Take a fresh look at your lifestyle.

التوجيه الدلالي لآية وجوب الحج

0 587

   قال الله تعالى:
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران:96-97).
تؤسس الآية لوجوب الحج إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة على الناس كافة، ولتبيين أهمية هذا البيت المبارك الذي ذكره تعالى في ستة مواضع بالتصريح أو بالضمير العائد على البيت منها (أول بيت، للذي، فيه، دخله، البيت، إليه)، تحدياً لليهود الذين أنكروا أفضليته، فقدموا بيت المقدس عليه، عندما (تناحر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة، لأنها مهاجر الأنبياء، وهي الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فنزلت(1)، لتؤكد أن مهوى قلوب الناس عند الله هو البيت الحرام الذي أقام قواعده نبي الله إبراهيم إذ قال تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:127)، فبارك به وجعله مقصداً لأداء مناسك الحج وشعائره إيماناً واحتساباً للناس كافة، فلم يخصصه للمسلمين دون غيرهم، ولذا قال (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ)، فالناس لفظ عام يشمل المسلمين وغيرهم من الديانات الأخرى، ثم خصّصه بذلك البيت الذي بارك به وجعله هدى للعالمين، وزاد في تخصيصه إذ جعل من علاماته مقام إبراهيم(عليه السلام). ومن ثم شرّفه فكان من يدخله آمناً وإن كان قد جنى جناية حتى يخرج منه.
هذه الصفات للبيت الحرام قدّمها تعالى قبل الدخول لمراد الآية وهو إيجاب الحج على الناس كافة، فعظّم البيت المعمور في نفوسهم وليجعله مثابة لهم، ورمزاً يهتدون إليه، من دون البيوت ثم أمرهم بالحج إليه، ليكون تقبّل هذا الأمر سهلاً، ولأن الحج (تكليفٌ شاق جامع بين كسر النفس وإتعاب البدن وصرف المال والتجرّد من الشهوات والإقبال على
الله)(2)، وهذه أمور تصعب على كثير من الناس وخصوصاً أن قيم الجاهلية ما زالت تعبثُ في نفوسهم، فقدَّم كل ذلك لأجل الولوج بسهولة ويسر لتقبّل إيقاع أمر وجوب الحج، ولو لمرة واحدة، فعن المقداد السيوري (ت سنة 826هـ): إنه يجب الحج في العمر مرة واحدة لأنّ الإطلاق في قوله سبحانه (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)، يُحمل على أقلّ مراتبه لأصالة البراءة، ولأنَّ الأمر لا يقتضي التكرار(3)، وقد روي عن ابن عباس قال: (لما خطبنا رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالحج قام إليه الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام؟ فقال(صلى الله عليه وآله): لا، ولو قلت نعم لوجب عليكم لم تعملوا به، الحجُ في العُمر مرةً واحدةً فمن زاد فتطوّع)(4).
وقوله سبحانه (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)، قد نَسَبَ تعالى الحج لنفسه عندما قال: (وَلِله) ثم قدّمه في صدر الكلام لتأكيد أهميته، وحصره به من دون غيره ولو قال: (على الناس لله حجُّ البيت) لاختلفت الدلالة، إذ تنحرف الأهمية إلى كون الحج على الناس فقط، وتقل أهميته كونه لله تعالى، ولأوحى لنا أن الله تعالى محتاج له، بل هو الغني، في حين أنَّ المراد من الحج مصالح الناس فقرنها بنسبة الحج له على الناس، لتكون المصالح غاية في الخير.
وممّا يزيد من دلالة الوجوب كون الآية جاءت بصيغة الأمر لا بالصيغة الخبرية، فالأمر فيه دلالة تأكيد الوجوب، مع عدم وجود قرينة مانعة لحصول الأمر، وقد تأتّى هذا الأمر بالوجوب من خلال تقديم ما حقه التأخير (لله، على الناس) اللذين يحتملان كونهما خبرين للمؤخر (حِجُّ البيت)، فهذا التخصيص مما يزيد من إمكان الوجوب ودفع أي قرينة مانعة من إرادته.
ففي حالة كون الجار والمجرور (لله) خبر لـ (حج البيت) تنحصر الدلالة بكون الحج لله دون غيره، وتقع (على الناس) في موقع الفضلة الدالة على الحال أو المفعول(5)، ففي كونه حالاً على تقدير أنهم مكلفون بالحج الذي جُعل لله تعالى وشاملاً به كل الناس في هذا التشريع، أما كونه مفعولاً، فقد خصص الحج بالناس الذين آمنوا به فريضةً لله تعالى وهم المسلمون، لا على وجه الإطلاق كما في الحال، لأن من شأن المفعول به أن يخصص فعل الفاعل بمن يقوم به دون غيرهم ممّن أنكره أو جحده.
أما من ذهب إلى أنَّ الجار والمجرور (على الناس) تقع خبراً لقوله (حِجُّ الْبَيْتِ) فيكون تخصيص الحج على الناس دون أهمية كونه (لله) تعالى، فيفقد النص رونقه، ويُشعر أن الله تعبّد الناس بالعبادة لحاجته إليها، في حين أن تعبّدهم بها لما عُلِمَ فيها من مصالحهم(6).
وعليه فإن كون (لله) خبراً أسلم من (على الناس)، لبقاء التشديد في وجوب الحج، واتساع الخطاب لعموم الناس من المسلمين وغيرهم، لأنه حق له تعالى على المستطيع منهم.
وقد يتوهم بعضهم أن ما ذُكِرَ إنما كان ذلك لحاجته تعالى إليه، فأزال الله تعالى ذلك الوهم بذكر الاستغناء(7) فأنزل قوله سبحانه (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).
أما قوله تعالى (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) فهو تقييد لمطلق الناس في صدر الآية، بالمستطيع دون غيره، أي اشتراط الحج بالاستطاعة، على تقدير أن (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) شرطاً لوجوب الحج عليه، واختلف العلماء في الاستطاعة، فمنهم من جعلها الزاد والراحلة، وقيل: ما يمكنه معه بلوغ مكة بأي وجه كان(8)، أو هو على قدر الطاقة فقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر، وقد يقدر عليه من لا زاد له ولا راحلة(9).
أما المروي عن أئمتنا(عليهم السلام) فهو (وجود الزاد والراحلة ونفقة من تلزمه نفقته والرجوع إلى كفاية عند العود إما من مال أو ضياع أو عقار أو صناعة أو حرفة مع الصحة والسلامة وزوال الموانع وإمكان السير )(10)، وهو الأقرب إلى دلالة الاستطاعة ولاسيما أنها وردت على سبيل الإطلاق لا التقييد، لأن الاستطاعة في اللغة من الفعل طَوَعَ، و(الطوع نقيض الكَرْهِ… قال ابن سيدة: وطاعَ يَطاعُ وأطاعَ لانَ وانقاد… وقال الجوهري: والاستطاعة الطاقة.. والاستطاعة القدرة على الشيء)(11)، فالاستطاعة طلبُ الشيء بسهولة ولين، وانقياده بيسر، على وسع الطاقة مع القدرة عليه والتمكّن منه، وهذا المعنى اللغوي أوسع ممّا يحدّده بعضهم بالزاد والراحلة، أو بالقدرة مع توفّر الزاد والراحلة أو مع عدمهما، وإنما يكون بهذه الأشياء وزيادة، لأنّ الاستطاعة مبنية على اتساع القدرة في طلب الأشياء لا اقتصارها، وهذا المفهوم للاستطاعة يتناسب تماماً مع ما قدّم في صدر الآية في أن الحج لله تعالى قد جعله حقاً له على الناس كافة، وحقّ الله سبحانه على عباده دائماً ما يقترن بتوفر مستلزمات تنفيذه كي يحقق وجوب وقوعه.
أما الضمير في (إِلَيْهِ)، فمن العلماء من أعاده إلى البيت، ومنهم من جعله عائداً إلى الحج(12)، وهو الأقرب إلى الدلالة، وذلك أنَّ الوصول إلى البيت الحرام لا يحتاج أكثر من الزاد والراحلة، في حين أن مناسك الحج لا تقتصر على البيت الحرام، بل هناك مناسك تتمثل في الوقوف على عرفة والإفاضة والمزدلفة ومنى ورمي الجمرات، فضلاً عن السعي بين الصفا والمروة وغيرها مما تحتاج إلى عناء وتعب وجهد للقيام بها وأدائها، ثم إنّ محور القضية الرئيسة في مجمل الآية هو الحج ووجوبه، فقدّم له بذكر أهمية البيت وتعظيمه، لأجل الدخول إلى القضية الأهم ألا وهو الحج.
فضلاً عن ذلك أنَّ ورود لفظة (البيت) في قوله تعالى (حِجُّ الْبَيْتِ) جاء لتعريف الحج وتخصيصه بأنَّهُ لبيت الله الحرام لا لغيره، ولم يكن للبيت وظيفة أخرى غيرها في هذا المقطع من الآية، لذا فإن عود الضمير إلى الحج هو الأولى من عوده إلى البيت الحرام.
ولو أُعيد الضمير في (إليه) إلى البيت لاقتصرت الاستطاعة على الزاد والراحلة، وفي هذا تضييق في الدلالة، والله سبحانه لا يريد أن يضيّق على عباده في أداء الواجبات، وخاصة الحج لما فيه من جهد ومشقة، حتى قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (حجّوا قبل أن لا تحجوا) إيحاءً منه(صلى الله عليه وآله) إلى الإسراع لأداء فريضة الحج في حال الحاج في أفضل صحة وأتم عافية.
أما قوله سبحانه (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) فقد عدّوا (ومن كفر) بمعنى ومن ترك الحج(13)، ومنهم من ذهب إلى أنه يمكن أن يكون المعنى من كفر بسبب إنكار الحج لا وجوبه(14)، ونقل الشيخ الطوسي (ت460هـ) والطبرسي (ت548هـ) وابن كثير (ت747هـ) عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك إلى أن معناه، من جحد فرض الحج فلم يره واجباً(15)، وهو رأي الشريف الرضي (ت406هـ)(16) أيضاً.
ولما كان السياق العام لما قبلها دالاً على الوجوب بدلالة الأمر (على الناس) وأنه لله تعالى فإنّ الكفر هنا يتجه إلى معنى نقض الوجوب وإنكاره، لذا فإنّ (من كفر) جاءت بمعنى من أنكر فريضة الحج ولم يعدّها من الواجبات عليه، أو أن هذا المُنكِر إنما أنكرها لأنه يظنّ إنمّا أمره الله تعالى بها لحاجته إليها، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ولذا كان الرد على الافتراء عنيفاً عندما قال (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)، فكانت دلالة الكفر أبعد من معناها اللغوي الذي تضمّن معنى جحود النعمة، وسترها(17)، أو الإنكار مع العلم(18)، أي على الاتساع لا التضييق فيها. والله أعلم.
وعليه فإن هذه الآية المباركة قد أسست لدلالة وجوب الحج على المستطيع حصراً وشرعته لكونه لله تعالى، فأمر بأداء مناسكه، ومن لم يؤمن بذلك، فالله غنيّ عن العالمين.

نشرت في العدد 53


(1) البحر المحيط / أبو حيان: 3/10.
(2) كنز العرفان / السيوري: 241.
(3) ظ: م، ن: 248.
(4) م، ن: 248، ظ: تفسير القرآن العظيم/ابن كثير: 1/385.
(5) ظ: البحر المحيط / أبو حيان: 3/17، إملاء ما منَّ به الرحمن / العكبري: 1/144.
(6) ظ: مجمع البيان / الطبرسي: م1/478-479، حقائق التأويل/ الشريف الرضي: 196.
(7) ظ: كنز العرفان / السيوري: 245.
(8) ظ: تفسير القرآن العظيم / ابن كثير: 1/386، غريب القرآن / الشهيد زيد بن علي: 162، أنوار التنزيل / البيضاوي: 1/172.
(9) ظ: الكشاف / الزمخشري: 1/419.
(10) التبيان/الطوسي: 2/537، ظ: مجمع البيان/الطبرسي: م1/478، حقائق التأويل/ الشريف الرضي: 196.
(11) ظ: لسان العرب / ابن منظور: 8/219-220-طوع.
(12) ظ: الكشاف / الزمخشري: 1/418، أنوار التنزيل / البيضاوي: 1/172، مشكل إعراب القرآن/مكي بن أبي طالب: 98.
(13) ظ: الكشاف /الزمخشري: 1/418، أضواء البيان / الشنقيطي: 1/227، أنوار التنزيل / البيضاوي: 1/172، مسالك الإفهام / الكاظمي: 329.
(14) ظ: قلائد الدرر / أحمد الجزائري: 2/131.
(15) ظ: التبيان / الطوسي: 2/538، مجمع البيان/ الطبرسي: م1/479، تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير: 1/386.
(16) حقائق التأويل / الشريف المرتضى: 196.
(17) ظ: لسان العرب / ابن منظور: 12/118 – كفر.
(18) ظ: م. ن: 2/182 – جحد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.