من المعلوم في تاريخ البشرية أن أية أمة من الأمم تفتخر بعظمائها وأفذاذها وعباقرتها ومفكريها، ذلك أنهم يمثلون تاريخها المشرف، ومحل اعتزازها الدائم، ومن ثَم هم يشكلون القدوة الحسنة لأفرادها، إذا ما أحسنت الانتفاع منهم بأن وظّفت سيرتهم وعطاءهم وما جادوا به ليكون منهلاً وزاداً رويّاً ومثالاً يحتذى وقدوة حسنة للأجيال.
ولا جرم أن أية أمّة من الأمم لا يحقّ لها أن تفتخر بمثل ما يكون لأمة العرب، ذلك أنه قد نشأ بين ظهرانيها آل البيت الأطهار(عليهم السلام)، فكان فضل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على العرب جميعهم لا يدانيه فضل، فقد نقل حياتهم نقلة نوعية من الحياة البدوية العبثية الوثنية التي كانوا يرزحون في ظلماتها إلى الحياة المدنية الفاضلة بكل تجلياتها، فأصبحوا من ذوي الحظوة والشأن بين أمم زمانهم، ثم أكرمهم الله ببركة رسوله بأعظم دستور عرفته البشرية، قرآناً مفصلاً كلّمهم بلسانهم وخاطبهم على قدرهم، فأثار فيهم دفائن العقول ومكامن القوة، حتى غدوا أمة مهابة في المشرق والمغرب.
ثم إن الله امتنّ على أمة العرب بآلِ بيتٍ كرام من نسب الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، أُلهموا علم الرسالة إلهاماً ، وتواتروا على تجسيد مضامينه وأحكامه تواتراً، فهم القرآن الناطق والحجة البالغة والعروة الوثقى التي أمر الله الناس أن يتمسكوا بها.
لكن الكثرة الكاثرة من هذه الأمة لم تفقه نعمة الله الكبرى، ولم تُدرك أن النقمة نتيجة حتمية لزوال النعمة، مع أن الله عرّفهم مصير الأمم السابقة المنحرفين عن أنبيائهم وأوصياء أنبيائهم، وبيّن لهم أن العقوبات في تلك الأمم الغابرة هي سنن كونية محتومة تقع حيث تتوافر أسبابها.
فكان أن فاجأ هؤلاء (العاصون لأوامر الله في مراعاة حرمة رسوله(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام)) التاريخ بشدة الإساءة إلى النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، ثم وصيه من بعده أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ثم شمول الإساءة سبط النبي الأكبر الإمام الحسن(عليه السلام)، ثم كانت طخيتهم الكبرى، وجريمتهم النكراء، أن أصابوا كبد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وآل بيته بمقتل، فنالوا غرضهم من سيد الشهداء (عليه السلام) وأنصاره الأوفياء ، فأساء ذلك إلى أهل الأرض والسماء، وأدمى مصابهم القلوب وقهر العيون.
وإذ نستذكر تاريخ الفاجعة وتمرّ علينا أيام الشهر المحرم ولياليه، فتشخص فاجعته الأليمة بكل أحداثها وصورها المؤلمة، فتتقد العبرات، وتذرف العيون أسًى، وتنفطر القلوب أسفاً، ثم نتأمل الحدث الجلل فيوري الفكر زناده، ليستلهم العبر من تلك الملحمة الربانية، فتضحية الإمام المعصوم(عليه السلام) مستندة إلى ضوابط الشريعة المقدسة متوافقة مع أحكام دستورها الرباني على مبدأ أن الإسلام منظومة فكرية لا عاطفية، ومن ثم وجب علينا أن ننعم النظر في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام)، لنقف على مواطن العبرة والتدبر وهي أكثر من أن تحصى ، ويمكن لنا أن نرصد منها العبر الآتية:
1ـ جسدت نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) عمليّاً الغرض الرئيس لوجود الإنسان في هذه الحياة ، فالقرآن الكريم يٌصرِّح به قائلاً :
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(الذاريات:56) ولعلّ السر الأسمى لكمال العبودية هو التسليم المطلق لإرادة الله عزّ وجلّ، وقد كان الإمام الحسين(عليه السلام) وآل بيته وأصحابه المصداق الأكثر انطباقاً على التسليم لإرادة الباري سبحانه، فقد يخطر في البال أن خروج الإمام(عليه السلام) ومعه عياله وأصحابه لمعركة غير متكافئة في العدد والعدة فيه من الغرابة ما لا يخفى، لكن هذا الخاطر يهن مع الاعتقاد بعصمة الإمام الحسين(عليه السلام)، وبأن نهضته كانت تسليماً مطلقاً للأمر الإلهي، وقد وضّح الإمام بنفسه هذا الأمر لمن قابلوه في أثناء رحلته مبيِّناً لهم أن طاعة الله وتقبّل أوامره والتسليم لها يستدعي مثل هذه التضحية النفيسة.
2ـ أقرّت حركة الإمام الحسين(عليه السلام) أن الركون إلى الظالمين والعيش في كنفهم خطأ فاحش يرتكبه المسلمون يورثهم الضجر وضيق العيش، على حين أن طلب الشهادة عند ضياع الحق وانتصار الباطل هو السعادة بعينها، يتضح ذلك في قول الإمام(عليه السلام): (ألا ترون أنّ الحقّ لا يُعمَل به، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربِّه محقّاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلا بَرماً)(1).
فالإمام(عليه السلام) ضحّى بنفسه، وهي أطهر النفوس وأزكاها حينذاك، وضحى بآل بيته وصحبه الكرام، بل ضحّى بكل ما يملك لنيل رضا الله، ومنه يفهم أن مثل هذه التضحية واجبة، ولو اقتضت شهادة أعز الأنفس عند الله وأعظمها ذلك أن الأنبياء والأولياء هم قدوة البشرية إلى كل خير وإصلاح.
3ـ جسّد الإمام الحسين(عليه السلام) وأنصاره عمليّاً وجوب العناية الشديدة والحرص الأشد على إقامة الواجبات الشرعية، فقد صلى الإمام بأصحابه صلاة الخوف في وسط أجواء القتل والانتقام، بل وقف الأصحاب يذودون السهام عن إمامهم وعن إقامة الصلاة، في أروع مشهد للتضحية، فقدّمهم إمامهم أمامه إلى الجنة، فقد روى المؤرخون أن أبا ثمامة الصائدي(رضي الله عنه) قال للإمام الحسين(عليه السلام) وقد حان موعد الصلاة: (يا أبا عَبدِ اللهِ ، نَفسي لَكَ الفِداءُ، إنّي أرى هؤُلاءِ قَدِ اقتَرَبوا مِنكَ، ولا واللهِ لا تُقتَلُ حَتّى أقتَلَ دونَكَ إن شاءَ اللهُ، وأُحِبُّ أن ألقى رَبِّي وقَد صَلَّيتُ هذِهِ الصَّلاةَ الَّتي دَنا وَقتُها. قالَ: فَرَفَعَ الحُسَينُ رَأسَهُ ثُمَّ قالَ: ذَكَرتَ الصَّلاةَ، جَعَلَكَ اللهُ مِنَ المُصَلّينَ الذَّاكِرينَ، نَعَم هذا أوَّلُ وَقتِها، ثُمَّ قالَ: سَلوهُم أن يَكُفّوا عَنّا حَتّى نُصَلّيَ)(2).
4ـ بيّنت نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) أنّ الإصلاح قد يتخذ طريقاً شاقّاً على النفوس، غاليَ الثمن على المصلِح، لكنه ثمن يستحقّه هذا الإصلاح، فالإمام الحسين(عليه السلام) إنما خرج لطلب الإصلاح في أمّة جده المصطفى، والإصلاح ذاك كان غرضه الأسمى زلزلة دولة الظالمين وإضعافها، وإذكاء شعلة الثورة والرفض والامتناع عن الركون إلى الظلم والظالمين، ثم التسبّب بمحق الدولة الأموية الظالمة وزوالها من الوجود.
واتضح من ذلك أن هذه النهضة المباركة بكل ما جرى فيها من أحداث ومواقف قد عبّدت طريق الحرية في نفوس المستضعفين الأحرار، وحفزت نفوسهم ومنحتها القدرة الإيمانية لرفض الاستعباد والطغيان والتجاوز على حقوق البشر أينما كانوا وفي أي زمان وُجدوا، ثم إنها رسمت لهم منهاجاً بيِّناً وشِرعةً جليّةً للوصول إلى غرضهم المنشود.
فقد قدّم الإمام (عليه السلام) أنموذجاً حيّاً لطريق الحق والعدل، وبيّن لنا أن السائرين على هذا الطريق وإن أفنوا أجسادهم وما يملكون، فقد حققوا ما كانوا يأملون، وهم الروح التي تُبَثُّ في الأمة حين تستكين إلى الظلم وتخمل وتتغافل، وهم ـ بعدُ ـ ذخائر للأمم تتعلم من تضحياتهم وتقتدي بشهاداتهم وتتخذهم مناراً للحرية والسعادة الأبدية.
5ـ كشفت نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) عن المضامين الربانية للجهاد وحددت مواضعه، فالجهاد إنما يشرع لإعلاء كلمة الدين ورفع الظلم عن المستضعفين وإحقاق الحق ورد كيد الأعداء، فقد نهض الإمام الحسين (عليه السلام) وأنصاره ليدفع البلاء عن الإسلام وليقوم إعوجاجاً خطيراً فاسداً في جسدها وليبتر شهوات الظالمين ، وليديم نعمة الإسلام على أمّة جده المصطفى التي كاد المستكبرون أن يمحقوا بركاتها ويطفئوا أنوارها، فشاء الله أن يتخذ الإمام الحسين(عليه السلام) وأنصاره قبس نور يستضيء بهديه المهتدون ويُفرَج به عن المؤمنين كربتهم ، وسفينة نجاة على اختلاف الليالي وتقادم الأزمان.
نشرت في العدد 66