Take a fresh look at your lifestyle.

حقوق الإنسان في عهد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الأشتر

0 1٬040

د. أحمد علي الخفاجي
كلية الشيخ الطوسي الجامعة/ النجف الأشرف

 

إنَّ الله سبحانه وتعالى قد أكمل لنا الدين، وأتمَّ علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، فما تجاوز ذلك أو خالفه، أو انحرف عنه، فهو الظلم بعينه، لأنه خلاف ما شرع الله من الأحكام لعباده، الذي هو أعلم بها، وبما يصلح حالهم (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (سورة الملك/14)، ليس على المسلمين إلاّ أن يتمسكوا بدينهم، ويعملوا بأحكامه، وشرائعه، وآدابه، ويجعلوها حَكَماً بينهم، فسيجدون الأمن والعافية، والطمأنينة، والعدل، والسعادة، والرضا، والقوة، والتقدم، وستأتي إليهم الدنيا راغمة، وسيأتيهم رزقهم رغداً؛ لأن الله عز وجل خلق كل شيء من أجل الإنسان، وخلق الإنسان لعبادته، قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (سورة الذاريات/56).
إنَّ الذين يتفاخرون بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م، ويعدونه المثل الأعلى في الروابط الإنسانية، ويعتقدون أنه لم ينسج على منواله شيء من قبل، وينظرون إليه على أنه قمة الحضارة؛ إن أولئك يتجاهلون الإسلام، ومعاملته الكريمة للإنسان، وحفظه لحقوقه، وتنظيم شؤون حياته، على نحو يكفل له الحياة الكريمة، ويهديه سبيل الرشاد، ويجنبه مهاوي الرّدى والهلاك، كما أنهم يتجاهلون الدور البارز لأئمة أهل البيت(عليهم السلام) في إرساء دعائم حقوق الإنسان وحرياته في ضوء تعاليم القرآن الكريم، ومن خلال معطيات الدين الإسلامي الحنيف، من أجل ذلك ينبغي الكشف لأولئك الجهلة أو المتجاهلين، عن وجه الإسلام الناصع، والدور الكبير لأئمة أهل البيت(عليهم السلام) في هذا المجال، وبطبيعة الحال فلا وجه للمقارنة بين ما في الإسلام من ذلك، وبين إعلانهم الذي يتشدقون ويتفاخرون به.
وإنه مما لاشك فيه، أنَّ الإسلام كان له فضل السبق على كافة المواثيق والإعلانات، والاتفاقيات الدولية، في تناوله لحقوق الإنسان، وتأصيله، وتحديده لتلك الحقوق منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقيات والوثائق الدولية مما فيه مصلحة مُحقّقة للإنسان، وللمجتمع الإنساني ما هو في حقيقته إلا ترديد لبعض ما تضمنه الإسلام في هذا الخصوص، الذي تميّز عنها بكفالته لكافة حقوق الإنسان وحمايته لها؛ فجاءت تشريعاته في هذا الخصوص جامعةً مانعةً؛ فاقت بذلك كل ما عرفته، وتعرفه المدنية بكل هيئاتها ومنظماتها وفروعها.
وليس أدلُّ على ذلك من عهد سيد البلغاء والمتكلمين أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) إلى مالك الأشتر النخعي لما ولاّه على مصر، فقد جمعت هذه الوثيقة أمهات السياسة وأصول الإدارة في قواعد حوت من فصاحة الكلم وبلاغة الكلام وحسن الأسلوب ما لا يمكن وصفه، ولكن قد يُدهش المرء إذا ما علم أنه ليس لهذه الوثيقة تداولٌ على ألسن المتكلمين بالعربية، مع أنه كان من الواجب أن مثل هذه الوثيقة تحفظ في الصدور لا في السطور، ونجن نتناول في لمحة موجزة لأهم الحقوق الواردة في هذه الوثيقة العظيمة، وعلى النحو الآتي:
أولاً. الحق في أن يحكم الإنسان بشريعة الله:
وهو من الحقوق التي لا تقرها المواثيق الحديثة لحقوق الإنسان لأنها جميعاً تستبعد أحكام السماء وتجعل مرجعيتها في ما تراه نافعاً للبشر، وصالحاً لهم. وبما أن المنهج الإسلامي مختلف، والمرجعية الأساسية في الحكم هي لله تعالى ولأحكام الشريعة، فإن هذا الحق يعدّ أحد الحقوق الرئيسة للإنسان الذي يجب عدم التفريط فيه على الإطلاق، وهو يحقق الآتي:
أ- عدم تسلط الحاكم فرداً أو هيئةً أو جماعةً، يُضاف إلى ذلك أنه لا يسمح للسلطة التشريعية بإصدار تشريعات تحقق مصالح فئة على فئة أو تغلب إرادة جماعة على جماعة.
ب- وكنتيجة لذلك تقوم بضبط مقررات الحكّام والهيئات وإخضاعها للمعايير التي نزلت من السماء لحكم الأرض.
ج- ولكي يُجبر الحاكم على التراجع عن كل ما يخالف أحكام الله، فإن هيئة قضائية عليا كالمحكمة الاتحادية العليا في العراق – على سبيل المثال – يمكنها أن تلغي كل قانون أو نظام نافذ يثبت لها عدم دستوريته(1)، وبما أن دستور جمهورية العراق لسنة 2005 – كما هو الحال في بعض دساتير الدول الإسلامية- يعدّ الإسلام دين الدولة الرسمي، ومصدرًا أساس للتشريع، وبالتالي فإن لهذه المحكمة أن تلغي أي قانون يخالف أحكام الشريعة، بل إن هذا الدستور قرّر في المادة (2/أولاً/أ) منه على عدم جواز سن قانونٍ يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام. ولنرجع لوصايا الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) للأشتر النخعي بهذا الخصوص:
1- أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلاّ باتباعها ولا يشقى إلاّ مع جحودها وإضاعتها.
2- وأمره بأن يرد إلى الله ورسوله ما يضلعه من الخطوب، مما يشتبه عليه من الأمور اتباعاً لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(سورة النساء/59)، فالآية تدل على وجوب الرد في نفس الأحكام الدينية التي ليس لأحد أن يحكم فيها بإنفاذ أو نسخ إلاّ الله ورسوله، والآية، كالصريح في أنه ليس لأحد أن يتصرف في حكم ديني شرّعه الله ورسوله وأولو الأمر ومن دونهم في ذلك سواء(2).
3- وبالنسبة لضمانة تطبيق العدل والحكم بما أنزل الله أمره باختيار (أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ – مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِه الأُمُورُ ولَا تُمَحِّكُه الْخُصُومُ – ولَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ – ولَا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَه).
ثانياً. حق الإنسان في أن يُحكم بالعدل:
تعدّ العدالة إحدى القيم الرئيسة التي يجب أن تحققها للناس أي حكومة ناجحة، ولا يمكن أن يكون هناك حكم ناجح إلاّ إذا كان عادلاً ، والعدل – كما قيل –أساس الملك، وتشيع في عهد الإمام علي(عليه السلام)
أفكار العدالة وضرورة تحقيقها في أكثر من موضع، لذا يمكن القول إن حق الإنسان في أن يُحكم بعدالة أو حق الإنسان في العدل يعدّ أحد أهم الحقوق التي وردت في هذه الوثيقة.
ونجد أمير المؤمنين(عليه السلام) ينبه الأشتر في بداية الوثيقة إلى أنه سيحكم مصر، وهي بلد كبير سبق أن حكمها قبله حضارات وأمم سابقة يجب التنبه إلى كيف ساسوا هذه البلاد ليتعظ بتجربتهم ويحكم بخبرتهم وبالذات في مسائل العدل والإنصاف، وتقول الوثيقة: (اعْلَمْ يَا مَالِكُ – أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ – مِنْ عَدْلٍ وجَوْرٍ – وأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ – فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيه مِنْ أُمُورِ الْوُلَاةِ قَبْلَكَ – ويَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ – وإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ – بِمَا يُجْرِي اللَّه لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِه – فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ – فَامْلِكْ هَوَاكَ وشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ – فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ…) وهنا يأمر الإمام(عليه السلام) الأشتر أن يشح بنفسه، وهذا الكلام لعله قرينة على ان المراد هو العمل الصالح لأن الشريعة الالهية غنية بالقوانين الالهية . وفسّر له الشحّ ما هو؟ فقال(عليه السلام): أن تنتصف منها فيما أحبّت وكرهت، أي لا تمكنها من الاسترسال في الشهوات، وكُنْ أميراً عليها، ومسيطراً وقامعاً لها من التهوّر والانهماك(3).
ومن أسس العدالة، المساواة بين الناس، والإحسان إلى المحسن، والإساءة إلى المسيء وأخذه بذنبه لذا ينبّه سيد البلغاء والمتكلمين(عليه السلام) الأشتر إلى أنه (ولَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ والْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ – فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيدًا لأَهْلِ الإِحْسَانِ فِي الإِحْسَانِ – وتَدْرِيبًا لأَهْلِ الإِسَاءَةِ عَلَى الإِسَاءَةِ – وأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَه)، ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح هذه الفقرة وإذا لم يكن للمحسن ما يَرفعه، وللمسيء ما يضعه، زَهِد المحسن في الإحسان، واستمرّ المسيء على الطغيان(4).
ثالثاً. حق الإنسان في اختيار عناصر صالحة لحكمه:
يضع الإمام سيد البلغاء والمتكلمين(عليه السلام)
خبرته في الناس لوليه على بلد هام كمصر، ويعطيه خصائص من يتولى مشورته فيستبعد هؤلاء من المشورة: (ولَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ – ويَعِدُكَ الْفَقْرَ – ولَا جَبَانًا يُضْعِفُكَ عَنِ الأُمُورِ – ولَا حَرِيصًا يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَه بِالْجَوْرِ – فَإِنَّ الْبُخْلَ والْجُبْنَ والْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى – يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ).
وممن يجب استبعادهم كذلك (إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيرًا – ومَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثَامِ فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً – فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأَثَمَةِ وإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ – وأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ – مِمَّنْ لَه مِثْلُ آرَائِهِمْ ونَفَاذِهِمْ – ولَيْسَ عَلَيْه مِثْلُ آصَارِهِمْ وأَوْزَارِهِمْ وآثَامِهِمْ – مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِه ولَا آثِماً عَلَى إِثْمِه – أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَئُونَةً وأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً – وأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً وأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً -).
أما الصفات التي يجب أن يتحلى بها خاصةً الإمام وأهل مشورته فهي:
1- الذي يقول لك الحق ولو كان مراً، (ليَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ).
2- من لا يساعدك على ما تهوى مما يكره الله، (وأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِه اللَّه لأَوْلِيَائِه – وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ).
3- أن يكون من أهل الورع والصدق، (والْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ والصِّدْقِ).
رابعاً. الحق في الحياة:
شدّدت الوثيقة على احترام الحق في الحياة، وحذّر الوالي من أن يعتدي على هذا الحق، أو يتهاون في معاقبة من يسلبه من أحد من الناس يقول: (إِيَّاكَ والدِّمَاءَ وسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا – فَإِنَّه لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ ولَا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ – ولَا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وانْقِطَاعِ مُدَّةٍ – مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا – واللَّه سُبْحَانَه مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ – فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ – فَلَا تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ).
ويعدّ هذا الحق هبة من الله تعالى إلى الإنسان، وقد أجمعت عليه الشرائع والأديان، وهو مأخوذ من الحديث النبوي الشريف (كلُّ المُسْلِم على المسلِم حَرام دَمُه ومالُه وعِرْضُه) وهو ما جاء في خطبة الوداع (إنَّ دمائكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) وينبني على هذا الحق مجموعة من الأحكام الشرعية المهمة، منها تحريم قتل الإنسان، لقوله تعالى: (... وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(سورة الأنعام/151)، وأن هذا الحق يتساوى فيه الناس جميعاً بمجرد الحياة لا فرق بين شريف ووضيع وبين عالم وجاهل وبين عاقل ومجنون وبين بالغ وصبي وبين ذكر أو أنثى وبين مسلم وذمي.
خامساً. الحق في الخصوصية:
نصت المواثيق الحديثة لحقوق الإنسان على حق الإنسان في الخصوصية من ذلك ما ورد في المادة (17) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 إذ نصت على أنه ‹‹لايجوز تعريض أي شخص على نحو تعسفي أو غير قانوني للتدخل في خصوصياته أو شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته ولا لأي حملات غير قانونية تمس شرفه أو سمعته››. أما عبارة سيد الوصيين(عليه السلام) فقد وردت على النحو الآتي:
(لْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ – أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ – فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوبًا الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا – فَلَا تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا – فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ – واللَّه يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ – فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ – يَسْتُرِ اللَّه مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَه مِنْ رَعِيَّتِكَ -).
سادساً. حق العامل في أجر يكفيه:
وهو من حقوق الإنسان الآن، ويرتبط تماماً بالحق في العمل، والحق في أجر يكفي الحاجة، وخطاب الإمام علي(عليه السلام) ينبه إلى أهمية هذا الحق، وإلى ضرورة أن يعطي للوالي لمن يقومون على أمر الناس حقهم من بيت المال، تقول الوثيقة: (واعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ – لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ – ولَا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ – فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّه ومِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ والْخَاصَّةِ – ومِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ ومِنْهَا عُمَّالُ الإِنْصَافِ والرِّفْقِ – ومِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ والْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ومُسْلِمَةِ النَّاسِ – ومِنْهَا التُّجَّارُ وأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ – ومِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ والْمَسْكَنَةِ – وكُلٌّ قَدْ سَمَّى اللَّه لَه سَهْمَه – ووَضَعَ عَلَى حَدِّه فَرِيضَةً فِي كِتَابِه أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّه(صلى الله عليه وآله) عَهْداً – مِنْه عِنْدَنَا مَحْفُوظاً -).
ومهما يكن من أمر فهنالك العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي تؤكد هذا الحق، ومنها قول رسول الله(صلى الله عليه وآله): (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه).
سابعاً. الحق في الضمان الاجتماعي:
كذلك تولي هذه الوثيقة الطبقة الضعيفة عناية خاصة ويوجب أن يعطوا ما يكفيهم من بيت المال، إذ لكل فئة حقوق فيه وهذه عبارة الوثيقة: ‹‹ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ والْمَسْكَنَةِ – الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ ومَعُونَتُهُمْ – وفِي اللَّه لِكُلٍّ سَعَةٌ – ولِكُلٍّ عَلَى الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُه – ولَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي – مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَه اللَّه مِنْ ذَلِكَ – إِلَّا بِالِاهْتِمَامِ والِاسْتِعَانَةِ بِاللَّه – وتَوْطِينِ نَفْسِه عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ – والصَّبْرِ عَلَيْه فِيمَا خَفَّ عَلَيْه أَوْ ثَقُلَ››. فهذا هو الحق في الضمان الاجتماعي يجب على الوالي أن يعطيه للفقراء والمحتاجين، فهو إذن ليس حقاً مستحدثاً وإنما له أصل في الإسلام منذ وقت طويل. ومن الجدير بالذكر أنَّ هذا الحق عُرِف في الفكر الإسلامي المعاصر تحت عنوان (العدالة الاجتماعية في الإسلام) أو (التكافل الاجتماعي في الإسلام)، ويُذكر أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أعلن حق التكافل الاجتماعي فقال: (ما آمن بيّ من بات شبعاناً وجاره جائع).
وهكذا حاولنا أن نستخلص ما ورد في الوثيقة من الحقوق ولكن الوثيقة في الواقع من أبلغ الوثائق معنى ولفظاً ويجب أن تدرس هي وغيرها ويركز على ما فيها من قواعد ومبادئ أخرى، لا تتصل بالضرورة بحقوق الإنسان وحرياته، وإنما تتصل بدستور العلاقة بين الحاكم والمحكوم بشكل عام، وهي تتناول فنوناً واضحة للتعامل تنبع من تعاليم الإسلام وأسسه ويدخل غالبها في باب السياسة الشرعية.
ونود التركيز على أن أهم ضمان للحقوق هو تقوى الله سبحانه وتعالى والإحساس بأنه يراقبنا في السر والعلن، وتقوية المحكومين بالثقة فيهم والبِّر بهم وتعويدهم على مجاهرة الحاكم بالخطأ، وأهم من كل ذلك الحكم فيهم بشريعة الله سبحانه وتعالى.
إننا نحتاج إلى الكشف عن كنوزنا واستخدام بضاعتنا بدلاً من الجري وراء غيرنا، واستخدام معايير لحياتنا تختلف عن الأصالة التي نجدها في تاريخنا وتراثنا.

نشرت في العدد 55


(1) تنص المادة (93) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 على (تختص المحكمة الاتحادية العليا بما يأتي: أولاً- الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة).
(2) العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج4، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1427هـ، ص341.
(3) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج17، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط2، 1425هـ، ص23.
(4) ابن أبي الحديد المعتزلي، مصدر سابق، ص33.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.