Take a fresh look at your lifestyle.

الحسن والحسين (عليهما السلام) (بين الصلح والنهضة)

0 819

     

          من المسلمات الثابتة والتي ليس فيها أدنى شك أو التباس هو أن أدوار الأئمة(عليهم السلام) جاءت منسجمة مع حياة الأمة وسياسة الحكام، كلٌ مع زمنه وحسب مقتضيات ومستلزمات وإرهاصات المرحلة أو الدور الذي يعيشه الإمام(عليه السلام)، وكذلك أسلوب الحاكم وطبيعة الموقف والاستراتيجية وأسلوب التحرك مع قراءة واعية وصادقة وشجاعة لكل تلك الأحداث كي يخرج الإمام(عليه السلام) بحصيلة نهائية عند الأسلوب الأفضل والأمثل لتحركه والعمل بالوسيلة (الصائبة والمتاحة) التي يجب على الإمام اتخاذها حيال ذلك كله لكي يكون عاملاً إيجابياً ومؤثراً ومصححاً لانفلاتات وطيش وتخبط ذلك الحاكم من أجل أن يحافظ ولو على الخطوط العريضة أو ركائز الدين في أصوله وفروعه وآدابه،

            وذلك درءًا ومنعاً للانحرافات الكبيرة والتي من الممكن أن ينزلق الدين بسببها إلى طرق شديدة الوعورة لا عودة فيها، وقد يصل الحال ألا يكون هناك أمل في العودة، لولا الأدوار والمهام التي قام بها وضحى من أجلها جميع الأئمة (عليهم السلام) بلا استثناء.

              وعلى هذا الأساس يرى الدارس في التاريخ الإسلامي عموماً وفي تاريخ وسير أهل البيت(عليهم السلام) خصوصاً بأن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قد اتخذ كل منهم طريقاً وأسلوباً ومنهجاً خاصاً به تبعاً للظروف التي يمر بها ، وقد تبدو هذه الأساليب والمناهج مختلفة في ظاهرها، لكنها ثابتة الغايات والمطالب في الجوهر، تسير جميعاً نحو طريق واحد وغاية واحدة هي الحفاظ على لب الإسلام وجوهره وذلك من خلال الصفوة من أهل البيت(عليهم السلام) والأصحاب الأخيار الذين لا تخلو الأرض منهم، ولو أدى ذلك إلى التضحية بالنفس والنفيس من أجل عدم إعطاء الشرعية وعدم تمكين هذا الإرهاب السلطوي من أن ينمو ويكبر في جسد الأمة، وهو نمو سرطاني كبير إن امتد فإنه سيوصل الأمة إلى الموت والفناء.

 

             وكثيراً ما كان الحكام المتسلطين على رقاب الناس يمارسون أقسى الطرق في الأذى والتنكيل مع هذه الثلة الطيبة المباركة، في حين استمروا ودأبوا على تقريب الخونة الفاسدين الفاسقين ممن يسوغ لهم الحكم ويضع ما يحلو لهم من أخبار وأحاديث كاذبة تثبت أركان حكمهم وتقنع الجهلة من الأمة بأنهم حماة الدين ولا يصح إلا بهم، بل لا يكون هناك أي وجود من غير وجودهم.

              وانطلاقاً مما ذهبنا إليه آنفاً فقد اتخذ كل إمام معصوم الطريقة الملائمة والمناسبة لمرحلته لمخاطبة الأمة والسمو بها نحو المقاصد المباركة للدين الإسلامي الحنيف.

             فعلى سبيل المثال لا الحصر، أن الإمام السجاد (عليه السلام) وبعد فاجعة الطف، وقد جعلته السلطة الأموية تحت انظارها مسخرة عيونها ضده محصية أنفاسه خشية أن يقوم بنشاط سياسي أو اجتماعي يفسد عليهم سلطتهم ويفضح بدعهم، ففي هذه الظروف اتخذ (عليه السلام) الدعاء منهجاً لنشر الفكر الإسلامي الأصيل وقيمه وأحكامه وأخلاقه، ومراجعة بسيطة للصحيفة السجادية تظهر وبوضوح منهجية الإمام(عليه السلام) التي بثها من خلال تلك الأدعية.

           أما الإمامان الباقر والصادق (عليه السلام) فحينما وجدا فسحة بسيطة من حرية الحركة لنشر الإسلام الأصيل ومحاربة البدع التي ظهرت هنا وهناك في المجتمع الإسلامي، فقد تصديا إلى فتح أبواب الدرس والتعليم للدارسين ونشر الفكر المحمدي الأصيل المتمثل بفكر أهل البيت (عليهم السلام) ورد الشبهات والبدع،

           فقد كثر في عصرهما الدارسين والناقلين لحديثهما وفي مختلف العلوم والمعارف الدينية والدنيوية كعلوم القرآن وتفسيره والحديث الشريف واللغة والأدب والمنطق، وكذلك الكيمياء والرياضيات والفلك والطب والحساب والنجوم وغيرها من العلوم، وهذا الحسن الوشاء يحكي لنا ازدهار مدرسة الإمام ـ الصادق ـ في العراق في تلك الظروف، فيقول : (أدركت في هذا المسجد (يعني مسجد الكوفة) تسعمائة شيخ كل يقول : حدثني جعفر بن محمد، وكان هذا الشيخ عينًا من عيون هذه الطائفة)(1).

       سياسة الإمام الحسن (عليه السلام)

               وهكذا كان الإمام الحسن (عليه السلام) من قبل حين رأى أن الطاغية معاوية قد أمسك بزمام الحكم في الشام وأن لا مناص من مقارعته وحربه كما فعل أبوه أمير المؤمنين(عليه السلام) فهو أمر واجب لا يمكن السكوت عنه، وفعلاً جهز الجيش وسار نحو الشام ولكن ما حدث في الطريق أمر عجيب فقد بدأ أولاً الجيش بالتآكل شيئاً فشيئاً عبر التملص والهروب أما من بقي منهم فإن معظمهم كان غير مقتنع بل غير مؤمن بهذه المسيرة (الطويلة والشاقة)

            وفي الوقت الذي استطاع معاوية عن طريق جواسيسه وأذنابه الاتصال بمعظمهم مغرياً وواعداً لهم بالمال والمناصب فإن الإمام الحسن (عليه السلام) لم يغرهم بشيء ولم يعدهم بغير رضوان الله تعالى ومغفرته وإحقاق الحق وهذا الوعد (حسب الثلة الطامعة) ليس له وزن في ميزان المطامع الدنيوية.

             وهناك طفق الإمام الحسن (عليه السلام) كما طفق والده الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) (...وطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ، …فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وفِي الْعَيْنِ قَذًى وفِي الْحَلْقِ شَجًا)(2)،

              وعندما أعاد حساباته خرج بجملة نتائج نذكر منها ما يلي:

 

      إن المعركة عسكرياً أصبحت خاسرة لنقص الأعداد والإيمان المتزعزع بالذي بقي منهم.

    وقد يكون الأمر أسوأ إذا استطاع معاوية إغراء جزء من الحلقة الأولى من الصحابة المقربين بالإمام الحسن(عليه السلام) بخيانته في وقت مناسب وتسليمه بيد الطاغية معاوية.

 

     3ـ في حالة الاستمرار بالمسير فإن الخسارة في قتل الإمامين الحسن وأخيه الحسين(عليهما السلام) وإبادة من بقي من آل البيت (عليهم السلام) وطمس معالم المعركة من حيث الأهداف والنتائج.

      استمرار النهج المخرب للدين إلا ما شاء الله. 

 

     وبناء على ذلك قرر الإمام الحسن (عليه السلام) الاستفادة من هذه:

          استغلال الفرصة حيث طلب معاوية الهدنة أو الصلح وقبول هذا العرض ليتحقق ما يلي:

     1ـ الحفاظ على الامتداد النبوي الشريف وعدم إعطاء معاوية أي حجة أو ذريعة للقضاء المبرم عليهم.

 

     2ـ نزع الاعتراف الكامل بأحقيتهم في الخلافة والإمامة من خلال توقيع هذا الصلح.

     3ـ الموافقة والإقرار على تولي الإمام الحسن (عليه السلام) الخلافة بعد هلاك معاوية.

 

    فضح الطاغية أمام الأمة من أنه عديم الالتزام بالعهود، لأن الحسن (عليه السلام) عالمٌ بأن معاوية لا يفي بأي شيء قطعه على نفسه من خلال الخبرة بأهل البيت الأموي السفياني، وكذلك الدعم الإلهي له بذلك الموضوع وغيرها من الأسباب التي تطول وتحتاج إلى صفحات كثيرة للوصول إلى الأسباب الموضوعية والاجتماعية والدينية التي تكمن وراء ذلك الصلح،

           وبالفعل فقد تم للإمام الحسن(عليه السلام) ما أراد وما خطط، واستطاع أن يحول ما كان يحدث من إبادة جماعية بشرية فيما لو استمر بحربه ضد معاوية إلى التنازل المؤقت عن الحكم والسلطة وهو أمر لم يكن يهم أهل البيت(عليهم السلام) أكثر مما يهمهم تطبيق العدالة والحق من حكم دين النبي (صلى الله عليه وآله) والعمل برسالته العظيمة.

             وبمؤامرة خبيثة استطاع معاوية أن يتخلص من الإمام الحسن (عليه السلام) بدس السم إليه بيد زوجته بنت الأشعث .

            ومن ضمن شروط الهدنة أن الامر يرجع إلى الإمام الحسين(عليه السلام) في حال وفاة الإمام الحسن (عليه السلام) قبل معاوية.

           إلا ان معاوية بعد تخلصه من الإمام الحسن (عليه السلام) أخذ البيعة لولده الماجن يزيد. وهذا أول النكول وعدم الالتزام بالعهود والمواثيق.

     الإمام الحسين(عليه السلام) ونهضته:

 

             بعد هلاك الطاغية معاوية وتولية ابنه الفاسد الفاسق يزيد أسقط في يده ما قد بينّاه سابقاً من عدم التزام الطغمة الأموية بالعهود والمواثيق فانكشف هذا الزيف وبدت عوراتهم السيئة وكان يزيد فتى مولعاً بالفسق والفجور ومعلناً عنهما من غير استحياء أو خجل وهذا الشيء أصبح واضحاً للناس بشكل عام ولأهل الكوفة بشكل خاص حتى أنهم كتبوا عدة رسائل إلى الإمام الحسين(عليه السلام) بالخروج والجهاد، حتى جاءت ساعة الصفر فأعلن عن خروجه من المدينة إلى مكة ومنها إلى العراق، (من لحق بي منكم استشهد معي، ومن تخلف لم يبلغ الفتح)(3)،

             (لذلك فقد انتشر خبر رحيل الإمام من مكة المكرمة وتوجهه إلى العراق في غضون برهة وجيزة من الوقت، وأصبح حديث الساعة، فأينما اجتمع نفر من الناس كان حديثهم عن هذا التحرك المفاجئ وأسبابه، وقد عرف أهل مكة فيما بعد، أن الحسين(عليه السلام) ـ بتركه المدينة حال موت معاوية، ومن ثم ترك مكة أثناء الموسم ـ أنه (عليه السلام) لا يعترف بحكومة يزيد، وقد خشي على نفسه هنا: حفاظا على حرمة بيت الله لئلا تنتهك، وكذلك علمهم بتصميم يزيد على قتل الحسين في مكة، ولو كان معلقا بأستار الكعبة!!)(4).

             فخرج الإمام في (8 ذي الحجة) ولم يتمم حجه، لأنه لم يرغب في أن تستباح الكعبة بدمه لأن الشهادة قد حان وقتها كما صرح به (عليه السلام) بقوله: (وَالَّذي نَفْسُ حُسَيْن بِيَدِهِ لا يَنْتَهي بَني أُمَيَّةَ مُلْكُهُمْ حَتّى يَقْتُلُوني، وَهُمْ قاتِلي)(5)، وإن دمه الغالي لابد يجني الثمار ويعيد الأمة إلى مسارها الصحيح بعد أن تصحو من غفلتها الطويلة التي بدأت بعد وفاة النبي الكريم (صلى الله عليه وآله).

             وسار بأهله ونسائه القليلي العدد الكثيري الثقة بأن إمامهم لم يخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنما خرج لطلب الإصلاح(6)، الإصلاح وحده أن يأمر هؤلاء الناس بأن يعودوا إلى دينهم وفطرتهم وأن يتركوا هذا التوهان والغفلة وإن طال وقتها.

             فكان للحسين(عليه السلام) ما أراد وهز دمه ضمير الأمة وكان من بعد ذلك ما كان من صحوات أطاحت في النهاية بالحكم الأموي الفاسد وقبر إلى غير رجعة.

           وهكذا كان صلح الحسن(عليه السلام) تخطيطاً عظيما من أجل فضح الطغاة الأمويين وحفظ دم أهل البيت(عليهم السلام) من الضياع من غير أن يثمر أي شيء وهو دم عزيز لا يهدر سدا وأيضاً كان صلح الحسن (عليه السلام) هو الممهد للنهضة المباركة في كربلاء والتي جاءت على أسس قوية وعظيمة،

              استطاع صلح الإمام الحسن في أن يهيء كما يشد الأساس القوي المتين الذي قد لا يبدو له شكل لأنه تحت الأرض ولكن بعد أن يقوم البناء فوق تلك الأسس وهو بناء شاهق عالٍ وضخم ألا وهو النهضة الحسينية ندرك مدى قوة ذلك الأساس وعظمة بناءه.

 

 

نشرت في العدد 66


1) رجال النجاشي/ ص40.
2) نهج البلاغة / تحقيق صبحي الصالح: ص48.
3) كامل الزيارات: 75.
4) رجال تركوا بصمات على قسمات التاريخ/السيد لطيف القزويني/ ص122.
5) بحار الانوار/ المجلسي: ج 45، ص88.
6) وذلك قوله(عليه السلام) لأخيه محمد بن الحنفية: (إنّي لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا.. وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي.. أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.