قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد ذكر عنده مالك: (إنه المؤمن حقاًَ)(1)وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)لقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلى الله عليه وآله)(2). وفي كتاب الإمام علي (صلى الله عليه وآله)لأهل مصر: (إنه سيف من سيوف الله، لا كليل الظَبَّة ولا نابي الضريبة لا يُقْدِمُ ولا يُحجِمُ، ولا يؤخِّرُ ولا يُقدِّمُ إلّا عن أمري)(3).
إنه مالك الأشتر. وما أدراك ما مالك، الذي جعل الطاعة حظّ الأنفسِ ورضا الربّ، وكان على بينة من حق الإمام علي (عليه السلام)
إذ كان منهله الذي يرتوي منه ومناره الذي يستضاء به في ظلم الطغيان. وكانت نهايته ويا أسفاه في شربة من السم على يدي أعدائه وأعداء الإنسانية والقيم. فتحقق ما تمناه إذ قال يوماً: (ياربِّ اجعل وفاتي بأكفِّ الكفرة)(4).
وبدايةً ينبغي علينا أن نضع بصماتنا على أهم الأدوار في حياته الوضّاءة، ومدى امتزاجه بالأحداث المضطربة، ومدى تفاعل شعوره وعاطفته الشعرية والأدبية لما يدور حوله، وتجاربه التي خاضها في خضم لجج البحر المتلاطم من الفتن والمعارك لاسيما واقعة الجمل ومعركة صفين. وممارسة حياته البطولية في تلك الظروف. ولقد شعرت بحقه علينا أن ننشر أخباره وسيرته ولا نخفيها، ولذا ابتغيت توضيح المبهم فيها. بعد أن اطلعت على بعض المخبأ والمجهول من شعره، مضافاً إلى أنه كان من أشراف القوم الذين يملأون العيون أبهة والصدور هيبة، فقد كان كالليث في الشجاعة، والسيف في قراع الخطوب، والتغلب على الشدائد. (فقد جمع الأشتر بين مختلف الكمالات من شجاعة وسياسة، وشعر وخطابة، وحزم ولين، ودين وكرم، ورئاسة وتواضع، حتى بلغ الذروة فيما يؤمِّله الإنسان من الرّقيّ الحضاريّ)(5).
إذ كان على ميمنة الإمام علي (عليه السلام) في حرب الجمل وقتل الكثيرين من صناديد جندهم، وكذلك كان اللولب المستمر في إدارة حرب صفين إذ قاد جيشاً من الفرسان والمشاة تعداده أربعة آلاف مقاتل. وقد رفض أن يوقع على صحيفة التحكيم وقيل إنه وقع عليها مضطرًا كما اضطر النبي (صلى الله عليه وآله)في صلح الحديبية، فرضيَ هو لرضا علي (عليه السلام)
ولو تحت الضغط والجبر (6) . وأرسله الإمام علي(عليه السلام) إلى مصر بعد أن تخاذل الناس عنه، ولم ينهضوا معه بعد أن قُتِل واليها من قبله محمد بن أبي بكر. فاحتال معاوية في قتله إذ دسَّ له سمّاً بواسطة رجل من أهل الخراج يسمى الجايستار بعد أن وعده معاوية بعدم أخذ الخراج منه طيلة مدة حياته. فجعل الجايستار هذا السُّمَّ في عسلٍ وسقاه إياه فمات رحمه الله ورحم الله المتنبي إذ قال:
وما الموت إلّا سارقٌ دقَّ شخصُهُ
يصول بلا كف ويسعى بلا رِجْلِ
وهكذا اختطفته يد المنون في زحام الصراع والفتن.
فهلهل معاوية فرحاً وقال: (إنه كان لعلي بن أبي طالب يدان يمينان قطعت أحدهما بصفين يعني عمار بن ياسر ، وقطعت الأخرى اليوم يعني الأشتر)(7) ولله درُّ القائل وقد سئل عن الأشتر: ما أقول في رجلٍ هَزَمتْ حياتُهُ أهلَ الشام، وهزمَ موته أهل العراق.الأشتر شاعراً لا ندري لماذا لم يجمع للأشتر شعره في ديوان مستقل كما جمع لغيره من الشعراء رغم إجادته وإبداعه في الشعر. ومن براعة ومهارة وباع سامق في فن الخطابة. فهل أن ذلك يعود إلى انخراطه في سلك علي (عليه السلام)
وانضمامه تحت لوائه. أم إن الجانب العسكري والسياسي وطغيانهما مما أسدل الستار على شعره. وفي ساعة الجدّ يذكره قومه وكأنه بدر في ليلة ظلماء، سالكاً فيهم سبيل الرشاد، ومن أجل ذلك وقّروه وعظّموه. أو أن شعره ذهب في جملة ما ذهب من دخائرنا ونفائسنا ضحية الحروب والمحن وضحية التتار؟ وهذا من ظروف الدهر المهلكة.
فمن روائع أشعاره، وأبدع مفاخره والتي لم يسبق إليها أحد، أبياته الخالدة التي يحرض فيها على قتال معاوية حيث يقول:
بقيتُ وفري وانحرفتُ عن العلى
ولقيتُ أضيافي بوجهِ عبوسِ
إن لم أشنَّ على ابن هندٍ غارةً
لم تخلُ يوماً من نِهابِ نفوسِ
خيلاً كأمثال السّعالي شُزَّباً
تعدو ببيضٍ في الكريهةٍ شوسِ
حَميَ الحديدُ عليهم فكأنَّهُ
ومضاتُ برقٍ أو شعاع شموسِ(8)
فأعجب بشعره الأدباء قديماً وحديثاً لما فيه من براعة شبهِ بالأخبار وقسم في تعظيم الشأن، فقال بعضهم:
الخطيب التبريزي: وهذا من الأيْمان الشريفة ولفظ الخَبَر، وظاهرهُ الدّعاء ومحصوله القسم(9).
وقال أبو علي القالي: ومن أحسن ما سمعت في القسم قول الأشتر النّخعيّ: بقيت وفري …. إلخ(10) . والقسم أن يقسم الشاعر على ما يعزم عليه،وهنا كان الأشتر يقول : إذا ادخرت مال ولم أفرقه ،لأن الوفر هو المال الكثير وزهدت في اكتساب المعالي أو العلى وهي الشرف زهدًا وتلقيت الأضياف بوجه كالح إن لم أفعل كذا.
وقال السيد علي خان المدني: ومن الغايات في ذلك قول مالك الأشتر بقّيت وفريّ …إلخ فتضمن هذا الشعر الوعيد بالقسم بما فيه الفخر العظيم من الجود والكرم والشرف والسؤدد والبسالة والشجاعة(11). فلا غروة أن يقال فيه مثل هذه الأقوال، فهو الذي اجتبى علياً (عليه السلام)دلالة على قدرته في الاختيار، وإنشاده الوسيلة والعبرة وكان على بينة من أمره، وحليم في انتقائه سبيل الهدى والنجاة لذا قال فيه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: كان شديد البأس، جواداً، حليماً، فصيحاً شاعراً(12). وكانت تلك الأبيات من الكامل. وقد تنوع في الشعر وأبدع فيه، فله في الطويل قصائد جميلة. نختر أبيات من بعضها:
أعائش لولا إنَّني كنت طاوياً
ثلاثاً لألفيت ابن أختك هالكا
وقالتْ:على أيّ الخِصال صرعتهُ
بقتل أتى أم رِدَّةٍ لا أبا لكا
أم المحصن الزاني الذي حلَّ قَتْلُهُ
فَقلتُ لها: لابدَّ من بعضِ ذلكا(13)
وفي الطويل أيضاً:
وسار ابنُ حرب بالغواية يبتغي
قتال عليٍّ والجيوش مع الحفل
فسرنا إليهم جمهرة في بلادهم
فَصُلنا عليهِم بالسُّيوفِ وبالنَّبلِ
فأهلكهم ربي وفرَّق جَمْعَهُم
وكان لنا عَوْناً وذاقوا رَدى الخبلِ(14)
وله من (الرّجز) الكثير ومن بعضها:ـ
ويحك يابن العاصي
تنح في القواصي
واهرب إلى الصياصي(*)
اليوم في عراصِ
تأخذ بالنواصي
نحن ذوي الخماصِ
لانقرب المعاصي(15).
أو قوله في الرّجز:
هذا عليٌ في الدُّجى مصباح
نحنُ بذا في فضله فصاح(16)
وله من الخفيف قصائد رائعة منها:
كل شيءٍ سوى الإمام صغير
وهلاكُ الإمام خَطْبٌ كبيرُ
إنه والذي يحج له الناسُ
سراجٌ لدى الظَّلام منيرُ
من رضاهُ إمامُهُ دخل الجنةَ
عفواً وذنبُهُ مغفورُ(17)
وكذلك له من المتقارب قصائد مبدع فيها ومنها:
إنّا إذا ما احتسبنا الوغى
أدرنا الرَّحى بصنُوفِ الحُدُلْ
أبو حسنٍ صوْتُ خيشومها
بأسيافهِ كلُّ حامٍ بطل
على الحقِّ فينا له منهجُ
علي واضح القصد لا بالميل(18)
وبالإضافة لموهبته الشعرية فإنه يتمتع بقدرة عالية في الخطابة استطاع أن يخمد بذلاقة لسانه من الفتن العمياء ما أعيا السيف إطفاؤه(19).
وقال الذهبي فيه: كان سيد قومه وخطيبهم (20) ومن روائع خطبه:
الحمد لله الذي جعل فينا ابن عمَّ نبيه، أقدمهم هجرة وأولهم إسلاماً، سيف من سيوف الله صبّهُ على أعدائه، فانظروا إذا حَميَ الوطيسُ، وثار القتامُ، وتكسَّر المرّانُ، وحالت الخيل بالأبطالِ، فلا أسمعُ إلّا غمغمةً أو همهمةً فاتبعوني وكونوا في أثري(21).
وصفو ة الكلام أن مالك بن الحارث النخعي من حواري الإمام علي (عليه السلام) الخلص وأبطالهم. وقد وظّف كل إمكانياته وعشرته للولي الحق غير آبه بما انتاب الناس من الفتن والهزات، ولا يكتم ذلك الولاء المطلق بل كان داعياً لنصرته بالخطابة والشعر، وبالبطولة النادرة في ساحات الوغى دون وجل أو تردد، بل هو صاعقة الموت على الأعداء. وغالباً ما يكون النصر منه دانيًا، وسيفاً بتاراً على من نكث ومرق، ولا ريب في ذلك لأنه من أولي البأس الشديد، وأصحاب اللب الفريد. وهب كل عطائه إلى ملجئه العظيم إذ اعتاد خوض المنايا بكل جرأة وبسالة مبعداً عن خياله صورة الموت المخيفة. إلّا أنه قد يبلغ الرجل الجبان بماله. وهكذا بلغ معاوية من مالك الأشتر. فأصبح رضوان الله عليه كما قال البحتري:
صريعٌ تقاضاه الليالي حُشاشةً
يجود بها والموت حُمْرٌ أظافره(*)
نشرت في العدد 55
(1) أعيان الشيعة ج9، ص41 .
(2) رجال العلامة ص169.
(3) نهج البلاغة ج16، ص156 .
(4) صفين، ص429 والفتوح ج2، ص40، ومناقب ابن شهر آشوب ج3، ص170 .
(5) ديوان مالك الأشتر، قيس العطار، ص41 .
(6) نفس المصدر السابق.
(7) نفس المصدر السابق.
(8) أنوار الربيع ج3، ص210 وشرح ديوان الحماسة ج1، ص75ـ 77 .
(9) شرح ديوان الحماسة لأبي تمام ج1،ص76 .
(10) أمالي أبي علي القالي ج1، ص85 .
(11)أنوار الربيع في أنواع البديع ج2، ص211 .
(12)شرح النهج ح12، ص101ـ 102 .
(13) وفيات الأعيان ج7، ص196 وأعيان الشيعة ج9، ص42 .
(14) صفين، ص176 والفتوح2، ص49.
(*) الصياصي: الحصون
عراصِ: ساحة
ذوي الخماصِ: أي أصحاب البطون الخماص لأنهم صيام، ويمكن أن يريد بها الخيل
(15) الرجز في صفين ص170 والفتوح 2، ص10.
(16)الرجز في مناقب ابن شهر آشوب ج3، ص161.
(17)ـ الفتوح2، ص134.
(18)ـ الأبيات في صفين ص193ـ 194 والفتوح ج2، ص22ـ 23.
(19) أعيان الشيعة ج9، ص38.
(20)العبر في خير من غبر ج1، ص32.
(21) صفين، ص474.
(*) الصريع: المطروح على الأرض، وتقاضاه: هو من قولهم تقاضى الدائن دينه إذا قبضه، والحشاشة، بقية الروح في المريض أو الجريح، يصفه بأنه ملقى على الأرض يلفظ أنفاسه الأخيرة من حياته.