الإمام الحسين (عليه السلام) وارث الأنبياء
ليس بدعاً من القول أن يكون سيد الشهداء(عليه السلام) وارث الأنبياء والرسالات، فهو آخر الخمسة من أصحاب الكساء الذين بشّرت بهم الكتب السماوية على لسان أنبيائها(1)، ولعل أجلى تشابه وتماثل لأبي عبدالله الحسين (عليه السلام) يظهر مع أنبياء الله الذين قدموا أرواحهم في سبيل رسالاتهم، ولاسيما نبي الله يحيى بن زكريا (عليه السلام) الذي تلمحُ له مع الإمام (عليه السلام) ملامح التماثل والتقارب،
فقد بشر النبي(صلى الله عليه وآله)بالحسين قبل ولادته ،وكذا الامر ليحيى بشّر به زكريا قبل ولادته، لم يسم باسم الحسين أحد قبله ،ويحيى لم يسم باسمه أحد قبله، يحيى قتل مظلوماً وبكت السماء والأرض عليه دما، وأُهدي رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل ووضع رأسه بين يدي عدوّه، والحسين(عليه السلام) قتل مظلوماً، وبكت السموات والأرض عليه دمًا، وجِيء برأسه إلى الطاغية يزيد بن معاوية، ووضع أمامه، إلى غير ذلك من وجوه التشابه(2) بين الحسين (عليه السلام) ويحيى (عليه السلام) فليس غريباً بعد ذلك أن تجد أن الحسين (عليه السلام) يكثر من ذكر يحيى في أحاديثه(3)،
كما كان الحسين (عليه السلام) على لسان زكريا (عليه السلام) كما في حديث سعد بن عبدالله القمي مع الإمام العسكري (عليه السلام) والحجة صاحب الأمر (عجل الله فرجه) وفيها سؤاله عن (كهيعص)(مريم:١)، (قلت: فأخبرني يا ابن رسول الله عن تأويل (كهيعص) قال هذه الحروف من أنباء الغيب، أطلع الله عليها عبده زكريا، ثم قصها على محمد (صلى الله عليه وآله) وذلك أن زكريا سأل ربه أن يعلمه أسماء الخمسة فأهبط عليه جبرئيل فعلمه إياها، فكان زكريا إذا ذكر محمدا وعليا وفاطمة والحسن والحسين سري عنه همه، وانجلى كربه، وإذا ذكر الحسين خنقته العبرة، ووقعت عليه البهرة،
فقال ذات يوم: يا إلهي ما بالي إذا ذكرت أربعا منهم تسليت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأه الله تعالى عن قصته، وقال: (كهيعص)، (فالكاف) اسم كربلاء. و(الهاء) هلاك العترة. و(الياء) يزيد، وهو ظالم الحسين (عليه السلام). و(العين) عطشه. و(الصاد) صبره. فلما سمع ذلك زكريا لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ومنع فيها الناس من الدخول عليه، وأقبل على البكاء والنحيب وكانت ندبته (إلهي أتفجع خير خلقك بولده إلهي أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه، إلهي أتلبس عليا وفاطمة ثياب هذه المصيبة، إلهي أتحل كربة هذه الفجيعة بساحتهما)؟! ثم كان يقول: (اللهم ارزقني ولدا تقر به عيني على الكبر، وأجعله وارثا وصيا، واجعل محله مني محل الحسين، فإذا رزقتنيه فافتني بحبه، ثم افجعني به كما تفجع محمدا حبيبك بولده) فرزقه الله يحيى وفجعه به. وكان حمل يحيى ستة أشهر وحمل الحسين (عليه السلام) كذلك )(4).
وجرى ذكر الحسين (عليه السلام) في قلب إبراهيم ولسانه، وذلك من معاني ووجوه تفسير قوله جل ذكره: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)(الصافات: ١٠٧)، (عن الفضل بن شاذان، قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: (لما أمر الله تعالى إبراهيم (عليه السلام) أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبش الذي أنزله عليه، تمنى إبراهيم (عليه السلام) أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل (عليه السلام) بيده، وأنه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه، ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح [ أعز ] ولده بيده، فيستحق بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب.
فأوحى الله عز وجل إليه: يا إبراهيم، من أحب خلقي إليك؟ فقال: يا رب، ما خلقت خلقا أحب إلي من حبيبك محمد. فأوحى الله عز وجل إليه: يا إبراهيم، فهو أحب إليك، أو نفسك؟ فقال: بل هو أحب إلي من نفسي. قال: فولده أحب إليك، أو ولدك؟ قال: بل ولده. قال: فذبح ولده ظلما على أيدي أعدائه أوجع لقلبك، أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟ قال: يا رب، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي. قال: يا إبراهيم، إن طائفة تزعم أنها من أمة محمد، ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلما وعدوانا، كما يذبح الكبش، فيستوجبون بذلك غضبي.
فجزع إبراهيم (عليه السلام) لذلك، وتوجع قلبه، وأقبل يبكي، فأوحى الله عز وجل إليه: يا إبراهيم، قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسين وقتله، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب. فذلك قول الله عز وجل: (وفَدَيْناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)(5)، وقد يتوهم أن فداء الإمام الحسين (عليه السلام) لجده إسماعيل (عليه السلام) فيه من دلالة الأفضلية، وعلو الرتبة على الإمام (عليه السلام)، وهو بخلاف ما نعتقده بمقام أهل البيت (عليهم السلام)، ولاسيما أنهم خلاصة الأديان بأنبيائها ورسلها وكتبها، ومنتهى وحي السماء وملتقى الرسالات وجوهرها.
ومن وجوه علاقة سيد الشهداء (عليه السلام) مع الأنبياء صلته بالسيد المسيح (خصائص عديدة منها البشارة بالحسين (عليه السلام)، وذكره على لسانه ولاسيما ما يجري عليه في كربلاء، أما البشارة به فهي كلام السيد المسيح(عليه السلام) لتلاميذه: بذهابه إلى ربّه تعالى الذي وعده بإرسال المؤيِّد له، جاء في إنجيل يوحنا: (إني ذاهب الآن إلى الذي أرسلني وما من أحد منكم يسألني إلى أين تذهب؟ غير أنني أقول لكم الحق: من الخير لكم أن أمضي فإن لم أمض لا يأتكم المؤيِّد، أما إذا مضيت فأرسله إليكم، ومتى جاء أخزى العالم على الخطيئة والبر والحكم )
ويذهب الدكتور المفكر انطون بارا إلى رأي يخالف به تفسير بعض اللاهوتيين للفظ (المؤيّد) بأنه من معاني (الروح القدس)؛ لكونه جاء مغايراً لاستعمال توصيف (الروح القدس) في الانجيل، ودعّم ذلك بشواهد مختلفة من الانجيل(6)، واختار رأيا استدل عليه بحسب اعتقاده أن المقصود بـ (المؤيِّد) الذي بشر به عيسى(عليه السلام) هو الإمام الحسين(عليه السلام)
يقول انطون بارا بحسب ما يعتقد: (ولو نظرنا لرأينا…أن ليس ثمة من شهادة عظيمة أعقبت شهادة عيسى بعد مماته، سوى شهادة ريحانة الرسول الاعظم، وسليل النبوة وغذيها، وهي شهادة جرت على لسان شهيد المسيحية عيسى(عليه السلام)؛ لما تمثلت له أهوال شهيد الإسلام الحسين(عليه السلام) فوق الأرض التي زارها والتي صارت مسرحاً لشهادته… قد تأثر ولعن قاتليه، وأمر بني اسرائيل بلعنهم، وحث الذين سيدركون أيامه على القتال معه، فما هو الحجم المقياسي لشهادة الحسين(عليه السلام) في سفر المسلّمات الإلهية والمعادلات البشرية على ضوء ما قدمته من تضحيات عادت على العقيدة بما عادت؟ كشهادة قربت بعظمتها وخطر نتائجها وعظمها إلى حدود النبوة، وقربت شهيدها إلى حدود ما في النبوة من قدسية وخلود، فكانت ظلاً للنبوة، وكان الحسين(عليه السلام) شبيها بالرسل.
ولا عجب في هذا المقتضي مادام لم يخرج عما أوصى به عيسى (عليه السلام) بني إسرائيل وما حثهم عليه من القتال مع الحسين(عليه السلام)، بوصف الشهادة معه (كالشهادة مع الأنبياء)، مادام لم يخرج عما اعلنه الرسول الكريم من قولته: (حسين مني وأنا من حسين) مبتدئاً إعلانه بالتركيز على كون الحسين(عليه السلام) منه، قبل أن يكون هو من الحسين)(7).
ومن يتأمل بخصوصيات العلاقة بين سيد الشهداء(عليه السلام) والسيد المسيح(عليه السلام) ومن سار على نهجه من النصارى يلمس ذكراً للإمام (عليه السلام) وشهادته ما قبل عاشوراء وكربلاء، ومعها وبعدها، ولا عجب في ذلك ولا غرابة في تمثّل الحسين(عليه السلام) ومشابهته للسيد المسيح(عليه السلام) في الذبِّ عن حرمة الدين والتضحية دونه، وإعلاء جوهر الدين والحفاظ على سرّ خلوده،
فالموقف الحسيني مثّل للكتابيين بعداً رسالياً لم يكن بمعزل عن الأنبياء ورسالاتهم، بل هو عينها وفي عمق جوهرها ولبابها، ولعل في حديث السيد المسيح(عليه السلام) والإشارة إلى ما يجري على الإمام الحسين(عليه السلام)(8) امتداد رسالي كشف عنه أهل البيت ليكون مناط تعضيد لوحدة الرسالات وتماثل مواقفها وتشابه أهلها النجباء الذين اختارهم الله على علم على العالمين، وانتخبهم من خلقه أجمعين.
وتجسد الموقف الرسالي في يوم عاشوراء المماثل والمشابه لموقف السيد المسيح – وهو اعتقاد باحث نصراني(9) قارن بين كلام الإمام ونبي الله عيسى (عليه السلام) في لبّ صراعهما مع الباطل وفداء الرسالة – في الدفاع عن الحق والذبِّ عن حقيقة الإسلام والقرآن؛ لذا كان الإمام في خطابه العاشورائي يقول: (ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهى عنه) وهو صدى قول الله تعالى في عيسى (عليه السلام) وقومه: (ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) (مريم:٣٤)
فالقضية المحورية في فداء عيسى، وشهادة الحسين(عليه السلام) هي إقامة الحق الذي نبذه أعداء الرسالات طلباً للفسادة والظلم، وإبطالاً للصلاح والعدل يقول الإمام الحسين (عليه السلام) في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية: (وإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي (صلى الله عليه وآله) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب (عليه السلام) فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين)(10)
وفي المقابل ترى السيد المسيح (عليه السلام) يرد على سؤال اليهود عندما قال لهم: (الحق يحرركم، كيف تقول أنت أنكم تصيرون أحراراً، ولم نستعبد لأحد قطّ؟ فأجابهم: الحق الحق أقول لكم… إن كل من يعمل الخطيئة هو عبد الخطيئة)، وفي الآية (40) من الإصحاح الثامن كذلك يقول السيد المسيح (عليه السلام): (ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني… وأنا الأنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله هذا لم يعمله إبراهيم… أنتم تعملون أعمال أبيكم… انتم من أبٍ هو إبليس ذاك كان قاتّلا للناس من البدء… ولم يثبت في الحق… لأنه ليس فيه الحق، وأما أنا فلأني أقول الحق لستم تؤمنون بي… الذي من الله، يسمع كلام الله… لذا أنتم لستم تسمعون… لأنكم لستم من الله)
وقال أيضاً مخاطباً اليهود والذين جاؤوا ليعتقلوه: (أعلى لص خرجتم تحملون السيوف والعصي؟، كنت كل يوم بينكم في الهيكل، فلم تبسطوا أيديكم إلى، ولكن تلك ساعتكم وهذا سلطان الظلام)(11)
وقال: (ألم يعطكم موسى الشريعة، وما من أحد منكم يعمل بأحكام الشريعة، لماذا تريدون قتلي)(12).
ولعل في مضامين هذا الكلام بحسب ما أعتقد شبه وتقارب من قول الإمام الحسين (عليه السلام) كذلك في وصف أعداء الرسالة وأعوان الظلم (وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله)(13).
ولذا يخلص الدكتور استانبوليان من خلال المقارنة بين كلام الإمام الحسين (عليه السلام) والسيد المسيح(عليه السلام) إلى انطباق دلالة ورمزية الآية القرآنية بحق نبي الله عيسى (عليه السلام) على الإمام الحسين(عليه السلام) في قوله تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) (النساء:١٥٧)، ليصل إلى عالمية وعظمة الإمام الحسين (عليه السلام) وصلة نهضة وعلاقتها بالكتب السماوية السابقة ويختم كلامه بقوله (لوددنا… لوكان لدينا عدة أرواح لنفديك بها جميعاً)(14).