Take a fresh look at your lifestyle.

الزهراء(عليها السلام) . . الصبر وسمو المقامات

0 1٬194

م. رشا حميد الساعدي
كربلاء المقدسة

 

   هناك حقيقة قرآنية مفادها تراتبية الاصطفاء الإلهي ودرجة الابتلاء والاختبار التي يُتحف الله سبحانه بها بعض عباده المُخلَصين لرفع درجاتهم وتكامل ذواتهم، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا، وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)(1)، هذه الثنائية التي يعقدها القرآن الكريم بين (الصبر على الظلامات ورفع المقامات) تتجلى أعظم ما يكون في شخص السيدة الزهراء(عليها السلام)، إذ كانت مصداقاً أكمل لها منذ إطلالتها النورانية على ميدان الحياة، وحتى انتقالها إلى بارئها مظلومةً شهيدةً، إنّ سيرورة الذات الفاطمية في ظلال ابتلاءات الحياة وظلاماتها اتجهت في مسارَيْن(2):
الأول: تكامُل ذاتها المباركة للنهوض بعبء الأدوار الرسالية التي أنيطت بها(عليها السلام).
الثاني: رفع مقاماتها وإعلاء درجاتها حتى مرتبة (سيدة النساء العالمين)(3).
إنّ رصداً سردياً لمحطات الصبر وسمو المقامات الفاطمية يوقفنا على مواكبتها(عليها السلام)
إياها منذ خروجها إلى مقام التجلي، ويمكن أن نتتبعها بإيجاز وفق الآتي(4):
ـ أشرقت سلام الله عليها على غياهب الحياة في العهد المكي حيث ضاقت الأرض على النبي(صلى الله عليه وآله) ولاقى أشد ما يكون من ألوان العذاب والبطش والتكذيب والتنكيل حتى قال: (ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت)(5). وصبرت على أذى أبيها.
ـ الاضطهاد النفسي إبّان حياة أبيها رسول الله(صلى الله عليه وآله) من قِبَل بعض أزواجه بالإساءة إلى والدتها خديجة(رضي الله عنها) وإضمار الحسد والضغينة لها(عليها السلام). وصبرت على أذى أمها.
ـ إيذاؤها(عليها السلام) بتعييرها ببعلها سيد الأوصياء أمير المؤمنين(عليه السلام) بفقره وفاقته وضيق ذات يده.
ـ ابتلاؤها(عليها السلام) بالفقر الشديد والجوع والعطش وعُسر الحال وصعوبة المعيشة. وصبرها على ذلك.
ـ الابتلاء بفراق الوالد والزوج بانشغالهما بأعباء الرسالة وحفظ الدعوة وكسر شوكة الشرك والنفاق. صبرها في ذلك وحملهما على الصبر.
ـ إخبارها ـ بظُلامة ابنَيْها الحسنَيْن(عليهما السلام) وبمقتلهما ـ أثناء وبُعيد ولادتهما.
ـ مَشاق أعباء البيت والنهوض بأعماله حتى مجُلت يداها من الطحن بالرحى، وتقشّر وجهها من الخبز بالتنور. وعزاء نفسها بالصبر.
ـ الأذى الجسدي البالغ لزوجها أمير المؤمنين(عليه السلام) في الحروب والمعارك النبوية حتى كان يأتيها مُثخناً بالجراح ومثقلاً بالآلام والمتاعب.
ـ تآمُر المنافقين على أبيها(صلى الله عليه وآله) وبعلها(عليه السلام).
ـ تمرّد بعض صحابة أبيها على أوامره(صلى الله عليه وآله)
وتبليغاته بتنصيب بعلها أمير المؤمنين(عليه السلام) خليفةً من بعده وإماماً للناس.
ـ تآمُر بعض زوجات أبيها(صلى الله عليه وآله) على أبيها وعليها وعلى بعلها.
ـ مصابها بمرض أبيها رسول الله(صلى الله عليه وآله).
ـ مصابها الأعظم وبلاؤها الأكبر بفقد رسول الله(صلى الله عليه وآله).
ـ مصابها بانقلاب صحابة أبيها(صلى الله عليه وآله) وتجاهلهم لدفنه وتجهيزه وانشغالهم بتقاسم مناصب الخلافة في مؤامرة السقيفة.
ـ ظلامتها بغصب خلافة بعلها أمير المؤمنين وإنكار حقه وجحد بيعته.
ـ ظلامتها بغصب نحلتها النبوية (فدك) قسراً.
ـ ظلامتها بتجاوز حرمتها وتهديدها وبعلها بأقصى إجراء عنفي وتعسفي ممكن وهو الإحراق.
ـ ظلامتها بمداهمة دارها وجمع الحطب حوله وإشعال النار فيه.
ـ ظلامتها باقتحام حرمة بيتها المقدّس من دون استئذان ولا استئناس، على حين كان أشرف الكائنات(صلى الله عليه وآله) لا يدخله حتى يستأذن.
ـ ظلامتها بإسقاط جنينها وقتل طفلها في أبشع ما يمكن من جريمة ضد الإنسانية.
ـ ظلامتها بالإيذاء الجسدي بكسر ضلعها(عليها السلام).
إنّ هذه السيرة المتتابعة من الظلامات والابتلاءات والمِحَن وما خفي علينا من مصائبها أعظم، إلى الحد الذي قالت فيه(6):
صُبّت عليّ مصائبٌ لو أنها
صُبّت على الأيام صرنَ لياليا
وكلها قد توافرت وتعاضدت ومن ورائها إرادة السماء لتكامل شخصيتها ورفع مراتبها ودرجاتها وإعدادها للنهوض بأعباء الرسالة مع أبيها(صلى الله عليه وآله) وبعلها.
إنّ آثاراً عظيمة ومعطيات جسيمة كبرى قد ترتبت على اصطفائها(عليها السلام) بهذه الابتلاءات، تجلت كأبين ما يكون في المقامات التي أطلقها رسول الله(صلى الله عليه وآله) عليها، ومن أبرزها(7):
ـ الحوراء الإنسية.
ـ أمّ أبيها.
ـ الراضية المرضية.
ـ المحدَّثة، أي التي كانت تحدثها الملائكة كما كانت تحدّث مريم(عليها السلام).
ـ والمحدِّثة كانت تحدث أمها وهي جنين.
ـ روحيَ التي بين جنبَي.
ـ بضعةٌ مني.
ـ يؤذيني ما يؤذيها.
ـ يغضبني ما يغضبها.
ـ سيدة النساء أجمعين من الأولين والآخرين.
ـ البتول.
ـ الزهراء.
ولعل أعظم مقام بينه النبي(صلى الله عليه وآله)
للزهراء(عليها السلام) قوله: (إن الله يغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها)(8)، حيث جعل رضا الله سبحانه تابعًا لرضاها. ورضاها علامة لرضا الرب ـ عز وجل ـ ويستتبعه على نحو العلة والمعلول والسبب والنتيجة.
إنّ هذه الشبكة الإلهية من الصبر والتصبر والمقامات الرفيعة والدرجات تكاملت في الذات الفاطمية فجعلت منها حُجةً على الخلق بل حجة على بنيها من سادة الخلق كما ورد عنهم(عليهم السلام): (نحن حجج الله على الخلائق، وأمّنا فاطمة حجة الله علينا)(9).
ويمكننا رصد أهم الأدوار الرسالية والأعباء التنموية التي نهضت بها مولاتنا الزهراء(عليها السلام) كما يأتي(10):
ـ دور البنت المثالية التي وصلت مع والدها الرسول(صلى الله عليه وآله) إلى مقام (أمّ أبيها)(11)
في ظاهرة متفردة على مستوى تاريخ النساء منذ حواء وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ـ دور الزوجة الأنموذج والمثال والمصداق الأكمل.
ـ دور الأم المثالية التي أخرجت للدنيا أعظم نجلَيْن عرفتهما البشرية الإمامَيْن الحسنين سيدَي شباب أهل الجنّة. والبنت التكاملية التي أهلتها لان تكون البطلة الرسالية ولتكمل نهضة أخيها أبي الشهداء، ولولاها لعُفيَ أثر هذه النهضة العملاقة ولفقدت قيمة خلودها.
ـ دور المربية الصالحة في إعداد أفراد بيتها حتى على مستوى فضة الخادمة التي اتفق المؤرخون على أنها لم تكن تتكلم إلا بالقرآن.
ـ دور المبلغة الرسالية المُثلى في حمل رسالة أبيها السماوية إلى بنات جنسها. وكذلك دور المعلمة الفقيهة.
ـ دور الثائرة على الظلم والانحراف والانقلاب والرِدّة التي نجمت بعد رحيل رسول الله(صلى الله عليه وآله).
ـ دورها(عليها السلام) في قيادة المعارضة السلمية في مجابهة النفاق والظلم والاضطهاد السلطوي.
ـ دورها(عليها السلام) في نصرة الإمام والمطالبة بحقه المسلوب وخلافته المغتصبة.
ـ دورها في الحفاظ على حياة الإمام وإيثارها وجوده على وجودها، حتى ذهبت شهيدة كأول فدائية في سبيل الإمامة الإلهية.
ـ دورها(عليها السلام) في تنشئة الجيل الصالح من النسوة المثليات والمؤمنات الرساليات.
وهكذا وكما نلاحظ فإنّها سلام الله عليها مثلت المصداق الأكمل لكافة أدوار المرأة وأخطر أدوار الرجل، من البنت إلى الأخت إلى الزوجة إلى الأم إلى المربية إلى المبلغة إلى الثائرة المجاهدة إلى أجلِّ مقامات العظمة ودرجات القرب الإلهي وذلك حين توّجها الله تعالى بتاج الشهادة وخصها بذلك دون نساء العالمين، إلا ما كان من أمر آسيا بنت مزاحم،
والزهراء(عليها السلام) سيدتها، بل سيدة مريم بنص الحديث النبوي(12).
فسلام الله عليها يومَ أشرقت بنورها الأزهر على دياجير الحياة، ويوم تحمّلت وصبرت ورابطت على مكاره الدهر وبلاءاته وظلاماته العظمى، ويوم اصطفاها ربها عز وجل بالشهادة وختم لها بالسعادة الأبدية، ولعن الله ظالميها وغاصبيها حقها وجاحدي مقاماتها والساكتين على ظلاماتها، ورزقنا تعالى شفاعتها وصحبتها ورؤية نور وجهها في الجنة.

نشرت في العدد 55


(1) سورة السجدة، 24.
(2) انظر: محمد بيومي، السيدة فاطمة
الزهراء(عليها السلام)، ط2، 1418هـ، طهران، ص110 .
(3) انظر: الكليني، الكافي، 1/459. احمد بن حنبل، مسند احمد، 6/282.
(4) للتوسعة ينظر: عبد المنعم حسن، بنور فاطمة اهتديت، دار المعروف، بيروت، 1998م، ص73، علي الميلاني، مظلومية الزهراء(عليها السلام)، مركز الأبحاث العقائدية، قم، 1421هـ، ص12.
(5) المجلسي، بحار الأنوار، 39/56.
(6) المجلسي، بحار الأنوار، 79/106.
(7) للتوسعة في مدلول هذه الأسماء المباركة ينظر: مستدرك سفينة البحار/علي النمازي الشاهرودي 5/173…اللمعة البيضاء/التبريزي الأنصاري ص95…شرح إحقاق الحق/السيد المرعشي 33/255…الأسرار الفاطمية، محمد فاضل المسعودي ص377، وغيرها.
(8) المجلسي، بحار الأنوار، 21/279.
(9) للتوسعة في دلالة هذا الحديث الشريف انظر: محمد فاضل المسعودي، الأسرار الفاطمية، ص17.
(10) انظر: مظلومية الزهراء(عليها السلام)/ علي الميلاني ص33… بنور فاطمة اهتديت/عبد المنعم حسن ص52.
(11) المجلسي، بحار الأنوار، 79/106.
(12) فقد سُئل النبي(صلى الله عليه وآله) أهي سيدة نساء عالمها؟ فقال النبي(صلى الله عليه وآله): (ذاك لمريم بنت عمران، فأما ابنتي فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين..) الأمالي/
الصدوق ص575.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.