استشهد الإمام الحسين (عليه السلام) بعد أن قام منتفضاً منتصراً للإسلام المحمدي الأصيل لإحقاق الحق ودحض الباطل، وكان هذا المعنى واضحاً في كلماته الخالدة في طريقه إلى كربلاء منذ لحظة خروجه، فكان (عليه السلام) واعظاً ناصحاً مذكّراً بالله، ومخوّفاً من استمرار أعمال السلطة القائمة المخالفة لشرع الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله).
وكان النظام الحاكم يظن أنه بقتل الحسين (عليه السلام) سيطيب له العيش، وتصفى له الأمة، ويستتب الأمر له، ولكن ما أن انقضى اليوم العاشر من محرم الحرام حتى بدأت أسباب زوال الدولة الأموية بالظهور؛ فهنا ثورة، وهناك أخرى، وهنا ولاية سقطت، وهناك خلافة قامت… كلّ هذه الأمور وغيرها نخرت في جسد الدولة الأموية حتى لم ينقضِ على مقتل الحسين (عليه السلام) عقود من الزمن حتى سقطت الدولة الأموية لتقوم على أنقاضها دولة بني العباس.
ونستطيع القول بضرس قاطع: إن أول عامل لسقوط الدولة الأموية بعد عامل قتل الحسين (عليه السلام) هو الإعلام العلوي المتمثل بالإمام زين العابدين وزينب الحوراء وبنات الرسالة الذين قاموا بهذا الإعلام منذ لحظة مقتل الحسين (عليه السلام)، فها هي زينب الحوراء (عليها السلام) تذهب إلى جسد أخيها وهو مضرّج بدمه الزكي، مقطوع الرأس، مرضوض الصدر بحوافر الخيول، مطروح بين أخوتها وبنيها وأصحابه المقتولين، وفي موقف تنهدّ له الجبال الراسيات لتضع يديها تحت جسده الطاهر وترفعه إلى السماء وتقول لربها: ((اللهمّ، تقبل منا هذا القربان))، وهي بنفسها تحاول لململة عيالها والحفاظ على الأطفال بعد أن شردوا في العراء إذ حرقت خيامهم، وهي نفسها التي لم تترك وردها حتى ليلة الحادي عشر.
إن زينب الكبرى (عليها السلام) بهذا أوصلت رسالتها الإعلامية الأولى أن قتل الحسين (عليه السلام) هو فداء للإسلام، وأن دمه الزكي هو قربان لله تعالى؛ فالإسلام عندها أغلى من كل شيء والحسين فداء له ودمه هو الزيت المحرك للثورة، وبهذا الموقف وبحفاظها والتزامها وتماسكها واتزانها في حالة أبكت السماء دماً أوصلت رسالة ثبات الإسلام واستقراره وعدم الانكسار والانهزام مع عظم الفجيعة وهولها؛ وقد قدَّمت هذا الموقف عملياً حين سألها اللعين ابن زياد: ((كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟)) فأجابت سلام الله عليها: ((ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء القوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم يا بن زياد، فتحاجون وتخاصمون، فانظر لمن الفلج يومئذ! ثكلتك أمك يا بن مرجانة))(1)، فحطّمت كبرياءه وزهوه وغروره، وتكلّمت بمنطق القوة والعزة العلوية لا بمنطق الانكسار والضعة كما كان يتصور ابن زياد ومن حوله.
وزينب (عليها السلام) بقيامها الليل وحفاظها على وردها أوصلت رسالة الاعتزاز بالإسلام وعباداته، واجباته ومستحباته، والتوحيد لله تعالى في أحلك الظروف وأصعبها، والشكر له مع كل ما يصيب الإنسان، وأنّها امتداد للخط الرسالي من جدّها رسول الله إلى أبيها أمير المؤمنين وأمها الزهراء، وأخوتها صلوات الله عليهم أجمعين، وهي عكست بهذا المفهوم الإيجابي للدين بتطبيق عملي، فبعملها هذا كانت داعية ناصحة مذكرة بالإسلام الذي أراد الطغاة تحريفه وعكسه عن المسار الصحيح له،
يصف الشيخ محمد جواد مغنية حالها في تلك اللحظات فيقول: ((رجالها بلا رؤوس على وجه الأرض، تسفي عليهم الرياح، ومن حولها النساء والأطفال، في صياح وبكاء، ودهشة وذهول، وجيش العدو يحيط بها من كل جانب.. إن صلاتها في مثل هذه الساعة، تماماً كصلاة جدّها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المسجد الحرام، والمشركون من حوله يرشقونه بالحجارة، ويطرحون عليه رحم شاة، وهو ساجد لله (عزّ وعلا)، وكصلاة أبيها أمير المؤمنين، في قلب المعركة بصفين، وصلاة أخيها سيد الشهداء يوم العاشر، والسهام تنهال عليه كالسيل.. ولا تأخذك الدهشة إذا قلتُ: إنّ صلاة السيدة زينب، ليلة الحادي عشر من المحرم، كانت شكراً لله على ما أنعم، وإنّها كانت تنظر إلى تلك الأحداث على أنّها نعمة خصّ الله بها أهل بيت النبوة، من دون الناس أجمعين، وأنّه لولاها لما كانت لهم هذه المنازل والمراتب عند الله والناس))(2).
فزينب (عليها السلام) في كل موقف من مواقفها تلك كانت ضاربة للكيان الأموي، مزلزلة أركانه، محطمة بنيانه، بكلماتها وسكناتها، بعزتها وإبائها، بصبرها وتحديها، ولله درُّ الدكتورة بنت الشاطئ إذ تقول: ((لم تمضِ زينب إلا بعد أن أفسدت على ابن زياد ويزيد وبني أمية لذة النصر وسكبت قطرات من السم الزعاف في كؤوس الظافرين! فكانت فرحة لم تطل.. وكان نصراً مؤقتاً لم يلبث أن أفضى إلى هزيمة قضت آخر الأمر على دولة بني أمية))(3).
ولعلَّ من أبرز جوانب الإعلام الزينبي هو البلاغة التي تميّزت بها زينب، وكانت تخرج منها بسلاسة وسهولة دون تكلّف ولا مبالغة؛ لأنها أصبحت ملكة راسخة عندها ورثتها من جدّها وأبيها وأمها وإخوتها، وحسبها بأبيها إذ كان (عليه السلام) (مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة وموردها، ومنه (عليه السلام) ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ)(4).
وقد وصف المبرد (285هـ) زينب (عليها السلام) حين دخلت على ابن زياد قائلاً: ((وكانت أسنَّ من حمل إليه منهنّ، وقد كلمته، فأفصحت وأبلغت، وأخذت من الحجة حاجتها))(5)، وحين رأى ابن زياد بلاغتها التي تكمّ الأفواه وتدهش العقول انبرى قائلاً: ((هذه سجاعة، ولعمري لقد كان أبوها سجاعاً شاعراً))، فقالت له الحوراء:((ما للمرأة والسجاعة؟! إن لي عن السجاعة لشغلاً، ولكن نفث صدري بما قلت))(6)، وهي بقولها هذا دلّت على الملكة الراسخة في بيانها البليغ.
ومن بلاغتها العالية خطبتها في الكوفة في مجلس ابن زياد التي أدهشت الأسماع، فسكت القوم وكأن على رؤوسهم الطير، وبهت الطغاة بما كان، ولم يكن من أمر إلا أن سليلة علي (عليها السلام) تخطب في الناس؛ فلنستمع للراوي كيف كانت الحوراء في ذلك الموقف الصعب،قال بشير بن حذيم الأسدي: ((نظرتُ إلى زينب بنت علي يومئذٍ، ولم أرَ خفرة(7) قطّ أنطق منها كأنما تنطق عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) وتُفرغ عنه، أومأت إلى الناس أن اسكتوا! فارتدّت الأنفاس, وسكنت الأجراس،
فقالت: (الحمدُ لله، والصلاة على أبي محمّد رسول الله، وعلى آله الطيبين الأخيار آل الله).
وبعد؛ يا أهل الكوفة، ويا أهل الختل، والخذل، والغدر! أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة، إنما مثلكم كمثل التي ((نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ))(النحل: 92)، وهل فيكم إلا الصلف، والطنف، والشنف، والنطف(8)، وملق الإماء، وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة(9)، أو كقصة على ملحودة(10)! ألا ساء ما قدَّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون وتنتحبون؟ أي والله, فابكوا كثيراً, واضحكوا قليلاً،
فلقد ذهبتم بعارها وشنارها, ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً. وأَنّى ترحضون قتل سليل خاتم الأنبياء، وسيد شباب أهل الجنّة، وملاذ حيرتكم، ومفزع نازلتكم, ومنار حجتكم، ومدرة(11) ألسنتكم، ألا ساء ما تزرون، وبعداً لكم وسحقاً! فلقد خاب السعي, وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذّلة والمسكنة.
ويلكم، يا أهل الكوفة، أتدرون أيّ كبد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فريتم، وأيّ دم له سفكتم، وأيّ كريمة له أبرزتم, وأيّ حريم له أصبتم, وأيّ حرمة له انتهكتم؟ (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّا) (مريم: 89-90)،
إنَّ ما جئتم بها لصلعاء، عنقاء، سوداء، فقماء، خرقاء، شوهاء، كطلاع الأرض, وملاء السماء، أفعجبتم أن قطرت السماء دماً؟ ولعذاب الآخرة أشدّ وأخزى, وأنتم لا تنصرون، فلا يستخفنّكم المهل فإنَّه عز وجل لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثار، كلا إنَّ ربكم لبالمرصاد، فترقبوا أوّل النحل(12) وآخر صاد(13)))(14).
قال الراوي: ((فو الله، لقد رأيتُ الناس يومئذٍ حيارى، كأنَّهم كانوا سكارى، يبكون ويحزنون، ويتفجّعون ويتأسّفون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم)). إذا دققنا النظر في بنية هذه الخطبة العصماء خرجنا بعدة نقاط:
أولاً: القوة الخطابية لدى عقيلة بني هاشم (عليها السلام)، فهي قد بيَّنت قوّتها الخطابية عندما بدأت بخطبتها العصماء ارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس كما يصف الراوي، وأثناء الخطبة يرتفع البكاء والنحيب من الجمهور كما هو واضح من كلامها (عليها السلام)، وهذا يدلّ على مدى التأثير العالي الذي أحدثته الخطبة في نفوسهم، ويكمل الراوي الوصف بعد انتهاء الخطبة فوصف حالهم بالحيرة وكأنهم سكارى يبكون ويحزنون، ويفجعون ويتأسفون، فمن هول المصاب لا يدرون ما يفعلون، أما الحوراء وإن كان المصاب مصابها إلا أن قوتها الخطابية حازت على قوتهم النفسية.
ومما يؤكد هذه القوةَ الألفاظُ والصيغُ والتراكيبُ العالية في بنائها ومضمونها والتي لا يستطيع أي خطيب أن يأتي بها، هذا إذا نظرنا إلى حال زينب الحوراء (عليها السلام) وهي فاقدة لإخوتها وبنيها وأحبتها، وهي في حال السبي والأسر، والأغلال في يديها، وهي واقفة بين يديَّ العتاة المجرمين.
ثانياً: الأسلوب الخطابي المثالي؛ لقد جاءت الخطبة بأسلوبها المثالي المتبع عند العرب في الإسلام مبتدئة بحمد الله والصلاة على رسوله وآله، منتقلة في ما بعد إلى قولها (وبعد) وفي رواية (وأما بعد)، وهذه العبارة ترد في بدايات خطب العرب، فقد أثر عن سحبان – الذي يضرب به المثل في الخطابة – قوله: [من الطويل]
لقد علم الحي اليمانون أنني إذا قلت (أما بعد) أني خطيبها
فالواضح من القول أن هذه العبارة تفتتح بها الخطبة بعد الحمد والثناء؛ ومن ثم بدأت زينب الحوراء(عليها السلام) بنداء الحاضرين، وقد جددت النداء لاحقاً لكي تعيد إلى الأذهان الانتباه إلى الخطبة، هذا مع الانتقال بين الأساليب بين نداء واستفهام وخبر، إلى أن أنهت الخطبة، والمستقبل مستشعر بنهايتها غير محتاج إلى مزيد. وقد كانت الخطبة معتدلة في طولها، فلم تكن قصيرة مخلة ولا طويلة مملة.
ثالثاً: كان الاستشهاد بالقرآن الكريم حاضراً في جميع الخطبة من بدايتها إلى نهايتها، والألفاظ والأساليب القرآنية هي الحاكمة في النص، فقد اقتبست في كلامها مرتين بآيتين نصاً كما هو واضح في الخطبة، وخمس مرات أوردت الألفاظ القرآنية في أثناء الخطبة، وهي في قولها:
1- ((ألا ساء ما قدَّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون)) وقد استوحته من قوله تعالى: (لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) (المائدة: 80).
2- ((ابكوا كثيراً, واضحكوا قليلاً)) وقد استوحته من قوله تعالى: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) (التوبة: 82).