لا ينطق النبي(صلى الله عليه وآله) حينما ينطق عن تعصب وهوى ـ حاشاه ـ بل هو وحي يوحى، ونحن في هذا الموضوع نتطرق إلى حديث المنزلة ودلالته وأوجه التشابه بين أمير المؤمنين وهارون عليهما السلام.
روي عن النبي(صلى الله عليه وآله): أنه قال لعلي(عليه السلام): (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي).
ذكر هذا اللفظ مسلم في صحيحه ج7 ص120 وغيره، وجاء في صحيح البخاري بلفظ مشابه, وذُكر للحديث تكملة جاءت بطريق صحيح صححها الحاكم في مستدركه ج3 ص133والذهبي في تلخيصه فقال (صلى الله عليه وآله): (أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنَّك لست بنبيّ، وأنت خليفتي في كل مؤمن بعدي).
وفي رواية: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنَّك لست نبيًا، إنه لا ينبغي أن أذهب إلّا وأنت خليفتي في كل مؤمن من بعدي) (أخرجه ابن عاصم في السُنَّة ح/1188).
ورجال الرواية رجال الشيخين غير أبي بلج وهو ثقة ذكره ابن حبان مع الثقاة وفيها تصريح واضح وتركيز على الخلافة بعده. فالحديث من حيث السند لا مرية فيه.
ولكن ما هي دلالة الحديث وما هي المشابهة؟
دلالة الحديث
يدل الحديث الشريف على أمور هامة، من أبرزها الخلافة وتفضيله على الغير، وذلك بالرجوع إلى منزلة هارون من موسى(عليه السلام) في القرآن الكريم فالحديث الشريف أثبت منزلة الإمام من النبي(صلى الله عليه وآله) كمنزلة هارون من موسى عليهما السلام بشكلٍ مطلق، واستثنى النبوة فقط والاستثناء معيار العموم، وسنتطرق إلى منزلة هارون من موسى(عليه السلام) لنثبت ذلك لأمير المؤمنين(عليه السلام) من النبي(صلى الله عليه وآله) ثم نذكر التشابه بينهما وحرص النبي(صلى الله عليه وآله) على بيان ذلك.
منزلة هارون من موسى:
ذكر الله سبحانه ثنائية موسى وهارون في آيات متعددة من الكتاب العزيز:
فقال تعالى:(.وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) الأعراف: 142.
وقال تعالى: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ، أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ، وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ، وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) الأعراف:150ـ151.
وقال تعالى: (...وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا* وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) سورة طه ـ36
وقال تعالى:(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) طه: 70
وقال تعالى (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي، إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) طه 94.
قال تعالى:(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا {35} فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا) الفرقان:35ـ 36.
قال تعالى: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي، إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ *قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا، بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ* فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَآئِنَا الْأَوَّلِينَ) القصص: 36.
المتأمل في هذه الآيات الكريمة تتجلى له منزلة هارون من موسى والتي هي (أخوّة ووزارة وشراكة)، فقد جعل الله سبحانه موسى وهارون(عليهما السلام) في مكان القيادة والإمامة والدعوة، وباقي الأمة في مقام التبعية. ومن السفه بمكان أن يأتي قائل ليقول بعد هذه النصوص القرآنية أنَّ في قوم موسى من هو أولى بموسى وشريعته من هارون الذي هو الشريك في الدعوة والركن الآخر فيها, أو أن يقدم على هارون غيره.
وإذا كان القرآن قد وضح لنا هذه المنزلة، فقد جاء النبي(صلى الله عليه وآله) ليثبت لأمير المؤمنين(عليه السلام) كل هذه الصفات باستثناء النبوة وباستثنائها يثبت ما عداها.
والجدير بالذكر هو أن الحديث يتحدث عن المنزلة التي لا تتأثر بالزمان والمكان.
تشابه علي(عليه السلام) وهارون
ذكرنا أن النبي(صلى الله عليه وآله) يتكلم عن المنزلة والمقام بينه وبين أمير المؤمنين(عليه السلام) ولكن رغم ذلك نرى النبي(صلى الله عليه وآله) يحرص كل الحرص أن يشبِّه الأمير(عليه السلام) بهارون من كل الجهات حتى لا يُبقي ثغرةً لمن أراد أن يحرف الحديث عن مساره.
وذكرت الآيات أن هارون أخوه، وابنُ أُمه، وخليفتُه في قومه، ووزيرُه الذي يشدُّ به أزرَه, وجَعَلَتْه مع هارون في دفة القيادة وجعلت الأمة تبعاً لهما.
فقارئ الآيات الكريمة يخرج منها بنتيجة وهي أنَّ لهارون من موسى منزلة لا يرتقي إليها أحد بل لا يقرب منهما ثالث.
وقد بينت الآيات الكريمة منزلتين لهارون(عليه السلام)، الأولى المنزلة الدينية، والأخرى المنزلة الرَحَميَّة. ومع أنَّ
النبي(صلى الله عليه وآله) وبشواهد الحديث ومناسباته -إذ تكرر الحديث في أكثر من موطن- كان بصدد بيان المنزلة الدينية لعليٍّ(عليه السلام)، إلا أنَّه رغم ذلك بيَّن شبهه بهارون حتى من الناحية الرحمية و هي الأخوَّة، فثبَّت أنَّ عليّاً أخوه أيضاً كما كان هارون أخا
موسى(عليه السلام).
فيكون الحديث شاملًا لجميع ما ذكره الله لهارون إلا النبوَّة.
ولنفصل هنا المنازل الهارونيَّة التي يُثبتها الحديث لعليٍّ(عليه السلام):
1- الأخوَّة:
في ما يخص الأخوَّة ذكرت الروايات في أكثر من مورد ومناسبة تصريح النبيِّ(صلى الله عليه وآله) بأخوَّته مع أمير
المؤمنين(عليه السلام)، فهو آخى الأميرَ يوم المؤاخاة بين المسلمين فجعله أخًا له:-
ففي سنن الترمذي ج5 ص300:(آخى رسول الله(صلى الله عليه وآله) بين أصحابه فجاء علي تدمع عيناه فقال يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنت أخي في الدنيا والآخرة).
وقال العيني في عمدة القاري ج2 ص147 في تعريف علي(عليه السلام): (… وهو أخو رسول الله، عليه الصلاة والسلام، بالمؤاخاة وقال له: أنت أخي في الدنيا والآخرة..).
وذكر الحاكم في مستدركه ج3 ص159 والذهبي في تلخيصه مسلِّمًا بصحته قال: (.. ولّما زُفت ـ يعني فاطمة(عليها السلام) ـ قال النبي(صلى الله عليه وآله):
يا أُم أيمن ادعي لي أخي فقالت: هو أخوك وتنكحه؟ قال: نعم يا أم أيمن فدعت عليا فجاء…).
ونقل الطبراني في معجمه الكبير ج12 ص321 حديثاً عن النبي(صلى الله عليه وآله) يخاطب فيه أمير المؤمنين(عليه السلام) (… أنت أخي ووزيري تقضي ديني وتنجز موعدي وتبرئ ذمتي…).
وهنا نلاحظ أنَّه(صلى الله عليه وآله) أيضًا وَسَمَهُ بالوزير، كما كان هارون وزيرًا لموسى. وهناك روايات كثيرة شبيهة وفيما ذكرناه كفاية.
2- ابن أُم:
أما المنزلة الرَحَميَّة الثانية التي ذكرتها الآيات هي الأمومة وقد أثبت النبي(صلى الله عليه وآله) ذلك له ولعلي(عليه السلام)، وإليك هذه الرواية التي تبين ذلك:
ففي مجمع الزوائد ج9 ص256: (عن أنس بن مالك قال لّما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي (رضي الله عنهما) دخل عليها رسول الله(صلى الله عليه وآله) فجلس عند رأسها فقال: رحمك الله يا أمي كنت أمي بعد أمي تجوعين وتشبعيني وتعرين وتكسيني وتمنعين نفسك طيبًا وتطعميني تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة.. فحفروا قبرها فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله(صلى الله عليه وآله) بيده وأخرج ترابه بيده فلما فرغ دخل رسول الله(صلى الله عليه وآله) فاضطجع فيه فقال: الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقّنها حجتها ووسع عليها مدخلها بحق نبيَّك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين..).
3- هارون وموسى نفس واحدة
إذا لاحظنا الآيات الكريمة التي ذكرناها أعلاه من سورة القصص لوجدنا أن موسى يطلب من الله أن يرسل معه هارون، وأن الله يستجيب له ويخبره أنهم لا يصلون إليهما، بعد ذلك يخبر الله سبحانه بمجيء موسى ويكتفي به ولم يذكر هارون، و كأنهما نفس واحدة، وهذا ما نلاحظه في ما يخص النبي(صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين(عليه السلام)
في قوله تعالى: (..فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ..) آل عمران:61.
نقل مسلم في صحيحه وغيره من أهل الحديث واتفق المفسرون أن النبي(صلى الله عليه وآله) دعا عليًا وفاطمة وحسنًا وحسينًا و أنَّ المقصود بأنفسنا هو علي بن أبي طالب ونسائنا فاطمة الزهراء وأبناءنا الحسن والحسين فهنا يجعل القرآن أمير المؤمنين(عليه السلام)
نفس النبي(صلى الله عليه وآله) وهناك يجعل هارون نفس موسى.
وفي صحيح البخاري ج3 ص168: عن النبي(صلى الله عليه وآله): (…وقال لعلي أنت مني وأنا منك).
4- تسمية الأولاد:
أمر آخر أراد النبي(صلى الله عليه وآله) أن يؤكد به شبه الأمير(عليه السلام) بهارون، بعد أن سمى ولده، حسنًا وحسينًا ومحسنًا فقال: إني سميت وِلْدي باسم وِلْدِ هارون شُبر وشبير ومشبر).ذكر ذلك الطبري في المسترشد ص448.
5- الصفات الأخرى:
ولم ينته التشابه بما مضى، فقد جمع له صفات أخرى، منها ما ثبت بالرواية التي نقلها الفخر الرازي في تفسيره ج12 ص26 وغيره عن أبي ذر الغفاري: (أما إني صليت مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) يومًا من الأيام صلاة الظهر، فدخل سائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم أشهد إني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئًا. وكان عليٌ راكعًا فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين النبي(صلى الله عليه وآله) فلما فرغ النبي(صلى الله عليه وآله) من الصلاة فرفع رأسه إلى السماء وقال: (اللهم إن أخي موسى سألك، فقال: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي *وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي)، فأنزلتَ عليه قرآنًا ناطقًا: (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا)، اللهم وأنا محمد نبيُّك وصفيُّك، اللهم فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيرًا من أهلي، عليًا اشدد به ظهري). قال أبو ذر: فو الله ما استتم رسول الله(صلى الله عليه وآله) الكلمة حتى أنزل عليه جبرئيل من عند الله، فقال: يا محمد اقرأ، فقال: وما أقرأ؟ قال: إقرأ: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ).
وهناك شبه آخر، فقد جاء في الإمامة والسياسة ج1 ص20 لابن قتيبة أن الأمير(عليه السلام) بعد سلب الخلافة والضغط عليه لكي يبايع لاذ بقبر النبي(صلى الله عليه وآله) وهو يتلو قوله تعالى: (..ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي..).
وهو بذلك يشبه نفسه بهارون وموقفه وما فعلته الأمة به بانحرافها عن الحق.
بعد هذا العرض والتطابق بين الأمير وهارون على كل الأصعدة والمستويات ينبغي أن تنجلي غبرة الشك وتبرز الحقيقة من كون أمير المؤمنين(عليه السلام) أفضل الأمة وهو الخليفة صاحب المقام الرفيع الذي لا يدانيه أحد من الصحابة فضلًا من أن يساويه أو يفضل عليه.