Take a fresh look at your lifestyle.

المشهد الحسيني في العهد البويهي

0 517

      مدينة كربلاء لها أهمية تاريخية وعلمية ودينية وسياحية ، وأرضها كانت مسرحًا لبطولات الدفاع عن القيم الإنسانية الفاضلة والمثالية، إذ يكفي أن نذكر وقعة كربلاء التي حدثت سنة 61هجرية/680م لكي تبرز معاني الصراع البطولي الذي جسده الموقف الخالد للإمام الحسين بن علي(عليهما السلام) وأصحابة الشهداء الأبرار حتى يتوقف التاريخ وجلًا أمام وقعة الحق والثبات في وجه الباطل والانحراف. يذكر المؤرخون لواقعة الطف أن تاريخ بناء الروضة الحسينية يبدأ منذ دفن الأجساد الطاهرة، فقد روى السيد محسن الأمين قائلًا: (إن أول من بنى القبر الشريف بنو أسد الذي دفنوا الجسم الطاهر للحسين بن علي(عليهما السلام) وأجسام أصحابه)(1)، هذه البناية الصغيرة الرمزية تدل على مكان القبر الشريف وتهدي الزائرين له. ثم وضعت علامات ترشد إليه. وفي حديث زائدة عن الإمام السجاد(عليه السلام): (أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض هم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة وهذه الجسوم المضرجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علمًا لقبر سيد الشهداء لا يدرس أثره ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام)(2).
ومما يزيد في بناء القبر في ذلك الوقت ورود التوابين في ربيع الأول عام 65هـ وزيارتهم للقبر واجتماعهم حوله .وكان عددهم يقارب الأربعة آلاف نسمة بقيادة سلمان بن صرد الخزاعي يطلبون بثارات الحسين(عليه السلام) رافعين شعارهم بقتل من قتل الحسين(عليه السلام) ولم يكن إذ ذاك ما يظلل القبر فكان ظاهرًا معروفًا(3)

وفي السنة نفسها شيد المختار بن أبي عبيدة الثقفي قبة من الآجر والجص وجعل لها بابين شرقية وغربية وخصص مسجدًا للزائرين وسقيفة تظلها شجرة السدرة. وفي كتاب (المزار)بسنده عن صفوان بن مهران الجمّال عن الإمام الصادق(عليه السلام)انه قال: (إذا أردت قبر الحسين في كربلاء فقف خارج القبة وارم بطرفك نحو القبر ثم ادخل الروضة وقم بحذائها من حيث يلي الرأس ثم اخرج من الباب الذي عند رجلي علي بن الحسين(عليهما السلام)
ثم توجه إلى الشهداء ثم امشِ حتى تأتي مشهد أبي الفضل العباس فقف على باب السقيفة وسلم(4).
أما في العصر العباسي فقد امتدت يد العدوان إلى القبر الشريف, وضيق الرشيد الخناق على زائري القبر وقطعت شجرة السدرة التي كانت عنده وكَرَبَ موضع القبر وهدم الأبنية التي كانت تحيط بتلك الأضرحة المقدسة(5). وفي فترة (236-247هـ)كان القبر الشريف عرضة لتخريب وتنكيل المتوكل العباسي, حيث أحاط القبر بثلة من الجند لئلا يصل الزائرون إليه وأمر بتهديم قبر الحسين(عليه السلام) وحرث أرضه وأسال الماء علية فحار الماء حول القبر الشريف وأقام في المسالح أناسًا يترصدون لمن يأتي لزيارة قبر الحسين(عليه السلام)
أو يهتدي إلى موضع قبره(6). وفي شوال سنة 247هـ قُتل المتوكل من قبل ابنه المنتصر فعطف هذا على آل أبي طالب وأحسن إليهم, ومنذ ذلك الحين أخذ عمران القبر يتقدم تدريجيًا، وانطلق العلويون يفدون إلى القبر والسكن بجواره وفي مقدمتهم السيد إبراهيم المجاب بن محمد العابد بن الإمام موسى بن
جعفر(عليهما السلام)(7).
ومن العهود المزدهرة التي مرت على كربلاء، العهد البويهي، حيث شهد المشهد الحسيني أصالة البناء الإسلامي وعمق تراثه وروعته, فإذا وقفتَ أمام هندستها المعمارية وزخرفتها فإنك أمام آية من آيات الفن والهندسة المعمارية, وقد وجدنا من الخدمات الجليلة التي قام بها ملوك آل بويه نحو البيت الطاهر ما يعجز عن الوصف.
حكم بغداد عضد الدولة البويهي في خلافة الطائع بن المطيع العباسي, وفي خلال حكمه خطا خطوات واسعة ، فهو قائد محنك ذو تجربة قديرة وحسن استعداد، اندفع لتشييد عمارة المشهد الحسيني يشد أزرها بالرأي السديد والتعاون المثمر والإخلاص الثابت، فمكّن لها الثبات وسط العواصف، ففي شهر جمادى الأولى عام 371هـ شيد قبة ذات أروقة وضريحًا من العاج وعمَّر حولها بيوتًا وأحاط المدينة بسور, وقد بلغ من تعظيمه للمرقدين أن أمر بعمارتها وجعل الأوقاف عليها، وقدم من التبجيل والتعظيم الشيء الكثير. فقد ازدهرت كربلاء في عهده وتقدمت معالمها الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية فاتسعت تجارتها واخضلت زراعتها وأينعت علومها وآدابها فدبت في جسمها روح الحياة والنشاط فتخرج منها علماء فطاحل وشعراء مجيدون، وتفوقت في مركزها الديني المرموق(8) . قال العلامة الشيخ محمد السماوي:
ثم تولى ابن بويه العضُد
فاخضرَّ عودٌ فيه كاد يخضد
بنى له القبة ذات الأروقه
محيطةٌ على ضريح محدقه
وزيَّن الضريح بالديباج
وما علا دائرة بسياج
وشعشع القبة والرواقا
وعمر البيوت والأسواقا
وعصم البلدة بالأسوار
فحامت المعصم بالسوار
وساقا للطف مياها جاريه
وامتاز للضوء وقوفًا جارية(9)
وجاء في كتاب (تحفة العالم) ما هذا نصه : (كانت زيارة عضد الدولة للمشهدين الشريفين الغروي والحائري في شهر جمادى الأول سنة 371هـ ورد مشهد الحائر لمولانا الحسين صلوات الله عليه وتصدَّق وأعطى الناس على اختلاف طبقاتهم وجعل في صندوق دراهم ففرقت على العلويين فأصاب كل واحد منهم اثنان وثلاثون درهمًا وكان عددهم ألفين وثلاثين اسم، ووهب العوام والمجاورين عشرة آلاف درهمًا، وفرَّق على أهل المشهد من الدقيق والتمر مائة ألف رطل، ومن الثياب خمسمائه قطعة، وأعطى الناظر عليه ألف درهم، وخرج وتوجه إلى الكوفة لخمسٍ بقين من جماد المؤخر ودخلها(10).
لم يكتف عضد الدولة بالبناء، وإنما اهتم بتزيين المشهد، وإذا تأملنا التصميم المعماري للروضة المطهرة وما أكثر ما فيها من درر الفن وآيات الجمال، يتبين لنا مقدار تشييده للأروقة حول القبر المطهر، حيث زين الضريح بالساج والديباج وغلفه بالخشب وجلب القناديل والثريات المضاءة بالشمع لتنير الروضة المقدسة، فقد ظهرت في زمنه طرز إسلامية رائعة ذات خصائص واضحة متميزة بضخامة جدرانها وبواباتها المزينة بالقاشاني الملون بألوانٍ زاهية بهرت أنظار العالم.
وفي أيام عضد الدولة قام عمران بن شاهين في الحائر الشريف ببناء المسجد والرواق المعروف باسمه رواق عمران بن شاهين(11). فقد جاء في (الكامل) لابن الأثير قوله: (كان عمران بن شاهين في بدء حياته صيادًا وقطاع طرق، أغار على البطيح فاستولى عليه في أواسط القرن الرابع الهجري. فلما استتب له الأمر بالبطيح أخذ يعيث فسادًا في البقاع المجاورة له حتى استولى ذعره على أكثر الساكنين المجاورين له، فشكى أمره إلى السلطان عضد الدولة بن بويه الديلمي، فسار على رأس جيش عرمرم للقضاء على حصون عمران بن شاهين ودك قلاعه، فلما وصل عضد الدولة الى البطيح كان عمران بن شاهين متحصنا في قلعته فلم يتمكن السلطان البويهي من تحطيم حصونه، فأمر جنده بفتح الماء على قلاعه وغرق البطيح، وشدَّد الحصار عليه، فترك عمران بن شاهين البطيح وولى هاربًا من وجه السلطان البويهي(12).
روى المجلسي في (البحار) والسيد ابن طاووس في (فرحة الغري): عندما فر عمران بن شاهين من وجه السلطان البويهي لاذ بقبر الإمام علي بن أبي
طالب(عليه السلام) فرأى في المنام علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقال له: (يا عمران سيقدم العبد فناخسرو لزيارة هذه البقعة فلذبه سيفرج عنك)، فلما استيقظ نذر ببناء أروقة في المشهد الغروي وآخر في مشهد الحائري لو تمَّ له ذلك، ولمّا قدم عضد الدولة لزيارة قبر علي بن أبي طالب(عليه السلام) رأى شخصًا ملاصقا بجوار الروضة فسأله عن حاجته فخاطبه عمران بن شاهين باسمه الحقيقي فندهش السلطان من معرفه هذا الشخص من اسمه أي (فناخسرو) فقص عليه عمران منامه فعفى عنه السلطان وأولاه إمارة البطيح ثانية، فقام من ساعته وبنى رواقًا في حرم الأمير بالمشهد الغروي، وآخر في الحائر الشريف وبنى بجنبه مسجدًا وهو أول من ربط حرم الحائر بالرواق المعروف باسمه رواق عمران بن شاهين(13)،

وذكر الفاضل المعاصر السيد محمد صادق آل بحر العلوم في كتابه (سلاسل الذهب )بقوله ..ولم يزل قسم من هذا المسجد موجودًا حتى اليوم ويستعمل كمخزن لمفروشات الحضرة الحسينية، ويقع خلف الإيوان المعروف اليوم بالإيوان الناصري(14)، غير أنَّ ما يلفت النظر هو أنَّ البويهيين إلى جانب اهتمامهم بالمشهد الحسيني وإصلاحاتهم العمرانية ومآثرهم الجليلة، فإن البعض منهم التجاؤا إلى تلك المشاهد المقدسة، فمنهم من اتخذوا أرض النجف الأشرف لهم مقرًا أبديًّا ومنهم من استجاروا بالحائر المقدس واختاروا مدافنهم الخالدة في شرقيّ الحرم الحسيني، حيث يقع الآن ما يسمى بالصحن الصغير لتميزه عن صحن الحسين(عليه السلام)(15) وهو الذي يقع على طريق الزوّار القاصدين إلى حرم العباس(عليه السلام).
يتضح مما تقدم أنَّ الأعمال الصالحة التي قام بها البويهيون تفتح أبواب المعرفة لمن جاء بعدهم، من أجل اللحاق بركب الحب الإلهي، حيث سيد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام) وأهل بيته الذين رفضوا الظلم والطغيان وأعلنوا من أرض كربلاء المقدسة ثورتهم الكبرى، فإن لكل امرئ ما نوى …

نشرت في العدد 55


(1) أعيان الشيعة _السيد محسن الأمين ج4ص302
(2) م.ن. ج1ص627.
(3) تاريخ الطبري _ابن جرير الطبري مجلد 4ص2
(4) مزار البحار _محمد باقر المجلسي ص 179
(5) نزهة أهل الحرمين في عمارة للمشهدين _للسيد حسن الصدر ض61
(6) تاريخ كربلاء المعلى _السيد عبد الحسين الكليدار آل طعمه ص13.
(7) نزهة أهل الحرمين ص36_37
(8) تاريخ كربلاء وحائر الحسين(عليه السلام) د.عبد الجواد الكليدار آل طعمه ص 171.
(9) مجالي اللطف بأرض الطف _الشيخ محمد السماوي الطبعة الثانية _تحقيق علاء عبد النبي الزبيدي ص291.
(10) تحفة العالم في شرح خطبة المعالم _السيد جعفر آل بحر العلوم ص273.
(11) تاريخ كربلاء وحائر الحسين(عليه السلام) ص173.
(12) الكامل في التاريخ _ابن الأثير ج 8ص176_177.
(13) بحار الأنوار _محمد باقر المجلسي ج10 طبع إيران.
(14) سلاسل الذهب _السيد محمد صادق آل بحر العلوم (مخطوط).
(15) تاريخ كربلاء وحائر الحسين(عليه السلام) ص174.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.