة أم إبراهيم: وقد تعرف أحياناً بالعالية، وردت في النص الأصلي للوصية التي ذكرها الإمام الصادق(عليه السلام) كلمة (مال) بدلاً عن كلمة (مشربة)، حيث تدل كلمة المال على البستان، أما المشربة فقد وجدنا له معنيين وهما:
المعنى الأول: الغرفة، حيث قالوا: المشربة الغرفة(15)، ومنها مشربة أم إبراهيم وإنما سميت بذلك، لأن إبراهيم-ابن النبي(صلى الله عليه وآله)- ولدته أمه (ماريا القبطية) فيها، وتعلقت حين ضربها المخاض بخشبة من خشب تلك المشربة(16).
المعنى الثاني: البستان، فقالوا فيها:(وليس عليها بناء ولا جدار، وإنما هو عريصة صغيرة بين نخيل، طولها نحو عشرة أذرع، وعرضها أقل منه بنحو ذراع، وقد حوّط عليها برضم لطيف من الحجارة السود)(17).
والظاهر أنها غرفة مجاورة للعريصة المذكورة أو كانت فوقها لأن المشربة هي الغرفة العالية والله تعالى أعلم، وقد قال من ذكرها: إنها موضع مسكن رسول الله(18)، تقع مشربة أم إبراهيم بين مسجد قباء ومسجد الفضيخ، وقد ذكرها جل علمائنا في باب زيارة المساجد المباركة في المدينة المنورة، واليوم قد طمست آثارها، كما طمس آثار غيرها من المساجد والمزارات، حيث كانت مسجداً يقصده الزائرون، وفي تحديدها وتعريفها قالوا:(مسجد شمالي مسجد بني قريضة، قريب من الحرة الشرقية، في موضع يعرف بالدشت)(19).
وإذا كانت مسكناً لرسول الله، فهذا يعني أنه (عليه السلام) كان يسكن في بيته الملاصق لمسجده المبارك، وفيه حجرات حريمه، إضافة لذلك فهو يسكن المشربة بيت ماريا القبطية زوجته، ولا نعلم لماذا أسكن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ماريا بعيداً عن مسجده؟، وقد ورد أنه(صلى الله عليه وآله)كان يقصد مسجد قبا في الأسبوع مرتين، وربما كان فيهما ينزل المشربة، حيث داره وعرصته التي وهبها إياه مخيريق اليهودي كما بينا، وقد أصبحت مشربة أم إبراهيم مسجداً –كما ذكرنا-يقصده العباد والزوار إلى أن تم تهديمه.
6) الدلال: وقد ذكر ابن شبّة النميري: (إن بستان الدلال كان لامرأة من بني النضير، وكان سلمان الفارسي عندها عبداً فكاتبته إن أحياها أعتقته، فأُعلم النبي بذلك، فجلس النبي على فقير- حفرة كان يوضع فيها الغسيل- ثم جعل يحمل إليه الودي فيضعه بيده، فما عدت منها ودية أن أطلعت، فكانت مما أفاء به الله على رسوله)(20).
7) الصافية: بستان يقع شرقي المدينة بجزع زهيرة(21)،والظاهر من كلام السمهودي أن الصافية وبرقة والدلال والميثب بساتين متجاورات في منطقة يقال لها أعلى السورين(22).
وخلاصة القول إن جميع هذه البساتين أصبحت ملكاً لمخيريق قبل أن يهديها لرسول الله(صلى الله عليه وآله)، فقد ملكها من اليهود –بني قريظة وبني النضير وبني محمم-، وقد أوقفها النبي (صلى الله عليه وآله) سنة 7هـ، كما في رواية السمهودي.
وقد ذكر ياقوت في معجمه :(أم العيال: قرية صدقة فاطمة الزهراء بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله)(23)، ولكنها(عليها السلام) لم تذكرها في نص الوصية التي أوردها الإمام الباقر(عليه السلام)، وربما أُخذت منها حالها حال غيرها.
ثالثًا: كيف أصبحت البساتين لفاطمة: بعد أن قتل مخيريق في واقعة أحد، وأوصى ببساتينه للنبي(صلى الله عليه وآله)، أصبحت ملكاً محضاً له(صلى الله عليه وآله)، وقد سأل الإمام الرضا عن هذه الحيطان السبعة التي كانت ميراث رسول الله لفاطمة(عليها السلام)، فقال: لا إنما كانت وقفاً وكان رسول الله يأخذ منها ما ينفق على أضيافه والتابعة تلزمه فيها، فلما قبض جاء العباس يخاصم فاطمة (عليها السلام) فيها، فشهد علي(عليه السلام) وغيره إنها وقف على فاطمة (عليها السلام)(24).
رابعًا: من تولى شؤونها: بعد وفاتها قام أمير المؤمنين بإدارتها وصرف وارداتها في الوجوه التي كان رسول الله(صلى الله عليه وآله)
والزهراء(عليها السلام) تنفق فيها، ثم قام بالأمر بعد استشهاد الإمام علي(عليه السلام)، باشر مهمة الإشراف عليها الإمام الحسن(عليه السلام) خصوصاً حينما رجع إلى المدينة من الكوفة واستقر بها، وبعد وفاته قام الإمام الحسين(عليه السلام)بأمرها تنفيذاً لوصية الزهراء، ثم تولى شؤونها الحسن المثنى بن الحسن السبط باعتباره ابن الأكبر، ولم يسلط التاريخ عليها ضوءاً بعد ذلك ولا ندري كيف كان وضعها خلال الفترات التي تلت ذلك، كما لم يوضح الإمام الباقر(عليه السلام) الذي نقل الوصية لأبي بصير شيئاً في حديثه عما آلت إليه.
خامساً: لماذا أوصت الزهراء(عليها السلام)المقداد والزبير؟: لقد كانت الزهراء واجدة على من ضمه سور المدينة، وكان هناك الصفوة فقط ممن رضيت بهم كسلمان وعمار وأبو ذر والمقداد وغيرهم من الثلة القليلة، ولكنها أوصت إلى المقداد والزبير دون الغير فهل هناك ميزات لهذين الرجلين أهلتهما لأن يكونا وصيي الزهراء(عليها السلام)؟، لنستعرض شيئاً من مواقف الرجلين:
أولاً: الزبير بن العوام:
1- أمه صفية بنت عبد المطلب، أي ابن عمة أبيها رسول الله وزوجها الإمام علي(عليه السلام)، فهو القرابة الوحيدة التي وقفت مع الزهراء في أزمتها، ولا نعلم أين كان الهاشميون، فلم يقفوا بوجه الخطة التي حيكت في سلب الخلافة والإرث من آل الرسول.
2- لم يبايع أبا بكر خليفة لرسول الله(ص)، مع العلم أنه كان متزوجاً بأسماء بنت أبي بكر.
3- الظاهر أن الزبير كانت له أراض مجاورة لهذه البساتين، فقد أقطعه النبي(صلى الله عليه وآله)(ماله الذي يقال له بنو محمم من أموال بني النضير)(25)،وعليه فالزبير أدرى بهذه البساتين من غيره لقرب أرضه منها، ولمعرفته بعائديتها لفاطمة(عليها السلام)، خصوصاً والزهراء قد منعت من باقي إرثها.
ثانياً: المقداد بن الأسود الكندي:
1- زوجته ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، أي كان صهراً للهاشميين(26).
2- من أوائل المسلمين الذين واكبوا نشر الإسلام وساندوا نبيه بالقول والفعل.
3- شهد جنازة فاطمة والصلاة عليها، مما يدل على مدى تقدمه وفضله عند آل البيت(عليهم السلام).
4- قال الإمام الباقر(عليه السلام) لصاحب له:(إن أردت الذي لم يشك ولم يدخله شيء، فالمقداد) (27).
5- كان المقداد أعظم الناس إيماناً تلك الساعة، أي ساعة أن أخرجوا الإمام عليًا ملبباً ليبايع(28).
6- كان المقداد من القلة الذين أنكروا بيعة أبي بكر(29)، لأنه وجد الخلافة قد زويت عن أهلها وقام لها آخرون.
كل ما تقدم أهّل الزبير والمقداد أن يكونا شاهدين على وصية الزهراء التي كتبها أمير المؤمنين علي(عليه السلام) بيده المباركة.
نشرت في العدد 56
(1) الحلي، مختلف الشيعة، 6/303.
(2) ابن منظور، لسان العرب، 10/196.
(3) الطريحي، مجمع البحرين، 1/598.
(4) ابن أبي الحديد، شرح النهج، 14/260.
(5) تركة النبي، ص78، الزركلي، الأعلام، 7/194.
(6) ابن حجر، الإصابة، 6/46.
(7) المجلسي، بحار الأنوار، 22/298.
(8) الحموي، معجم البلدان، 5/241.
(9) الصنعاني، المصنف، 8/418.
(10) السمهودي، وفاء الوفا، 2/152.
(11) ابن منظور، لسان العرب، 10/19.
(12) النميري، تاريخ المدينة، 1/174.
(13) ابن عبد البر، التمهيد، 17/410.
(14) الأنصاري، آثار المدينة المنورة، ص235.
(15) المباركفوري، تحفة الأحوذي، 3/302.
(16) المجلسي، بحار الأنوار، 22/498.
(17) النراقي، مستند الشيعة، 13/340.
(18) المجلسي، بحار الأنوار، 19/120.
(19) النراقي، مستند الشيعة، 13/340.
(20) النميري، تاريخ المدينة، 1/174.
(21) المجلسي، بحار الأنوار، 22/299.
(22) النميري، تاريخ المدينة، 1/174.
(23) 1/254.
(24) الأمين، أعيان الشيعة، 1/320.
(25) ابن شيبة الكوفي، المصنف، 7/640.
(26) الإحسائي، عوالي اللئالي، 3/341.
(27) المفيد، الاختصاص، ص10.
(28) المصدر السابق، ص11.
(29) أيوب، معالم الفتن، ص293.