امتازت الحوزة العلمية في مدينة النجف الأشرف بكونها الرائدة من بين الحوزات العلمية الأخرى في العالم منذ تأسيسها على يد شيخ الطائفة (الشيخ الطوسي)(قدس سره) إلى يومنا هذا، وما ذاك إلا لتشرفها بأنوار باب علم مدينة الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) ألا وهو أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب(عليه السلام) كما ورد في الحديث الشريف الذي ذكره العامة والخاصة.
فإلى هذه المدينة المقدسة تُشد الرحال طلبًا للعلم والمعرفة من منهلها العذب الصافي. فعبر قرون عدة من الزمن تخرج من هذه الحوزة المباركة الكثير الكثير من رجالات الفقه والأصول، إذ إن منهم نال شرف مرتبة الاجتهاد ليكون مرجعًا للتقليد ليس لمن يقطن العراق فحسب بل إن مساحة التقليد ازدادت لتسع بلدانًا أخرى في العالم الإسلامي وغيره ممن تحتضن أتباع أهل البيت (عليه السلام) ومن هنا فإن حوزة النجف الأشرف ومع أنها مرت بظروف حالكة حاولت أن تنال من مقامها السامي إلا أنها أبت كل الإباء إلا أن تزداد إشراقًا يومًا بعد يوم لتملأ فضاء العلم بنورها الوهاج الذي لا ينطفئ أبدًا. فكانت ولا تزال قطب رحى التشيع في العالم.
ومن أساطين الفقه الذي درس وتخرج من هذه الحوزة العلمية المباركة الشيخ جعفر القرشي الذي نود أن نورد له ترجمة مختصرة على صفحات هذه المجلة الغراء التي تعنى بالعلم والعلماء ليكون منا لعلمائنا الأبرار وفاء، أولئك النفر الذين آلوا على أنفسهم أن يكونوا مصابيح وهاجة يشق نورها الدجى كونهم ذوي العقل والحجى.
اسمه وأسرته:
هو الشيخ جعفر بن الشيخ حسن بن الشيخ عبد علي بن الشيخ علي بن الشيخ محمد بن الشيخ مسعود القرشي(1) وقبيلة القرشي تعد من القبائل التي سكنت مدينة النجف الأشرف واشتهرت بطلب العلم والفضيلة والتقوى والورع. فمنها من كان عالمًا مجتهدًا ومنها الخطيب الحسيني ومنها الأديب والكاتب فضلًا عن أن رجالاتها امتازت بالورع والتوى والتواضع وحسن الخلق.
ولادته ونشأته:
كانت ولادة المترجم له في يوم الأربعاء المصادف العشرين من جمادى الأول عام 1280هـ في مدينة النجف الأشرف ونشأ وترعرع بين أحضان هذه الأسرة العلمية الشريفة ليكون فيما بعد علمًا من الأعلام لا يرتضي لنفسه إلا الزهد وهداية الأنام.
دراسته وتلمذته:
قال في حقه صاحب كتاب (مشاهير المدفونين في النجف)(2) من أن الشيخ جعفر (قدس سره) قرأ المقدمات الأدبية والشرعية على لفيف من الأفاضل ومن ثم حضر الأبحاث العالية على كل من الشيخ حسن الخليلي والشيخ محمد طه نجف وصاحب الكفاية الشيخ محمد كاظم الخراساني. حتى تخرج عليهم. فيما يحدثنا الخطيب الحسيني فضيلة الشيخ شاكر القرشي والذي هو حفيد الشيخ جعفر لأمه من أن الأخير كان يباحث الشيخ الخراساني خارجاًً في مسجد الطوسي وكان المسجد لا يسع للطلبة آنذاك، فكان قسم منهم يعتلي السطح ليستمع إلى درس الشيخ الآخوند والذي كان جوهري الصوت، بيد أنه لا يجرأ أحد للإشكال عليه إلا شيخنا المترجم له فكان كثيرًا ما يشكل على أستاذه وكان يتقبل منه ذلك، وما ذاك إلا دليل على غزارة علمه وذكائه ونباهته.
علمه وفضله:
بعد أن اجتاز الشيخ جعفر مرحلة البحث الخارج اشتغل بالتدريس مدة طويلة يحضر درسه جمع من العلماء والأفاضل فغدا يشار إليه بالبنان(3) من خلال إتقانه لأحكام الدين ونشره السنن والآداب ومسائل الشريعة وكان ممن أجازه بالاجتهاد صاحب العروة الوثقى السيد كاظم اليزدي الذي كان مرجعًا للأمة آنذاك فكان الشيخ جعفر بحق عالمًا مجتهدًا واعظًا مرشدًا. وفي هذا النهج سلك المترجم له مسلك أبيه وحذا حذوه. فإنك تجده مرة في محرابه يؤم المصلين في الصحن الحيدري الشريف وفي أخرى قد اعتلى ذروة المنبر وانحدر كالسيل الجارف في إلقاء المسائل الشرعية وأصول العقائد، كما كان في الوقت ذاته كريمًا، سخيًا، طيب النفس، صافي الضمير، نقي السريرة، وكان من تواضعه وزهده في الدنيا أنه لم يعتن بملبوسه وزينته وعلى رأسه عمامة كبيرة لا يعتني بتنسيقها غير ملتفت للدنيا ولا لزخرفها بعيدًا عنها قريبًا من الله تعالى داعيًا إليه بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولما انتشرت ظاهرة المشروطة والمستبدة في النجف الأشرف كان رأي الشيخ جعفر أن يكون جنبًا إلى جنب مع أستاذه الشيخ الآخوند والذي كان راعيًا للمشروطة على خلاف السيد اليزدي والذي كان يرى الحق مع المستبدة في قضية حكم الناس لا المشروطة.
وبعد رحيل الشيخ الآخوند دون أن يحقق مراده في مقاتلة الروس آنذاك توجه المترجم له وبنصيحة من السيد اليزدي إلى مدينة الحيرة والتابعة للحدود الإدارية للنجف الأشرف حاليًا ليكون محلًا للإفتاء والإرشاد..
آثاره العلمية:
ورد في كتاب معارف الرجال(4) في ترجمة للشيخ حسن والد الشيخ جعفر والذي كان هو أيضًاعالمًا فاضلًا.مشيرة إلى المترجم في الهامش (ترك آثارًا علمية رأيت منها مجلدين أحدهما في أحكام الخلل في الصلاة، قال في أوله الركن الرابع في التوابع وقد وقع الفراغ منه في شهر رجب سنة 1346هـ على يد مؤلفه جعفر القرشي) وثانيهما في صلاة المسافر قال في أول الفصل الخامس من فصول الركن الرابع (ووقع الفراغ منه يوم الأربعاء في الأول من ربيع الثاني وابتدأ به في شهر رمضان من سنة 1327هـ.).
وقد قال الشيخ عبد الله المازندراني في تقريظ له على كتاب الشيخ جعفر والذي يحمل عنوان صلاة المسافر ما نصه: (قد سبرت هذا المؤلف الشريف الكاشف عن طول باع مؤلفه المولى الأطهر جناب الشيخ جعفر القرشي في الاطلاع على القواعد وأقوال الأكابر….الخ) وقد عد صاحب كتاب نقباء البشر(5)مؤلفاته في: 1ـ أحكام الخللفي الصلاة.2ـ كتاب في صلاةالمسافر.3ـ كتاب الزكاة.
وفــاته:
بعد أن قضى الشيخ جعفر ردحًا من الزمن من عمره في مدينة الحيرة(25عامًا ) بعد وفاة أستاذه الشيخ الخراساني لما تقدم ليقوم بتربية أهلها وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم حيث شهد له بذلك الكثير من أهل العلم والمعرفة آنذاك بالورع والتقوى ونبذ زخرف الدنيا وشهواتها. حيث كانت تجبى له الحقوق الشرعية من الأغنياء وذوي الجاه والمال نسبت إليه المقولة المشهورة: (لو أني استقطعت من الحق الذي يرد إلي (قران) أقل عملة آنذاك لصارت الآلافلدي) إذ كان (قدس سره) يقوم بتوزيع تلك الحقوق على مستحقيها وفق ما أراده الله تعالى ناسيًا نفسه مع شدة الحاجة إلى المالوحقه في ذلك.
وبعد وفاة السيد اليزدي عاد الشيخ جعفر إلى مدينة النجف الأشرف ليؤم المصلين في الصحن الحيدري الشريف حتى وافاه الأجل في اليوم الثاني والعشرين من شهر ربيع الثاني عام 1355هـ ودفن في إحدى الحجرات في الصحن الحيدري الشريف.
فسلام عليه يوم ولد ويوم رحل إلى ربه ويوم يبعث حيًا ورزقنا الله تعالى السير على دربه والاستنارة بعلومه واتباع آثاره وما ذكرناإلا غيضًا من فيض رحم الله الشيخ جعفر القرشي ورحم علماءنا الأبرار إنه أرحم الراحمين.
نشرت في العدد 56
(1) معارف الرجال: محمد حرز الدين، 1/273.
(2) مشاهير المدفونين في النجف: كاظم الفتلاوي، حرف الجيم ص73.
(3) ماضي النجف وحاضرها: جعفر محبوبة، 3/77
(4) معارف الرجال 1/273.
(5) طبقات أعلام الشيعة أو نقباء البشر :آغا بزرك الطهراني ج1، ق1، 283، ط النجف الأشرف، 1373هـ .