لعل أفضل مَنْ تحدَّث عن خُلُق رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأدبه هو كتاب الله الكريم، إذ صوّرت لنا بعض الآيات القرآنية صفات النبي(صلى الله عليه وآله) العامة، فجرت مجرى الثناء عليه وحكت شمائله المحمودة وأخلاقه الرفيعة، ولو تأملنا في هذه الصفات لوجدناها متجسدة في شخص الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، فسيرته تدل على كماله المطلق، وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته تجسد الإسلام بعينه، فهو بحق القرآن الناطق صلوات الله عليه وعلى آله(1)، قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).
وفي هذه الآية شهادة من الله تعالى على عظمة أخلاقه(صلى الله عليه وآله) وسمو سجاياه وعلو شأنه في مضمار التعامل مع ربه ونفسه ومجتمعه(2). فكان آية من آيات الله تعالى العظام في معالي أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيين(عليهم السلام)، إذ غيّر بأخلاقه الكريمة مجرى تاريخ الأمم، وأحدث تحولاً اجتماعياً بالغ الأهمية في الحياة الفكرية والعقائدية في ذلك المجتمع الجاهلي(3).ومن بين الصفحات المشرقة لأخلاقه(صلى الله عليه وآله) أدعيته القيّمة التي حفلت بجميع معاني الإنابة إلى الله تعالى، وتركّزت على مكارم الأخلاق.
وتكمن قيمة الدعاء في أنه إقبال العبد على الله تعالى، والإقبال على الله هو روح العبادة، والعبادة هي الغاية من خلق الإنسان(4). والدعاء ـ بوصفه نصاً شرعياً ـ من مختصات المشرّع الإسلامي (أي
النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام)، ولذلك لا يمكن لنا أن نقلّده(5).
ومن التراث الإسلامي الأصيل لرسول الله(صلى الله عليه وآله)، دعاؤه المعروف بـ (دعاء الحُجُب)، ومن يقف متأملاً عند هذا الدعاء يتبين له مدى الخلق العظيم الذي امتاز به رسول الله(صلى الله عليه وآله) في الإنابة إلى الله تعالى وتجسّد بكلامه الشريف كما تجسد القرآن الكريم بشخصه العظيم(صلى الله عليه وآله).
ومن حيث الخصائص الفنية لنص الدعاء النبوي فإن أدعيته بشكل عام استقت بلاغتها من القرآن الكريم واتسقت مع تعبيره، وشابهت نصوصه من حيث سجعها وتجانسها البلاغي(6)، وهذا أمرٌ نابع من تأثره(صلى الله عليه وآله) برسالة السماء المنزلة عليه، وكلام الرب الذي أحسن تأديبه فقال(صلى الله عليه وآله): (أدبني ربي فأحسن تأديبي)(7).
وتُعد صفة الإنابة إلى الله تعالى والخوف الشديد منه من ذاتيات النبي(صلى الله عليه وآله)(8)،
بل من أهم مكارم أخلاقه التي جعلته يصل إلى مرتبة لا تُدانيها أية مرتبة أخرى، (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (النجم:8-9)، وصار يُدعى معها بحبيب الله، وهل ثمة صفة أبلغ من هذه الصفة، ولاسيما إذا كان المحبوب هو رب الأرباب ومسبب الأسباب الذي لا حدود لكرمه وعطائه، ولم نعلم بأن أحداً من الأنبياء ولا الصالحين على مر الزمان لُقِّب بهذا اللقب العظيم، وكيف لا يكون كذلك وهو أشرف الأنبياء والمرسلين، وخير خلق الله أجمعين.
وقد عُرف عنه(صلى الله عليه وآله) أنه (أناب إلى الله تعالى، وأرهق نفسه إرهاقاً شديداً في عبادته حتى نزل عليه الوحي بهذه الآية: (طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه:2)، وقد فاق جميع الأنبياء بكثرة عبادته)(9). ففي دعاء الحجب يُلاحظ أن ثلثي هذا النص منصب على مدح الله تعالى والثناء عليه والإنابة إليه، وكما يأتي:
يبدأ(صلى الله عليه وآله) ببيان صفات الله تعالى الذاتية معبّراً عنها بأسلوب بلاغي رفيع بقوله: (اللهم إني أسألك يا من احتجب بشعاع نوره عن نواظر خلقه، يا من تسربل بالجلال والعظمة واشتهر بالتجبر في قدسه، يا من تعالى بالجلال والكبرياء في تفرد مجده)، ثم ينتقل إلى قدرة الله تعالى وسلطته على خلقه: (يا من انقادت له الأمور بأزمتها طوعاً لأمره، يا من قامت السماوات والأرضون مجيبات لدعوته)، وهكذا يستمر الثناء على الله تعالى، كما يشير إلى جليل صنائعه تعالى بقوله:(يا من زيّن السماء بالنجوم الطالعة وجعلها هادية لخلقه، يا من أنار القمر المنير في سواد الليل المظلم بلطفه، يا من أنار الشمس المنيرة وجعلها معاشاً لخلقه، وجعلها مفرقة بين الليل والنهار بعظمته، يا من استوجب الشكر بنشر سحائب نعمه)، كل ذلك توطئة ومقدمة لمدح الله تعالى والثناء عليه، تأدباً وإنابة للخالق عز وجل، ثم ينتقل إلى مرحلة التوسل بأحب الأشياء إلى الله تعالى: (أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وبكل اسم هو لك سمَّيت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، وبكل اسم هو لك أنزلته في كتابك، أو أثبته في قلوب الصافِّين الحافِّين حول عرشك، فتراجعت القلوب إلى الصدور عن البيان بإخلاص الوحدانيّة وتحقيق الفردانيّة مقرةً بالعبوديّة… إلخ)، ومن بعد ذلك كله يبدأ الطلب وسؤال الحاجة: (أسألك بعزة ذلك الاسم أن تصلي على محمدٍ وآل محمد وأن تصرف عني وأهل حزانتي وجميع المؤمنين والمؤمنات جميع الآفات والعاهات والبليّات والأعراض والأمراض والخطايا والذنوب… إلخ)، وفي هذه الفقرة الأخيرة من الدعاء يتبيّن مدى الخلق العظيم المشتمل عليه الدعاء النبوي، إذ إنه لا يدعو لنفسه فحسب، وإنما يدعو كذلك لأمته وجيرانه وجميع المؤمنين والمؤمنات، وهو من مكارم أخلاقه(صلى الله عليه وآله)، ثم يختم نص الدعاء بقول في غاية الأدب مع ربه سبحانه وتعالى فيقول: (إنك سميع الدعاء لطيف لما تشاء).
نشرت في العدد 53
الهوامش
(1) ينظر: الصحيفة المحمدية، فاتن اللبون: 7.
(2) ينظر: محمد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، عبد الزهراء عثمان محمد: 160.
(3) ينظر: أخلاق النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام)، باقر شريف القرشي: 9-10.
(4) ينظر: المصدر نفسه: 13.
(5) ينظر: القواعد البلاغية في ضوء المنهج الإسلامي: 284-285.
(6) ينظر: الرسول المصطفى(صلى الله عليه وآله) ونظرية الأدب، عادل البدري: 339.
(7) بحار الأنوار: 16/210.
(8) ينظر: أخلاق النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام): 31.
(9) ينظر: المصدر نفسه: 32.