لا شك إنّ خروج الحسين(عليه السلام) أثّر في الوجود الإنساني، تأثيرًا لا رجعة فيه، وهذا يعني أنّه (عليه السلام) حقق نصرًا لصانعيه وحطم أعداءه المناوئين.
فما هي ملامح النجاح الآنية في هذه النهضة التي أعقبت تلك النهاية المأساوية باستشهاد قائدها وأصحابه وأهل بيته.
يمكن ملاحظة هذه الملامح عندما نتجاوز النتائج المادية للنهضة الحسينية، والانتقال من المشهد المأساوي المروع إلى المشهد الروحي المشرق، الذي تعبّر عنه الآية الكريمة في قوله تعالى: (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (المجادلة: 21)، ونحن نعلم أنّ كثيراً من الرسل والأنبياء والمصلحين والآمرين بالقسط قد عُذبوا وقُتلوا، بدلالة قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) ( البقرة: 61)، وقوله تعالى: (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (آل عمران:21)،
فكيف إذن يغلب المقتولون القاتل؟ الجواب يغلب بانتصار مبادئه وتبنّي المجتمع لها وتعاطفه معها ،حتى يصبح لها جمهور يفوق الجمهور المساند للظالم، الذي تتعرى دوافعه المادية الذاتية، الطمع ونشدان اللذات وحب التسلط على الغير من دون وجه حق… إلى غير ذلك من الدوافع المريضة. وهنا تكون تضحية الثائر برهانا على صدق دعواه عند الجمهور، فتكون عاملا مهمًا لكسر الحواجز النفسية للمؤيدين المتذبذبين بسبب عوامل الخوف والتردد، فتتحرر طاقتهم، وعليه يمكن تقسيم ملامح النجاح الآنية لنهضة الحسين(عليه السلام) على النحو الآتي(1):
1ـ تحطيم الإطار الأخلاقي للحكم الأموي المستبد:
غرس النبي محمد (صلى الله عليه وآله) في نفوس المسلمين فكرة الحكم التي تتضمن مدلولين:
الأول: المدلول الأخلاقي الديني،الذي يؤهل الحاكم أن يكون خليفة الله تعالى في الأرض.
الثاني: المدلول الدنيوي ،المجسد لهذا المدلول بامتلاك العناصر التي تساعد على تطبيق العدالة،وذلك بتسنم موقع الحكم وامتلاك مقوماته.
والمدلول الأول هو الجوهر في الأخلاق الإسلامية وفي أي حضارة عموماً.لذا عمد الأمويون على إسباغ هذا المدلول الروحي على شخصياتهم لإيهام الناس أنهم يحكمون بتفويض إلهي ،ومن ذلك ما أسبغه معاوية على نفسه في رسالته إلى الإمام علي (عليه السلام)يقول فيها: (ونحن بنو مناف، ليس لبعضنا على بعض فضل يُستذل له عزيز ويُسترقّ به حرّ)(2)، فأجابه الإمام علي (عليه السلام) بقوله:
(لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمٍ ولا حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ ولا أَبُو سُفْيَانَ كَأَبِي طَالِبٍ ولا الْمُهَاجِرُ كَالطَّلِيقِ ولا الصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ ولا الْمُحِقُّ كَالْمُبْطِلِ ولا الْمُؤْمِنُ كَالْمُدْغِلِ ولَبِئْسَ الْخَلْفُ خَلْفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ وفِي أَيْدِينَا بَعْدُ فَضْلُ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَذْلَلْنَا بِهَا الْعَزِيزَ ونَعَشْنَا بِهَا الذَّلِيلَ ولَمَّا أَدْخَلَ اللهُ الْعَرَبَ فِي دِينِهِ أَفْوَاجاً وأَسْلَمَتْ لَهُ هَذِهِ الأمَّةُ طَوْعاً وكَرْهاً كُنْتُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ إِمَّا رَغْبَةً وإِمَّا رَهْبَةً عَلَى حِينَ فَازَ أَهْلُ السَّبْقِ بِسَبْقِهِمْ وذَهَبَ الْمُهَاجِرُونَ الأوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ فَلا تَجْعَلَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيكَ نَصِيباً)(3).
لكن هذا الرد لم يأخذ صداه ولم يؤثّر في العامة التي عملت الدعاية الأموية على تضليلهم واستقطابهم لصالحها ،قال المسعودي: (وكان معاوية في هذه المدة [أي من بعثة النبي (صلى الله عليه وآله) إلى يوم فتح مكة] بحيث علم الله، ثم كتب له النبي(صلى الله عليه وآله) قبل وفاته بشهور، فأشادوا بذكره ورفعوا منزلته بأن جعلوه كاتباً للوحي، وعظموه بهذه الكلمة، وأضافوه إليها، وسلبوها عن غيره، واسقطوا ذكر سواه)(4).
حدث هذا بسبب ضعف الإعلام الصالح وقوة التثقيف الفاسد، الذي ضلل عقول الناس حتى قيل إنّ معاوية عند مسيره إلى صفين صلى بهم (الجمعة في يوم الأربعاء، وأعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها، وركنوا إلى قول عمرو بن العاص إنّ عليا هو الذي قتل عمار بن ياسر حين أخرجه لنصرته، ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن علي(عليه السلام) سنة ينشأ عليها الصغير،ويهلك عليها الكبير)(5).
وقد فعل هذا الإعلام المضاد في أهل الشام ولاسيما عند وصية معاوية ليزيد:(وانظر أهل الشام فيكونوا بطانتك وعيبتك، فإن نابك شيء من عدوك فانتصر بهم، فإن أصبت بهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم)(6). بمعنى انكشفت لهم الحقيقة.
وكان معاوية يعمل المنكر ويتستر بالدين حتى روّض العامة على الطاعة العمياء فلم يحتجوا على فسق يزيد ابنه الذي أظهره هو وعماله (فكان صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب….وغلب على أصحاب يزيد وعماله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعمل الملاهي وأظهر الناس شرب الشراب)(7).
والمهم أنّ هذا الإعلام أصبح واقعا وأصبح الحكم مُسلّماً به بأنّه حق لمن قام على الكرسي ويمتلك مصادر القوة من مال وجيش وأرض،وعلى هذا الأساس اقتنعت الشخصيات الخاصة من الأمراء وقادة الجيوش ورؤساء القبائل ورجال الدين المنضوين تحت هذه السلطة، بأنّ من يخرج على السلطان يستحق القتل باسم الحق والشريعة،لذا نجد ابن زياد يخذل الناس عن نصرة مسلم بن عقيل(عليه السلام) بقوله:
(اعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم)(8). وهذا عمرو بن الحجاج الزبيدي يخطب قومه في كربلاء قائلاً: (يا أهل الكوفة الزموا طاعتكم وجماعتكم ولا ترتابوا في قتل من مرق عن الدين وخالف الإمام)(9).
فقد وقع القوم إذن تحت تأثير المقولة التي تقول إكذب إكذب حتى يصدقك الناس،فهذه النصوص تدلّ على أنّ الأمويين وأعوانهم كانوا يؤلبون الناس بالواجب الديني حين طلبوا منهم قتل الإمام الحسين(عليه السلام) ويتطلب هذا الأمر تغييب فضائل الحسين(عليه السلام) المذكورة في السنة الصريحة، ومكانته القيادية والسياسية القائمة على العدل الاجتماعي المستند إلى الشريعة الإسلامية، والممثلة للجوهر الأخلاقي الديني للحكم ،فضلا عن أحقيته بالخلافة، وهذه العوامل تجعله(عليه السلام) ملزما برفض بيعة يزيد ليصبح معارضة سياسية.
والمهم أنّ هذا الوضع لابدّ له من رمز ديني واضح المعالم يصدم به كي يبين المعدن الأصيل من المعدن المزيف،وهذا الرمز هو الحسين(عليه السلام) إذ كان له في قلوب المسلمين رصيد من الحبّ والإجلال العظيم، لذا سيكون خيار قتله ورهطه وأصحابه والتمثيل بهم وسبي نسائه اللواتي هن بنات رسول الله(صلى الله عليه وآله)، سيضع حدّاً فاصلا بين المضمون الأخلاقي الروحي والحكم الأموي الذي سيفرغ من هذا المضمون، ويتعرّى ليظل حاكما باسم الدينا وحدها، أي أنّه حكم مستبد طاغ ليس له قيم أخلاقية ولا مثل دينية أو إنسانية عليا.
أما جوانب تعرية حكم آل أمية فتتمثل بالجوانب الآتية:
أـ كشف الإمام عن شخصيته بأنها تمثل الانتماء الديني الأخلاقي الخالص، وليس الانتماء إلى بيت آل الرسول (صلى الله عليه وآله) نسباً حسب، وبهذا لا يحق لأي إنسان أن ينتهك دمه من ناحية أخلاقية،أو من المنطق العقلي، ويظهر ذلك في قوله(عليه السلام):
(هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين المصدق لرسول الله بما جاء به من عند ربه، أوليس حمزة سيد الشهداء عمي، أوليس جعفر الطيار في الجنة بجناحين عمي، أو لم يبلغكم ما قال رسول الله لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟!)(10)، وأكد استطلاع هذا الحديث ممن سمعه عن النبي وهم (جابر بن عبد الله الأنصاري ،وسعيد الخدري، وانس بن مالك) وغيرهم.
ب ـ الكشف عن معادلة الحق التي تبيّن أنّ قتله (عليه السلام) يعد جريمة؛ لأنه لم يرتكب جريمة قتل يُطلب بها، وأنّه لم يرتكب أي اعتداء يسوّغ الاعتداء عليه قصاصا، قال (عليه السلام): (ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة؟)(11).
جـ ـ الكشف عن أنّ خروجه لم يكن بدوافع ذاتية محضة، وإنما كان تلبيه لطلب جمهور مضطهد منتهك الكرامة، ومنتهب الحقوق، ومغصوب بغير وجه حق، ويشهد على ذلك كتب أهل الكوفة التي كشف عنها الحسين(عليه السلام) في مرحلة متأخرة كي لا يفضح القوم الذين كاتبوه لعلهم يهتدون ويثوبون إلى رشدهم، ومن ذلك كتب نخبة من أهل الكوفة باسمهم واسم المسلمين والمؤمنين، وفيه:
(الحمد لله الذي قضم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها،وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضا منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها فبعدا له كما بعدت ثمود،إنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق)(12).
وهنا فضح الإمام الحسين(عليه السلام) نفاق سادات القوم في قوله: (يا شبث بن ربيعي ويا حجار بن أبجر ويا قيس بن الأشعث ويا يزيد بن الحارث ويا عزرة بن قيس ويا عمر بن الحجاج؛ ألم تكتبوا إليّ: فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار وطمت الجمام، فإذا شئت فاقدم على جند مجندة)(13)، فقالوا له: لم نفعل، فقال: سبحان الله، بلى والله لقد فعلتم.
2ـ تحرير الطاقات النفسية للمؤيدين المترددين.
بعد تحطيم الإطار الأخلاقي لحكم آل أمية الذي رفض كل الخيارات التي عرضها الحسين(عليه السلام) على المطالبين دمه، فأبوا إلا قتله بمأساة مروعة ،ظهر أثرها عند الأمة الإسلامية عموما،وأهل الكوفة خصوصاً في شعور بالإثم لدى كل من كان مستطيعا نصره فلم ينصره ،بعد أن تبيّن أنّ موقف الحسين(عليه السلام) وتضحيته إنما كانت تضحية لأجل المبادئ السامية والإصلاح الديني،وقد ظهر هذا الشعور في جانبين:
أـ جانب التعاطف مع موقف الحسين (عليه السلام) ومبادئه.
ب ـ جانب الحقد والكراهية على الذين ارتكبوا هذا الجرم.
والمهم أنّ الجانبين يركزان على العاطفة في حين كان العامل الأول يركز على العقل،وقد كانت العاطفة قبل استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) مشوشة تجسدها مقولة الفرزدق: (قلوبهم معك وسيوفهم عليك)،ولكن الآن أصبحت العاطفة موجهة بالاتجاه الصحيح وهو نصرة الحقّ والثورة على الظالم والانتقام من المجرم والتشفي به.
وقد قدر لبقية أهل البيت(عليهم السلام) أن تلهب هذا الشعور بالإثم،أو تزيد حرارته، فهذه زينب(عليها السلام) تقف خاطبة أهل الكوفة: (أما بعد يا أهل الكوفة،أتبكون؟ فلا سكنت العبرة، ولا هدأت الرنّة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا،وتتخذون أيمانكم دخلا بينكم،ألا ساء ما تزرون…فابكوا فإنكم لا ترحضون قتل سبط خاتم النبوة ومعدن الرسالة ومدار حجتكم، ومنار محجتكم…. أتدرون أي كبد فريتم، وأي دم سفكتم؟،وأي كريمة أبرزتم؟…(لقد جئتم شيئاً إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا)(14).
وقد وردت أحاديث كثيرة لاحقا عن الأئمة المعصومين(عليهم السلام) تشير إلى تعزيز الجانب العاطفي من كتابة الشعر وإلقاء الخطب وزيارة قبر الإمام الحسين(عليه السلام) وإقامة الشعائر الحسينية التي تخصّ ذكرى استشهاد الحسين(عليه السلام)، وكل هذه الميادين تفيد في إلهاب المدّ العاطفي للجماهير.
3ـ بناء قيم وأخلاق جديدة:
لقد شيّد الإمام الحسين(عليه السلام) في نهضته الأخلاق الإسلامية العالية بكل صفائها ونقائها، وقدمه مكتوبا بدمائه ودماء أهل بيته وأصحابه. ومن الأخلاق الجديدة أن المسلم أصبح لا يهاب الموت ولا يخافه، بل ويرغب فيه؛ لأنه أصبح لا يفضل حياة الذل والظلم والخضوع أو الحياة البهيمية القائمة على الأكل والشرب من دون وعي ولا إرادة ولا حرية فيها كرامة الإنسان، وهكذا استشهد الإمام الحسين(عليه السلام) بأبيات في هذا المعنى لأحد الشعراء:
سأمضي وما بالموت عارُ على الفتى إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما
وواسى رجالا صالحين بنفسه وخالف مثبوراً وفارقاً مجرماً
فإن عشتُ لن أندم وإنْ مُتُّ لم أُلَمْ كفى بك ذُلا أن تعيش فترغما
ولهذا أصبح المرء إذا خُيّر بين حياة الذل والموت اقتدى بالإمام الحسين(عليه السلام) فاختار الموت، قال (عليه السلام): (ألا وأنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا ورسوله والمؤمنون وجدود طابت وحجور طهرت وأنوف حمية ونفوس أبيّة، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام)(15).
هذه الأخلاق قائمة على الإيمان المطلق بحياة ما بعد الموت، والنظر إلى أنّ الموت في سبيل الله تعالى موصول بالشهادة التي تخلّد الانسان، قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 179)، في حين لا يؤمن الظالم بهذه الحياة؛ لانّ حياته محدودة بالدنيا وملذاتها، ولا يلجأ إلى الله إلا حين يحاصره الموت.