قدّم الإمام علي(عليه السلام) من خلال خطبه وكتبه ووصاياه نظريات وأفكارًا متكاملة في الخراج، التي يمكن الاستفادة منها في رسم السياسة المالية الصحيحة في البلد، في ما يتعلق بالضريبة والرسوم والريع وغيرها من الجوانب المرتبطة بكيفية إدارة الممتلكات العامة والمحافظة عليها، والاهتمام بالرعية.
والخراج هو الأجر أو الريع الذي تحصل عليه الدولة الإسلامية ممن يستثمرون أرضها ويزرعونها.
أولاً: صفات عمل الخراج
يصف إمام المتقين علي(عليه السلام) عمل الخراج، في أحد كتبه التي بعثها إلى عماله، بأنه عمل يسيرٌ في أدائه، عظيم في فائدته، كبير في ثوابه، ولكنه مع ذلك لم يسمح لعماله وجُباته، أن يحصلوا على هذا الحق من المكلفين بالشِّدة والجبر، بل باللين والقناعة، وبالتالي فإن الإمام أقرَّ مبدأ الحوار وابتعد عن التسلط والرأي المنفرد، لكي لا تهان كرامة الإنسان ويتأثر الإنتاج والعمل ولا يحصل هناك هدر وضياع في الأموال، سواء أكان في تحصيلها أم في إنفاقها، إذ يقول الإمام(عليه السلام): (وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ يَسِيرٌ وَأَنَّ ثَوَابَهُ كَثِيرٌ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا نَهَى اللهُ عَنْهُ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ عِقَابٌ يُخَافُ لَكَانَ فِي ثَوَابِ اجْتِنَابِهِ مَا لَا عُذْرَ فِي تَرْكِ طَلَبِهِ)(1).
وقال(عليه السلام) في كتاب آخر بعثه إلى الأشعث بن قيس عامله إلى أذربيجان: (وَإِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَة، وَلكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانةٌ، وَأَنْتَ مُسْتَرْعىً لِمَنْ فَوْقَكَ، لَيْسَ لَكَ أَنْ تَفتَاتَ فِي رَعِيَّة، وَلاَ تُخَاطِرَ إِلاَّ بِوَثِيقَة، وَفي يَدَيْكَ مَالٌ مِنْ مَالِ اللهِ عَزَّوَجَلَّ، وَأَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ حَتَّى تُسَلِّمَهُ إِلَيَّ، وَلَعَلِّي أَلاَّ أَكُونَ شَرَّ وُلاَتِكَ لَكَ، وَالسَّلاَمُ)(2).
ثانياً: الصفات القياسية لعامل الخراج
ذكر الإمام علي(عليه السلام) الصفات القياسية لعامل الخراج، الذي يقوم بتحصيل أموال الخراج في عدة كتب بعثها إلى ولاته وعمّاله، ومن هذه الكتب ما قاله(عليه السلام) إلى أحد عمّاله: (انْطَلِقْ عَلَى تَقْوَى اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَلاَ تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً، وَلاَ تَجْتَازَنَّ عَلَيْهِ كَارِهاً، وَلاَ تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَكثَرَ مِنْ حَقِّ اللهِ فِي مَالِهِ. فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ، ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، حَتَّى تَقوُمَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ، ثُمَّ تَقُولَ: عِبَادَ اللهِ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللهِ وَخَلِيفَتُهُ، لِآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللهِ فِي أَمْوَالِكُمْ، فَهَلْ لِله فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَى وَلِيِّهِ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لاَ، فَلاَ تُرَاجِعْهُ، وَإِنْ أَنْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ)(3).
يطلب أمير المؤمنين علي(عليه السلام) من عامله أن ينطلق على بركة الله تعالى وتقواه، لإنجاز عمله، الذي عليه أن يجعله خالصاً لله عزّ وجل، حتى يحسن التصرف والتعامل مع أهل الخراج، وأن لا يقوده هذا الهدف إلى الإساءة إليهم، سواء من خلال ترويعهم وتخويفهم بالتهديد والوعيد، أو من خلال التسلط عليهم وإكراههم على دفع حقوق الله، أو عن طريق الاعتداء عليهم، بأخذ أكثر من حق الله في أموالهم.
كما ويطلب الإمام علي(عليه السلام) من عامله ويقول له عندما تصل إلى حيهم عليك أن لا تسكن في بيوتهم، بل انزل في مائهم، أي خارج بيوتهم، سلامة عليك من أي إشاعة أو قول يساء لك، وكذلك قوة لإيمانك من أية مؤثرات، قد تتعرض لها من أهالي البيوت التي يضيفونك وبالتالي فقد تضطر إلى المحاباة على حساب الحق، إضافة إلى ذلك فإن السكن بين البيوت قد يدفعه إلى التعرف إلى أمور وأسرار لا يرغب سكان الحي إباحتها إلى الناس الغرباء.
يتضح من ذلك إن عدم مخالطة مسؤولي الدولة (الجُباة) بالسكان المعنيين يجعل لهم هيبة ومكانة في أعين الناس والخليفة، إضافة إلى أنها تبعدهم عن الشبهات التي يمكن أن تقال عنهم، لأن المخالطة تولّد المحاباة، التي قد تكون على حساب الحق فيشاع الظلم والجور، وتتبدد ثروات الأمة ويقل الخير.
لذلك فإن الإمام(عليه السلام) رفض التصرف الذي قام به عثمان بن حنيف، عامله على البصرة عندما قبل دعوة أهلها إلى وليمة أقاموها له، لأنّه يعرف أن هناك أموراً قد تترتب عليها، أو أن موقفه سيكون ضعيفاً تجاههم.
بعد ذلك يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) لعامله: امضِ إليهم بالسكينة والوقار حتّى تكون محل احترامهم وتقديرهم، وهذا هو السلوك السليم ، وهو الذي وصى به لقمان لابنه في كتاب الله العزيز: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)(4).
وعندما يصل عامل الخراج إلى سكّان الحي، يطلب الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) منه أن يبدأهم بالتحية الكاملة غير الناقصة، لأنّها الأفضل، إذ قال الله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا)(5).
وبالطبع فإن هذا السلوك لعامل الخراج سيكون له أثره الكبير في سكان الحي هؤلاء ، لأنه سوف يشعرهم بالطمأنينة تجاهه، وبعد ذلك يقوم بشرح مهمته الموكّل بها إليهم، وهي أخذ حق الله من أموالهم، إذا كانوا مقتنعين بحق الله في أموالهم ، ويجب أن يعطوه.
ثالثاً: المواصفات القياسية لما يعمله عامل الخراج بعد موافقة المنعم
يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): (وَإِنْ أَنْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ أَوْ تَعْسِفَهُ أَوْ تُرْهِقَهُ فَخُذْ مَا أَعْطَاكَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلَا تَدْخُلْهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَهُ فَإِذَا أَتَيْتَهَا فَلَا تَدْخُلْ عَلَيْهَا دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ وَلَا عَنِيفٍ بِهِ وَلَا تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً وَلَا تُفْزِعَنَّهَا وَلَا تَسُوأَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا)(6).
ويشير هذا النص الكريم إلى أنه إذا أنعم لعامل الخراج منعم، أي إذا قال لديَّ حق الله في أموالي، فإن على عامل الخراج أن يرافقه إلى محل أمواله مرافقة ملؤها الاحترام والتقدير وبعيداً عن التسلط والتكبّر والتعسّف، لأنّها ليست من صفات الإسلام، وأن يأخذ ما يعطيه المنعم من نقود ذهب أو فضّة، وإن أخبره بأنّ أمواله غير نقدية، بل هي ماشيةٌ وإبِلٌ، ففي هذه الحالة فإنّ على عامل الخراج أن يراعي الأمور القياسية التي حددها
الإمام(عليه السلام) عند دخوله عليهن:
1. عدم الدخول عليهن إلا بإذن من صاحبها، يقول الله جلّ جلاله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ)(7).
2. بعد الإذن لكم بالدخول يكون دخولكم عليهن دخولًا مباركًا له في سعيه وفي تربيته لهذه الحيوانات ، وبتلطف بها، أي ليس دخولًا قاهرًا ومتسلطًا عليها، سواء أكان بنظرة أو بصوت أو بحركة، بحيث لا يثير فيهن هذا الدخول، أي خوف أو فزع، يؤدي إلى ابتعادهن عن تناول غذائهن مثلاً.
3. على عامل الخراج أن لا يتعرض إلى صاحب هذه الإبل والماشية لأية إساءة، سواء أكان بالتقليل من قيمتهن أو من أهميتهن، أو التعامل معهن بقسوة وتسلّط، وبذلك كأنّه يتعرض إلى خدش كرامة المنعم ومكانته، متناسياً قول الله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(8). أي مدى مكانة المال عند صاحبها، حتّى إنها قُدِّمت على البنين.
ويمكن أن نستنتج من هذا النص الكريم شيئاً آخر هو: أن الأموال التي يأخذها عامل الخراج من المنعم، يحددها الإمام(عليه السلام)، في أنّها إمّا أن تكون نقداً من الذهب أو الفضة أم عيناً من الإبل أو الماشية، فالنسبة للنقد، فإن علماء المسلمين متّفقون على أن النقود الشرعية هي الذهب والفضّة (الدنانير الذهبية والدراهم الفضيّة) حصراً، فهي التي كانت سائدة، وقُدِّرَ بهما نصاب زكاة النقدين، ونصاب الديّة وحدّ القطع في السرقة، وسائر المقدرات الشرعية.
أمّا ما يتعلّق بالخراج العيني، فيكون عدداً معيناً من الإبل أو الماشية، أو مقداراً معيناً من المحاصيل الزراعية، أو الإنتاج الصناعي، أو ما في حكمها.
رابعاً: التقدير القياسي لأموال الخراج
يتبيّن من خلال الكتب التي بعثها الإمام(عليه السلام) إلى عمّاله على الخراج، أنّه اعتمد نظام المقاسمة لتقدير أموال الخراج، إذ يقول لعامله: (وَاصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِيَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ الله فِي مَالِهِ فَاقْبِضْ حَقَّ الله مِنْهُ فَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ ثُمَّ اخْلِطْهُمَا ثُمَّ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلًا حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ الله فِي مَالِهِ)(9).
ويلاحظ من خلال النص الكريم، أن الإمام(عليه السلام) اعتمد أسلوب حرية الاختيار في المال، لا أسلوب الضغط والتسلط إذ طلب من عامله أن يقسم المال قسمين، ثم يخير صاحب المال أن يختار أحدهما، ولا يعترض لما يختاره ثم يطلب منه أن يصدع النصف الذي لم يرتضيه صاحب المال لنفسه، صدعين ويخيره أيضاً، ولا يزال يفعل ذلك حتّى يبقى المال بمقدار حق الله، فيأخذه ثم يسأل صاحب المال عن هذه القسمة، أهو راضٍ عنها أم هناك ظنٌّ في نفسه بأن القسمة غير عادلة؟ فإن أشار إلى ذلك فعمل إلى إعادة القسمة من خلال إعادة خلط الأموال كلّها، ثم كرر ما فعلته سابقاً من قسمة الأموال، حتّى يرضى، وهذه هي (الديمقراطية) في أعلى مستوياتها.
نشرت في العدد 53
نهج البلاغة للإمام علي(عليه السلام) محمد عبده، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ج3، ص80.
(2) المصدر نفسه، ج3، ص6.
(3) المصدر نفسه، ج3، ص23-24.
(4) سورة لقمان الآية 18-19.
(5) سورة النساء، الآية 86.
(6) نهج البلاغة للإمام علي(عليه السلام)، المصدر السابق، ج3، ص24.
(7) سورة النور، الآية 27-28.
(8) سورة الكهف، الآية 27-28.
(9) نهج البلاغة للإمام علي(عليه السلام)، المصدر السابق، ج3، ص24.