إن أهم ما يميز الإسلام في موقفه من المرأة هو إعطاء حقها، فكان لها الدور المؤثر في مختلف المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والعسكرية، ونجد أن التاريخ الإسلامي زاخر بالكثير من النساء اللواتي اعتلين قمم العظمة في كافة المجالات، ولعبن دورا كبيرا وحافظن على مكانتهن في المجتمع الإسلامي،
وكان على رأس القائمة لتلك النسوة عقيلة الطالبيين السيدة زينب بنت أميرالمؤمنين(عليها السلام) ودورها التاريخي في تعميق أهداف النهضة الحسينية ونشر تلك الأهداف، مع بيان ظلم بني أمية وجرائمهم وإرهابهم الفكري الذي اقترفوه ضد الإسلام والمسلمين.
وقد انتشر الإرهاب في التاريخ الإسلامي من خلال مظاهر العنف والقتل، وهذا واضح من خلال الاغتيالات السياسية على يد بعض الجماعات التي كانت تهدف إلى تحقيق غايات سياسية مختلفة(1).
مواجهة العقيلة(عليها السلام) للإرهاب في الكوفة.
ساندت السيدة زينب(عليها السلام) الركب الحسيني لحظة خروجه من الحجاز إلى العراق، وصولا إلى الشام، ومسيرتها التضحوية التي كانت عن يقين بأحقية النهضة الحسينية على قلاع البغي والفساد، فطرزت التاريخ الإنساني بصفحات مشرقة من الإباء والكبرياء استنادا إلى قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب: 33)، وأكملت(عليها السلام) رسالتها لمواجهة الإرهاب بكل أشكاله، الذي نهجه الأمويون، حيث تجلى بمنهجية التضليل الإعلامي الفكري الذي اتبعه الأمويون لتضليل الرأي العام حتى ينصاع لهم ولسياستهم المنحرفة، فجاءت نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) لتتحدى السلطة الحاكمة، وان يضحي بحياته ويقدم دمه الطاهر، ليقضي على الإرهاب الأموي بكل أشكاله.
إذ زيّف الأمويون الحقائق التاريخية في قتلهم للإمام الحسين(عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه(عليهم السلام) ببثهم الدعايات بأنهم ضد السلطة الحاكمة وبأنهم خوارج خرجوا على الخليفة، وليفرقوا كلمة الأمة ويشقوا عصا الطاعة، وسعى إعلامهم المضلل لترسيخ هذه الفكرة في أذهان الناس كما أعلن ابن زياد في الكوفة بأنهن أسرى ترك(2) محاولين إخفاء هويتهم، فاتسمت خطبها المؤثرة في بلاد الشام بإسقاط مزاعم السلطة الأموية بمعنى تجريد الحملة الإعلامية التضليلية للنظام الأموي فألهبت مشاعر الرأي العام من خلال تعريف الناس بالمنطلقات الفكرية الحقيقية لنهضة الإمام الحسين (عليه السلام) وأهدافها، وتجرؤ البيت الأموي الحاكم على قتل أهل بيت الرسول(صلى الله عليه وآله) وبيان مدى الإساءة لذرية الرسول(صلى الله عليه وآله) بقتل أولاده وأهل بيته(عليهم السلام)، ومن ثم سبي عياله وانتهاك حرماتهم، فما كان أمام الإمام الحسين(عليه السلام) إلا اصطحابه للنساء والأطفال معه في مسيرته إلى كربلاء، لكي لا يدع أي مجال للسلطة الأموية للتبرؤ من قتله وإرهاب الأمويين لأهل البيت(عليهم السلام)(3).
ومن المواقف التي واجهتها عقيلة بني هاشم(عليها السلام) عندما شاهدت الإمام الحسين(عليه السلام) مقتولا ومسلوب العمامة والردا، فقد صاحت(عليها السلام) بابن سعد بقولها: (ويحك أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر أليه؟ فصرف وجهه عنها ودموعه تسيل على وجهه ولحيته)(4) فعند ذلك صاحت(عليها السلام): (ويحكم أما فيكم مسلم؟ فلم يجبها أحد)(5).
ففي هذا الموقف أرادت العقيلة(عليها السلام) أن تذكره بأن هناك وجه قربى بينه وبين الإمام الحسين(عليه السلام) لكنه تناسى ذلك، فقد شغله الطمع بحكم الري عن معرفة ما يصح وما لا يصح ،كذلك أرادت أن تذكر القتلة بأنهم مسلمون على ملة الإسلام فلو لم يكونوا كذلك ماذا كانوا يفعلون؟.
ومن المحطات التاريخية التي واجهت فيها بنت أمير المؤمنين(عليهم السلام) إرهاب بني أمية عندما دخلت إلى الكوفة مع النساء والعيال، يحيط بها الجند، وقد خرج الناس للنظر إليهم وكانوا على جمال بغير وطاء، فأخذت الكوفيات بالبكاء والصراخ، فأومأت(عليها السلام) إلى الناس أن أسكتوا، فارتدت الأنفاس، وسكنت الأصوات، فقالت كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين(عليه السلام). فقالت: الحمد لله والصلاة على أبي رسول الله، أما بعد يا أهل الكوفة، ويا أهل الختل والخذل، فلا رقأت العبرة، ولا هدأت الرنة، فما مثلكم إلا (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ).
ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف، والصدر الشنف؟….، فبئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون؟! إي والله فابكوا كثيرا، واضحكوا قليلا، فلقد فزتم بعارها وشنارها، ولن تغسلوا دنسها عنكم أبدا. فسليل خاتم الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، وأمارة محجتكم، ومدرجة حجتكم خذلتم وله قتلتم!!!…(6).
وعندما أنهت فخر المخدرات(عليها السلام) خطبتها ضج الناس بالبكاء، وبهتوا، وظلوا في حيرة من أمرهم، لا يعرفون ما يصنعون، و أقترب الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) من عمته زينب(عليها السلام) قائلا لها: (أسكتي يا عمة فأنتِ بحمد الله عالمة غير معلمة، وفهمة غير مفهمة)(7) ويبدو لنا أن الإمام السجاد(عليه السلام) قد اضطر إلى إسكات عمته، بعد ازدياد الهياج بين الناس، وجاء أمر إسكاتها من قبل شرطة ابن زياد عندما نظر إلى ذلك الهياج نتيجة خطبتها(عليها السلام) أمر برفع الرؤوس أمامها فقطعت كلامها ولم تستطع أن تستمر بخطبتها بل روي أنها ضربت بجبينها مقدم المحمل حتى سال الدم من جبهتها(8).
وتثير العقيلة زينب(عليها السلام) أهل الكوفة بقولها: (أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي دم له سفكتم؟ وأي حرمة له انتهكتم؟ ولقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء خرقاء كطلاع الأرض وملاء السماء. أفعجبتم إن مطرت السماء دماً ولعذاب الآخرة أخزى وانتم لا تنصرون فلا يستخفنكم المهل فأنه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثار وإن ربكم بالمرصاد) (9).
فخطبتها(عليها السلام) في الكوفة أول توضيح وتصريح على واقعة كربلاء، بعد حدوثها، فهي موجهة للسلطة الأموية وسياسيتها المتمثلة بالظلم، والقهر، والجبروت، والإرهاب.
وعندما جاء ابن زياد ليبين للملأ انتصاره في واقعة الطف ويدعي أن الله تعالى فضح الإمام الحسين(عليه السلام) محاولا طمس الحقائق بقوله: (الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم)(10) فهو يعمد إلى تزيف حقيقة أنهم أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعمل على إخفائها عن المسلمين، فما كان أمام العقيلة(عليها السلام) إلا أن تواجهه وترد عليه بقولها: (الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد(صلى الله عليه وآله) وطهرنا من الرجس تطهيرا، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله)(11).
فقد أرادت(عليها السلام) أن تذكرهم بنبوة النبي محمد(صلى الله عليه وآله) وقربها منه وأنها من بيت النبوة الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
ومن محطات الإرهاب الفكري التي أثارت كل عدو وصديق وبينت مدى ظلم بني أمية وتعسفهم، عندما خرج أهل البيت(عليهم السلام) من الكوفة طلبت النسوة أن يمروا بهن على القتلى فلما نظرن أليهم وهم مقطعوا الأوصال صِحْنَ وضربن الوجوه، وقالت(عليها السلام): (يا محمد صلى عليك ملائكة السماء وهذا الحسين بالعراء مرمل بالدماء مقطع الأعضاء وبناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا… فأبكت كل عدو وصديق)(12)، لقد هزت هذه المرأة جيش عبيد الله بن زياد،وأسقطت نشوة النصر من رؤوسهم إذ كان يحسب أن الإمام الحسين(عليه السلام) قد انتهى بمقتله.
العقيلة زينب(عليها السلام) في مجلس يزيد.
إن موقف عقيلة بني هاشم(عليها السلام) في مجلس يزيد بن معاوية الذي يعد من أروع المواقف في الدفاع عن الحق وتحدياً لإرهاب بني أمية وجبروتهم ،فيزيد كان متربعا على كرسي ملكه ،وفي أوج قوته وزهوه بانتصاره بما قدمه في سفك الدم النبوي الطاهر، فكان مجلسه حف بقيادات جيشه ورجالات حكمه وزعماء قبائل الشام وظهوره بأعلى درجات القوة والقسوة والسيطرة وتهوره في القمع والإرهاب، فليس له من رادع من دين أو عقل، فكان على بنت عليٍ(عليها السلام) أن ترد عليه وتقف بوجه سلطته وزيفه وتحريفه للأحداث التاريخية، بالرغم من ظروفها البالغة في القسوة والشدة جسديا ونفسيا وهي لا تزال تحت وطأة الفاجعة العظيمة والسبي .
ومن محطات الإرهاب التي تعرضت لها العالمة غير المعلمة(عليها السلام) عندما حاول يزيد في مجلسه إظهار فرحه وانتصاره على أهل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وما حقده وكرهه لهم إلا دليلٌ قاطعٌ على قتله للإمام الحسين(عليه السلام) حيث يقول متمثلًا بأبيات ابن الزبعرى:
ليت أشياخي ببدر شهـــدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلـــوا واستهلــوا فرحـا ثم قالــوا يا يزيـــد لا تشــل
قد قتلنا القــرم من ساداتكم وعدلنــا ميل بدر فاعتـــدل
لست من خندف إن لم أنتقم من بنى أحمــد ما كان فعــل
لعبت هاشــم بالملك فـــلا خبر جاء ولا وحي نزل(13)
فترد عليه بقولها(عليها السلام): (لعمري لقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دم سيد شباب أهل الجنة، وابن يعسوب العرب، وشمس آل عبد المطلب، وهتفت بأشياخك وتقربت بدمه إلى الكفرة من أسلافك، ثم صرخت بندائك ولعمري قد ناديتهم لو شهدوك ووشيكا تشهدهم ويشهدوك ولتود يمينك كما زعمت شلت بك من مرفقها وأحببت أمك لم تحملك، وأباك لم يلدك، حين تصير إلى سخط الله، ومخاصمك رسول الله(صلى الله عليه وآله))(14).
لقد خطبت(عليها السلام) بكل قوة وشجاعة ورباطة جأش في مجلس يزيد خطبة عصماء ظلت تتناقلها الاجيال، ومما قالته(عليها السلام): (الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله أجمعين، صدق الله سبحانه حيث يقول: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ)(الروم : 10)
أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة؟ وأن ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسرورا، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، مهلا مهلا أنسيت قول الله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)(ال عمران: 178))(15)…. إلى آخر خطبتها.. فأبكت كل عدو وصديق.
فكان لهذه الخطبة وللمأساة التي تعرض لها أهل البيت(عليهم السلام) باستشهاد الإمام الحسين(عليه السلام), دور كبير في إثارة بعض كبار الصحابة الذين كانوا في الشام ضد يزيد(16).
فتلك المرأة السبية الأسيرة التي سيقت إلى مجلس يزيد مكتفة بالحبال، تقف أمام الحاكم المتغطرس المتجبر صارخة به بقولها(عليها السلام): (يا ابن الطلقاء) ومنذرة له بقولها(عليها السلام): ولتودن أنك شللت وبكمت، ولم يكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت (اللهم خذ بحقنا، وانتقم من ظالمنا، وأحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا)(17).
وتتحداه قائلة: (فو الله ما فريت إلا جلدك ولا حززت إلا لحمك) وتكرر تحديها له هاتفة: (فكد كيدك واسع سعيك)(18). وبصراحة أوضح تبدي احتقارها له وأنها أكبر وأسمى من أن تكلمه أو تخاطبه لولا ما فرضته عليها الظروف فتقول: (ولئن جرت عليَّ الدواهي مخاطبتك إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك )(19).
وأوضحت(عليها السلام) لمن كان قد حضر في مجلس يزيد مهنئا بالانتصار على الخارجين عن حكمه، أن هذه السبايا هم أبناء الرسول(صلى الله عليه وآله)، لا كما أخبر يزيد أنهن خارجيات عن الإسلام لذا قامت العقيلة زينب(عليها السلام) خاطبة بقولها: (أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من رجالهن ولي، ولا من حماتهن حمي؟ وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟ وكيف يستبطئ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن، والإحن والأضغان؟)(20).
فانقلب المجلس من فرح وشماته إلى بكاء وعويل ومأتم على آل الرسول(صلى الله عليه وآله). فكانت (عليها السلام) تواجه التحريفات والإشاعات التي أطلقها الأمويون فكانت الإعلام الصادق والمضاد ضد ما اقترفه الأمويون من إرهاب فكري فأخذت تقوم بتعبئة الجماهير، وكانت نتائجها أن أججت روح الثورات في المسلمين ضد السلطة الجائرة ولم تترك العقيلة زينب(عليها السلام) فرصة لفضح يزيد إلا استغلتها لصالح الدين الإسلامي فهي واصلت الطريق في أن يبقى ذكر أهل البيت(عليهم السلام) خالدا ًومحو يزيد وآل أميه من ذاكرة التاريخ وبث روح الثورة ضد الظلم وإرهاب الأمويين.