لم تكن واقعة كربلاء معركة عابرة التقى فيها جيشان كما هو الحال في المعارك الأخرى فانتصر أحدهما وانهزم الآخر في ساعة ليقفل فيها التاريخ أحداثها ويضعها صفحة من صفحات كتابه.
لقد سجلت هذه الواقعة حضوراً مهماً، فهي الواقعة الوحيدة التي تم الحديث عنها وهي بعد لم تقع بما أخبر به النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) أم سلمة كما في حديث القارورة أو ما أخبر به الإمام علي(عليه السلام) ابن عباس وما أخبر به الإمام الحسن(عليه السلام) أخاه الإمام الحسين(عليه السلام) عندما قال له ولا يوم كيومك يا أبا عبد الله(1)، ثم لتستمر هذه الواقعة محفزاً لنهضات وثورات هنا وهناك ولتبقى معانيها السامية ليومنا هذا.
ومن يستطلع كتب السير والتاريخ والمقاتل يلاحظ أن الإمام الحسين(عليه السلام) لم يشر من قريب أو بعيد إلى إمكانية النصر المادي على العدو، بل كانت كلماته(عليه السلام) كلها تصب في الشهادة حيث أعلن(عليه السلام) في أول بيانات نهضته:
(من لحق بي منكم أستشهد معي، ومن تخلف لم يبلغ الفتح والسلام)(2)، والفتح هنا ليس بمعنى الانتصار المادي على الجيش الأموي ودخول الكوفة فاتحاً واستلام مقاليد الخلافة من الأمويين، بل الفتح هو تحقيق إرادة السماء في ديمومة الإسلام وحفظه من مخططات الأعداء ممن أرادوا هدم قواعده ووأد تعاليمه وانجازاته، كما قد يكون المعنى الذي أراده سيد الشهداء(عليه السلام) هو ما بعد الشهادة، فالمرتبة التي ينالها الشهيد تجيز له أن يكون فاتحاً، وهل يوجد فتح أعظم من تبوؤ مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ولكن هناك تساؤلاً:
هل كان الإمام الحسين(عليه السلام) مخططاً لأبعاد هذه الحرب، مستخدماً الأساليب العسكرية بإستراتيجياتها المعنوية والمادية؟، وهذا يعني أنه ـ وبالرغم ـ من يقينه التام بما ستؤول إليه نتيجة الحرب من استشهاده واستشهاد رجال أسرته وأصحابه وسبي أهل بيته ونهب ماله وحرق أبياته، سيقوم بدور القائد بكل ما تعنيه هذه الكلمة أم سيقتصر دوره القيادي باعتباره إماماً على الوعظ والإرشاد ثم يقاتل القوم ساعة هو وأصحابه ليقتلوا وينتهي كل شيء.
هذا التساؤل المطروح نجد جوابه فيما سنعرضه من فعاليات قام بها الإمام الحسين(عليه السلام) تثبت قيادته العسكرية الناجحة رغم قلة جيشه ومعداته الحربية والتي سنعقد فيها مقارنة بين الجيشين قبل بيان تلك الفعاليات.
قبل الإجابة على التساؤل علينا أن نعرف مصطلح الإستراتيجية، وهو مصطلح عسكري بالأساس، عرف به اليونانيون الخطط الحربية قديماً، أو هو فن التخطيط للعمليات العسكرية قبل نشوب الحرب وفي نفس الوقت هو إدارة تلك العمليات عقب نشوب الحروب(3)، تعكس الإستراتيجية الخطط المحددة مسبقاً لتحقيق هدف معيّن على المدى البعيد في ضوء الإمكانات المتاحة أو التي يمكن الحصول عليها.
تقودنا نتيجة التساؤل المطروح أولاً إلى تساؤل آخر وهو: لماذا يخطط الإمام الحسين(عليه السلام) ويدير الحرب وهو يعلم أنه مقتول وأن النتيجة المادية ستكون لصالح العدو؟
أولاً) الجيشان: نظرة مقارنة:
لا يخفى على أحد الفرق الشاسع في عدد المقاتلين بين المعسكر الحسيني والمعسكر الأموي فقد بلغ عدد أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) في بعض الأرقام 82 رجلاً، منهم 32 فارساً و40 راجلاً كما هو المعروف، ومن المؤرخين من قال كان عددهم 110، وقد وصلت بعض الإحصائيات فيما روي عن الإمام الباقر(عليه السلام) إذ قال: كانوا خمسة وأربعين فارساً ومائة راجل(4)، بينما بلغ عدد الخارجين إلى حربه 30000 رجلٍ حسب خبر تكامل الجيوش عند ابن سعد(5)، ومن الطبيعي أن يكون هذا العدد حاوياً على جميع الصنوف العسكرية المعروفة والسائدة آنذاك، كالخيالة والرجالة والرماة وغيرهم.
أما السلاح فقد قاتل أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) بالسيوف، وغاية ما يصل العدد إلى 140 سيفاً أو أكثر منه بقليل، أما الرمي بالسهام فقد تميز به هلال بن نافع وأبو الشعثاء الكندي فقط والظاهر أنهما كانا متخصصان برمي السهام، ماهرين في هذا الفن الذي لا يجيده إلا القلة، في حين نرى الجيش الأموي امتلك مختلف الآلات العسكرية من سيوف ورماح ونبال وأقواس، كما حارب البعض ممن لم تتوفر له تلك الآلة بالوسائل البدائية كالحجارة وعظام الدواب، في حين لم نجد من أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) من لجأ إلى هذه الطريقة الرخيصة في الحرب، وإذا أخذنا بأن عدد الأنصار وصل إلى 145 رجلاً فإن نسبة الجيش الحسيني تبلغ حوالي0.483% من الجيش الأموي.
ثانياً) إستراتيجيات الإمام الحسين(عليه السلام):
لقد مارس الإمام الحسين(عليه السلام) الدور القيادي بكل معانيه، فقد قسم نشاطه إلى دورين، دور التوجيه المعنوي والتعبئة، حيث كان يركز على تعريف جمهور المسلمين بأهداف حركته المباركة وإعلام من سيصحبه من المقاتلين بنيل شرف الشهادة، وكان يستخدم الطريقة المباشرة عند كلامه عن المعركة المرتقبة، ويتجلى هذا الموقف مع عبيد الله بن الحر الجعفي عندما لقيه في حصن بني مقاتل وطلب منه الانضمام لجيشه، فقد كانت محاورته مع عبيد الله الجعفي محاورة كاشفة عن أسلوب الإمام في تعامله مع المقابل بكل شفافية ووضوح، ولما يئس من انضمامه قال: (ما كنت متخذاً المضلين عضدا)(6).
كما تمثل في الإمام الحسين(عليه السلام) الخلق الإسلامي الرفيع الذي يتوجب على القائد أن يحمله وهو بذلك يسير بسيرة جده وأبيه، فلم يجهز على جريح ولم يتبع شريداً ولم يستخدم ضرورات الحياة كورقة للضغط على الأعداء، بل كان (عليه السلام) يبكي عليهم لأنهم سيدخلون النار بسبب قتله(عليه السلام) على أيديهم، وكم تأمّل خيراً في هدايتهم وسعى بكل ما أوتي من قوة لإنقاذ أكبر عدد منهم، كما لم يمنعهم الماء كما فعلوا معه، فعندما التقى بجيش الحر كانوا على وشك الهلاك بالعطش، فسقى الجيش عن آخره، وكان يسقي بعض من سيشترك بقتله بيده الكريمة.
أما الدور الآخر فهو الدور العسكري، حيث يتجلى دوره هذا فيما سنذكره أدناه:
1) الاستطلاع قبل المعركة:
كان هلال بن نافع من أخص أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) وأكثرهم ملازمة له، خصوصاً في مضان الاغتيال، ولما رأى الإمام الحسين(عليه السلام) خرج في جوف الليل إلى خارج الخيام يتفقد التلاع والعقبات تبعه نافع، فسأله الإمام الحسين(عليه السلام) عما أخرجه قال: يا بن رسول الله أفزعني خروجك إلى جهة معسكر هذا الطاغي، فقال الإمام الحسين(عليه السلام): إني خرجت أتفقد التلاع والروابي مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون(7).
2) تأمين الجبهة الداخلية:
وفي ذلك قام(عليه السلام) بأعمال عدة منها:
أ- أمر بحفر خندق يحيط بالخيام ويكون على شكل هلال بحيث تكون الخيام خلف الجيش، ويحيط الخندق بالخيام من جهة الخلف(8).
ب- أمر برمي قصب وحطب بالخندق ليتم إشعاله عند بدء العمليات الحربية حماية للجبهة الخلفية من اختراقها من قبل الأعداء(9).
ج- أمر أصحابه أن يقرّبُ بعضُهم بيوتَهم من بعض(10). أن يدخلوا الأطناب بعضها ببعض(11).
د- أن يكونوا بين البيوت فيستقبلوا القوم من وجه واحد، والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، وقد حفّت بهم إلا الوجه الذي يأتيّنهم منه عدوهم(12).
3) تقسيم القطاعات العسكرية:
كان التقسيم السائد آنذاك هو الميمنة والميسرة والقلب والجناحان والساقة، ولكن الإمام ونظراً لقلة جيشه أختصر ذلك على (ميمنة وجعل قائدها زهير بن القين، وميسرة وعليها حبيب بن مظاهر الأسدي، وهو(عليه السلام) كان على القلب، وأعطى الراية بيد أخيه العباس بن علي(عليه السلام)(13).
4) فرض أسلوب القتال:
استطاع الإمام الحسين (عليه السلام) فرض أسلوب الحرب طيلة ساعات القتال لحين استشهاد أغلب أصحابه، وبيان النقص الواضح فيهم، فقد اختار أسلوب المبارزة الشخصية، حيث يبرز المقاتل ليلاقي نظيره من المقاتلين، فيقتل ويقتل إلى أن يقتل، وقد اعتمد الإمام هذا الأسلوب عندما حمل الهاشميون حملة واحدة وانجلت المعركة عن مقتل خمسين مقاتل منهم فقال (عليه السلام): صبراً يا بني عمومتي صبراً يا أهل بيتي، فو الله لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً(14).
فقد أراد الحسين(عليه السلام) كسب أكبر مدة من الوقت ليبين خلالها ومن خلال خطبه وأحاديثه أهدافه السامية ويحاول هداية أكبر عدد من المضللين الذين جاؤوا للحرب دون معرفة، أو هزتهم العبارات الرنانة التي رفعت بالكوفة التي تمجد جيش الشام، أو خافوا من بطش عبيد الله بن زياد وهو يتوعد من يراه في الكوفة بإنزال أقصى العقوبات بحقه إن لم يلتحق بالقطعات العسكرية المتوجهة إلى كربلاء لحرب سبط رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وكم كان الشاعر المرحوم الشيخ حمادي الكواز الحلي موفقاً حينما صوّر الأعداد المهولة لأفراد الجيش بقوله:
جــاءت وقــائدهــا العمى وإلى حرب الحسين يقودهــا الجهلُ
بجـحـــافـلٍ بالطــــف أولهـا وأخــــيرها بالشــــــام متصّلُ
وهذا ما لاحظه عمر ابن سعد لما قال لجيشه: ويحكم اهجموا عليهم هجمة رجل واحد(15)، لأنه علم أن هذا الأسلوب العسكري الذي تبناه سيد الشهداء(عليه السلام) سيؤدي إلى استنزاف في أصحابه وضعفهم النفسي والجسدي وقد يتحولون في أي لحظة للمعسكر المقابل، فهم يرون أمامهم فتية وشباباً وكهولاً يرتطمون بالموت ارتطاماً ولا يخشون حرارة السيوف وألم الحديد، فيكاد الشك يأتي عليهم، فقد أيقنوا بالخسارة الجسيمة التي ستلحق بهم جراء خذلانهم ابن رسول الله ونصرهم يزيد الطاغي المجرم، مما جعله يسرع من وتيرة القتال لضمان القضاء على الجيش المقابل بأقل وقت وبأقل عدد من قتلى جيشه.
5) جغرافية أرض الواقعة:
من خلال الحديث المتقدم في فقرة الاستطلاع قبل المعركة نلاحظ ورود كلمات التلاع والعقبات والروابي، فالتلاع جمع تلعة وهو ما ارتفع من الأرض وما هبط منها وهي من الأضداد(15)، أما العقبات فهي جمع عقبة، المرقى الصعب من الجبال(16)، أما الروابي، جمع رابية فهي المكان المرتفع من الأرض(17)، وهذا الحديث يلقي نظرة على تضاريس أرض الواقعة، فبرغم بعد معسكر الإمام الحسين(عليه السلام) عن نهر الفرات نسبياً بسبب عدم تمكين الحر الإمام الحسين(عليه السلام) من النزول على أرض قريبة من النهر،
إلا أن الإمام الحسين(عليه السلام) نزل أرضاً وعرة تحيط بها المرتفعات والمنخفضات، وهذا ما يلاحظ في موقع قبره الشريف حيث يقع في منخفض بينما نجد التل الزينبي يرتفع عن الأرض الطبيعية، فقد ابتعد(عليه السلام) عن الأرض المنبسطة التي تصلح لاضطراد الخيل وحركتها إلى أرض وعرة حتى يعيق تقدمها نحو الخيام، ويجعل أسلوب القتال الذي ستفرضه الظروف بيده ولو لفترة وجيزة.
6) التعبئة:
كما بينّا فقد استثمر الإمام الحسين(عليه السلام) كل فرصة مؤاتية للتعريف بمغزى نهضته المباركة ورسم خطوطها العامة أمام جمهور المسلمين ليبقى التاريخ شاهداً على أحقية وثبته بوجه الطغاة الذين أرادوا وأد الإسلام وضرب قواعده بكل ما أتيح لهم من قوة.
لقد نجح الإمام الحسين(عليه السلام) أيّما نجاح في أسلوبه التعبوي الذي اعتمده في حواراته مع من التقى بهم في المدينة المنورة أو في مكة أو أثناء الطريق وحتى في كربلاء إبان بدء المعركة، وكيف لا ينجح وهو الإمام الجامع للصفات العالية والأخلاق الفاضلة وقد نشأ وتربى في دار الوحي والرسالة وشبّ في كنف البلاغة والبطولة، فكان كلامه نور لمن دخل الإيمان قلبه، وسرعان ما يتحول عما هو عليه إلى موكب الإمام(عليه السلام)، وهذا ما حصل مع زهير بن القين، فبمجرد أن اجتمع به سيد الشهداء(عليه السلام) زال ذاك الحاجز الصلد عن عينيه ورجع عن عثمانيته ليكون قائداً على ميمنة جيش الأنصار.
7) المباشرة الشخصية بالقتال:
لم يبق الإمام الحسين(عليه السلام) حينما دارت رحى الحرب في خيمته يراقب الوضع عن بعد، لائذاً بجيشه كما هو الحال مع أعدائه، بل كان ينزل الساحة بين تارة وأخرى فكان يمشي إلى الشهداء في مواضع استشهادهم سواء كانوا من أصحابه أو من أهل بيته، وكم شدّ بسيفه على قاتلي أنصاره فقتلهم.
8) الخبرة والتمرس:
لم يأت الدور القيادي الذي اضطلع به الإمام الحسين(عليه السلام) من دون ممارسة سابقة، وبالرغم من كونه إماماً يملك قابليات وقدرات خاصة مكنته منها الإمامة إلا أن الأوضاع في يوم عاشوراء جرت على طبيعتها فلم تتدخل قوى غيبية في نصرة سيد الشهداء أو مده بالماء لإنقاذ أسرته من شبح الموت عطشاً.
لقد لعبت خبرة الإمام الحسين(عليه السلام) دوراً هاماً في توجيهه للمعركة، فقد كان مشاركاً في حروب الجمل وصفين والنهروان، فاخذ من أبيه الشيء الكثير في إدارة الحرب وحسم النتائج. ولما لم يبق معه أحد ينصره، نزل إلى المعركة ليباشر القتال بنفسه، هذا وقد أخذ التعب والحر والجوع والعطش والمصائب المتتابعة بفقد الولد والأخوة والأسرة والأصحاب منه مأخذاً ولكنه لم يخضع ولم يساوم على موقفه، ومع هذه الأمور التي إذا صادفها القائد بكل تفاصيلها التي واجهها سيد الشهداء(عليه السلام) فسيضطر للحلول الحرجة التي لا تفلت من مدار الاستسلام والقبول بالواقع المفروض مهما كان مرّاً، ولكن الإمام الحسين(عليه السلام) ظل صاحب المبادرة فقد نظم ثلاث حملات بمفرده، وكانت خيام عائلته مركزه الذي ينطلق منه إلى الميدان، وكانت شهادته –وإن كانت بأبشع الصور التي صورها التاريخ حيث الذبح عطشاً – دليلاً على نجاحه اللا محدود في تحقيق هدفه الأسمى.
9) استخبار عزائم ونوايا الأتباع:
القائد الناجح سواء كان قائداً في الميدان العسكري، أو في الميدان الإداري يكون على مستوى عالٍ في إدراك نوايا أتباعه، ممن يسير معه وهذا يعود غالباً إلى مقدرة القائد في التمييز وقابليته على قراءة الأسرار من خلال الخبرة المتراكمة لديه، وهذا ما حصل مع الإمام الحسين(عليه السلام) فقد كان يعلم بوضع كل عنصر من عناصر جيشه، حتى من حيث مكانته الاجتماعية ووضعه الأسري،
ونرى ذلك جلياً في قول السيدة زينب(عليها السلام) لأخيها الإمام الحسين(عليه السلام): أخي، هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟، فإنّي أخشى أن يسلموك عند الوثبة واصطكاك الأسنّة ! فبكى (عليه السلام) وقال: أَما وَاللهِ ! لَقَدْ بَلَوْتُهُمْ وَلَيْسَ فيهِمُ إِلاَّ الأَْشْوَسَ الأَْقْعَسَ يَسْتَأْنِسُونَ بِالْمَنِيَّةِ دُوني اسْتِئْناسَ الطِّفْلِ بِلَبَنِ أُمِّهِ)(18).
كان الأنصار عبارة عن مزيج من شخصيات انحدرت من مجتمعات كوفية ومدنية ومكية وبصرية وبدوية، وفيهم السيد المطاع في قومه والعبد المملوك ومابين هاتين الطبقتين تتفاوت طبقات الأنصار، ولم تلعب هذه الطبقية دوراً في تقديم الحر على العبد أو المالك على المملوك بل انزاحت مع المظاهر الدنيوية وأصبحت الشهادة المرتبة العليا التي ألغت الطبقية وشكلت طبقة جديدة بمواصفات مذهلة اسمها طبقة شهداء الطف.
10) التحشيد الإعلامي:
لعل السر الأكبر في اصطحاب الإمام الحسين(عليه السلام) عائلته يكمن في الدور الإعلامي الذي ستقوم به العائلة بعد استشهاده(عليه السلام)، فالقائد ينتهي دوره الميداني المادي بمجرد قتله، وهنا يأتي دور الإعلام، فإذا كان فاعلاً، محركاً للعواطف والمواقف، كانت حركة القائد خالدة موفقة إلى حد بعيد في تحقيق أهدافها وديمومتها، وهذا الأمر أدركه تماماً أبو الشهداء(عليه السلام)، إذا كانت مسألة اصطحاب العيال أمراً لا يفارق تفكيره،
فقد فكر في هذا الأمر ملياً، ووجد أن شهادته (عليه السلام) لا تكون وحدها الحل الشافي لما تمر به الأمة آنذاك من إرهاصات تهدد المجتمع الإسلامي بفك روابطه وإعادة إنتاج مجتمع وثني جاهلي كما كان من قبل، فأعد العدة لتكون العائلة معه، وإنها ستتحمل من الأذى ما لا يطاق، فستشاهد صوراً من العذاب النفسي والجسدي على يد أناس أجلاف لا يحملون في عقولهم أية مشاعر تربطهم بالطبيعة الإنسانية.
لم يعلن (عليه السلام) عن السبب الحقيقي في حمله النساء فقد كانت إجاباته (عليه السلام) إقناعية غايتها إفهام السائل إن الأمر منوط بمشيئة الله جل جلاله، لذا فقد سأله عبد الله بن عباس: (فإن كنت قد عزمت على الرحيل، فما معنى حملك النسوة معك: فقال(عليه السلام): شاء الله أن يراني قتيلا، وشاء أن يراهن سبايا على أقتاب المطايا)(19).