Take a fresh look at your lifestyle.

وقفة تأمل مع كتاب.. (الأحنف بن قيس أعظم المعاقين في الإسلام) للدكتور صلاح الفرطوسي

0 867

           صدر للدكتور صلاح مهدي الفرطوسي عضو مجمع اللغة العربية في دمشق مؤخراً كتاب بعنوان (الأحنف بن قيس أعظم المعاقين في الإسلام).
يقع الكتاب في 122 صفحة من القطع الوزيري. وقد قدم المؤلف للكتاب قائلاً: (الصفحات التي بين يديك هي في الأصل محاضرة ألقيتها في معهد المعاقين بمدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك سنة 1998، تناولت فيها سيرة الأحنف بن قيس أعظم المعاقين في الإسلام، وقد نالت استحساناً دفعني إلى الغوص في تفاصيلها… ثم يضيف ولقد رأيت في سيرة الأحنف عبرة جديرة بالتأمل والاقتداء، إذ لم يكن شخصية عابرة في تاريخ الأمة السياسي والعسكري والفكري والاجتماعي، وإنما كان واحداً من أبرز قادة الفتح الإسلامي الذين لمع نجمهم بعد وفاة الرسول في المشرق.
وعلى الرغم من مجمع العاهات الذي أحاط به منذ ولادته قبل الهجرة النبوية المباركة بما يقرب من عقدين، وحتى وفاته أواخر العقد السابع من القرن الأول الهجري، أو أوائل العقد الثامن منه، فقد وهبه الله سؤدداً، ومجداً، وحلماً…)، إلى أن يقول: كان الأحنف خير ممثل للعقيدة التي آمن بها قولاً وفعلاً، إذ اعتنقها وسار على هديها وتمسك بقيمها …).
بهذه المقدمة استهل الباحث الموضوع ثم رتب أقسام الكتاب على شكل مجموعة مقالات ذات عناوين متعددة جعلت من سيرة الأحنف القاسم المشترك لنطاق بحثها. والمطلع على هذا الكتاب قد يلاحظ فيه بعض النقاط التي يمكن أن يقف عندها ليسجل ما سنعرضه مع تقديرنا واحترامنا لجهود الدكتور صلاح الفرطوسي في الكتابة عن شخصية من الشخصيات الإسلامية التي أثرت فعلاً في مجريات التاريخ الإسلامي، وأن توجب عليه التحقق أكثر من الروايات، لأن المدة التي فصلت بين إعداد هذا البحث وطباعته في العتبة العلوية بلغت حوالي عشر سنوات.
1ـ عند التعرض لكتابة السيرة الشخصية لابد من منهجية معينة يتبعها الباحث، إلا أننا لم نر مثل هذه المنهجية في الكتاب، فقد بدأ أول بحث بعنوان (الصقر في ذمة الخلود) حيث أراد المؤلف أن ينقلنا مباشرة إلى مشاهد من مراسيم دفن الأحنف في ثوية الكوفة، ومنها ما قاله أحد الحاضرين في تلك المراسيم صفحة (19): (كنت والله لا تحسد غنياً ولا تحقّر فقيراً)، وبعد عدة صفحات وبالتحديد في صفحة(26) نلاحظ قول الأحنف حينما صلّى على حارثة بن قدامة السعدي أحد سادة البصرة المشهورين (رحمك الله كنت لا تحسد غنياً ولا تحقر فقيراً) فهل أراد الذي وقف على قبر الأحنف أن يقول ما قاله الأحنف عندما صلّى على جنازة السعدي؟.
2ـ وقف الدكتور الفرطوسي منذ الصفحات الأولى من كتابه موقف المدافع عن شخصية الأحنف، وكان عليه أن يقف موقفاً محايداً فيعرض النصوص التاريخية كما هي ثم يحاول استنطاق النص ليستخرج ما يدعم نظرته دون أن يعضد النصوص التي تمدح الأحنف ويضعّف الأخرى التي ترى فيه رأياً آخر.
3ـ أورد الباحث في توطئته عبارة: (… ولما كان الأحنف من كبار صحابة الإمام وكان له دوره الواضح في أحداث خلافته وما تلاها…) ولا ندري علام اعتمد الدكتور الفرطوسي في جعل الأحنف من كبار صحابة الإمام علي؟ وهل يرقى الأحنف إلى مالك وكميل وميثم ومحمد بن أبي بكر وحجر بن عدي وأضراب هؤلاء؟
4ـ يذكر الباحث في صفحة (72) نصاً يكشف عن كيفية اهتداء الأحنف لمعرفة خليفة المسلمين بعد مقتل عثمان فيقول: (فلقيت طلحة والزبير، فقلت من تأمراني به وترضيانه لي، فإني لا أرى هذا الرجل إلا مقتولاً، قالا: علياً، فقلت: أ تأمراني به وترضيانه لي؟ قالا: نعم، فانطلقت حتى قدمت مكة، فبينا نحن بها إذ أتانا قتل عثمان، وبها عائشة، فلقيتها وقلت من تأمريني أن أبايع؟ قالت: علياً، قلت تأمريني به ترضينه لي؟ قالت: نعم، فمررت على علي بالمدينة فبايعته، ثم رجعت إلى أهلي بالبصرة، ولا أرى الأمر إلا قد استقام)، والظاهر من كلام الأحنف أنه كان مؤمناًً تماماً بما يأمره به كل من طلحة والزبير وعائشة وكأنه رضي بما رضيا به الرجلان والمرأة، ولو قالوا له غير علي(عليه السلام) لأتمر بذلك دون التفكير الجدي بمن هو أحق في هذا المنصب، وهذا أول دليل يفيدنا في الاستدلال على أن الأحنف كان يميل إلى السلطة الحاكمة ورأي الجماعة.
5ـ ذكر الباحث ثلاث روايات حول موقف الأحنف من الإمام(عليه السلام) بعد معركة الجمل، أما الرواية الأولى فذكر فيها قول الإمام معاتباً الأحنف: تربصت (أي انتظرت) بنا خيراً أو شراً؟ فأجابه الأحنف بجواب يبين فيه أن في اعتزاله عن الخوض في المعركة كان في صالح الإمام ومن جملة قوله: (… وأنت إلي غداً أحوج منك أمس، فاعرف إحساني، واستصف مودتي لغد، ولا تقولن مثل هذا فإني لم أزل لك ناصحاً)، هل يعقل أن يكون من كبار صحابة الإمام ويقول له بمثل هذا القول؟، وهل من المناسب أن يقول الأحنف لإمامه (ولا تقولن مثل هذا!؟).
لقد كان موقف الأحنف حينما اعتزل الحرب ولم ينتصر للإمام علي(عليه السلام) مدعاة لانتقاده من قبل أبناء عشيرته التميميين البصريين أنفسهم، فهذا يزيد بن مسعود النهشلي يحدث عشيرته لما جاءه كتاب الحسين يدعوه لنصرته قائلاً: (فقد كان صخر بن قيس (الأحنف) انخزل بكم (أي ضعف) يوم الجمل فاغسلوها مع ابن بنت رسول الله ونصرته لا يقصر عنها أحد…)(1)
فقد عد هذا البصري التميمي تخذيل الأحنف أقاربه وعدم نصرة الإمام علي(عليه السلام) ضرباً من العار.
على أننا لا ننكر دور الأحنف المشرف في واقعة صفين وحثه قومه ومن ساروا تحت إمرته على نصرة الإمام علي(عليه السلام) وموقفه من خدعة التحكيم، كذلك دفاعه عن الإمام الحسن(عليه السلام) في مجلس معاوية دون أي خوف من معاوية أو تزلف إليه.
كان الأحنف من الوجوه المعروفة في البصرة، لذلك جاءه كتاب من الحسين(عليه السلام) يطلب منه النصرة، وقد كان رده على هذا الكتاب رداً لا يتناسب مع ما كان الحسين(عليه السلام)
يتوقعه منه فقد أوردت المصادر ردين مختلفين للأحنف على الكتاب سنعرضهما معاً:
الأول: أورده الباحث في صفحة (106) نقلاً عن عيون ابن قتيبة: (كتب الحسين بن علي رضي الله عنهما إلى الأحنف يدعوه إلى نفسه فلم يرد الجواب، وقال قد جربنا آل أبي الحسن، فلم نجد عندهم إيالة للملك، ولا جمعاً للمال، ولا مكيدة في الحرب)(2).
الثاني: كتب الحسين(عليه السلام) كتباً إلى وجوه أهل البصرة ومنهم الأحنف بن قيس ونص الكتاب( أدعوكم إلى الله وإلى نبيه فإن السنة قد أميتت، فإن تجيبوا دعوتي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد) وكان لكل وجه من الوجوه رد، فكان رد الأحنف فقد كتب إليه: (أما بعد فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)(3).
لقد تعرض الدكتور الفرطوسي للرد الأول فقط ، وقد نقل الجاحظ في كتابه العثمانية نفس قول الأحنف ولكن حينما جاءت إليه الناس تخبره بقدوم عبيد الله بن علي بن أبي طالب البصرة ونزوله عند أخواله التميميين(4).
وكان عقب الدكتور على الرد الأول في صفحة (106) بقوله: (إلا أنه رأى من وجهة نظره أن الأحوال قد تغيرت، وذهب زمن الرسالة، ولا بد للحكم من سياسة دنيوية تعتمد على القوة والحيلة والدهاء والمال والسياسة، وهي صفات ليست في بيت النبوة(عليهم السلام)، ولعله قالها بأسف وحرقة…)، أي يريد الباحث أن يخلص إلى نتيجة مفادها أن الأحنف كان يرى أن سياسة أهل البيت(عليهم السلام) عند تصديهم للحكم غير ناجحة فلابد للحاكم أن يمتلك أداة المكر والحيلة حتى يستقيم له الأمر، وهذا ما نعجب منه فكيف بالأحنف الذي عده الباحث من كبار صحابة الإمام علي(عليه السلام) أن يرى هذا الرأي؟. ومهما كان الأمر، فقد خاف الأحنف على نفسه من القتل ورأى في مبايعة يزيد وموادعته ما يحفظ حياته فلم يلتحق بالركب الحسيني لينال السعادة الأبدية، لكن الدكتور يبرر عدم نصرة الأحنف بقوله في صفحة (114): (إنه كان من الموالين لبيت النبوة، وإن سبب عدم مشاركته في نصرة الحسين(عليه السلام) يعود إلى ظروف القهر العارمة التي أحاطت بثورته وأدت إلى عدم مشاركة آلاف مؤلفة من الموالين له(عليه السلام)، وعدم مشاركتهم لا ينزع عنهم ثواب الموالاة…)
أما الرد الثاني الذي لم يذكره الدكتور الفرطوسي، فنرى الأحنف يبرز بدور الناصح للحسين(عليه السلام) بترك النهوض بوجه الأمويين، والتزام الصبر وعدم الانجرار وراء أصحاب الوعود المزيفة، وكان الأجدر بالأحنف أن ينصر سيده وإمامه ولا يتقاعس عنه فدعوة الإمام الحسين(عليه السلام) إليه بالنصرة كانت لإلقاء الحجة عليه، لكنه آثر السلامة على الشهادة.
لقد قضى الأحنف الفترة التي امتدت من استشهاد الحسين سنة 61هـ إلى سنة 69هـ أو 71هـ، أي لمدة عقد تقريباً ولم يهنأ بيوم واحد، فقد كثرت الفتن والمواجهات الدامية بين الأزديين والتميميين، كما تمكن أنصار ابن الزبير من البصرة فهرب عبيد الله بن زياد مما سهل الأمر على مصعب بن الزبير أن يدخل البصرة ويتولى أمرها، ثم دارت وقائع المواجهة بين مصعب و المختار كلها وجعلت الأحنف ـ باعتباره كبير قومه ـ في جو مشحون من الهموم والأفكار التي باتت تؤرقه وترهقه ليلاً ونهاراً حتى آلَ أمره إلى ترك البصرة ونزول الكوفة بمعية مصعب بن الزبير، حتى لفظ فيها أنفاسه الأخيرة، وهذا يجعلنا نسأل: (ماذا أضاف هذا العقد من الزمن الذي عاشه الأحنف في هم وخوف وقلق إلى حياته؟)، فلو استجاب لطلب سيد الشهداء واستشهد في كربلاء لنال القدح المعلى والخلود الدائم.
من هذا كله نستنتج أن الأحنف وبالرغم من محبته (لا موالاته) لعلي وآله(عليهم السلام)
ودفاعه عنهم أحياناً، إلا أنه كان مسايراً للسلطة ويرى وجوب طاعة الحاكم وإن كان ظالماً .

نشرت في العدد 50


(1) الأمين العاملي، أعيان الشيعة، 3/222.
(2) 1/211.
(3) المجلسي، بحار الأنوار، 44/340.
(4) الجاحظ، العثمانية، ص96.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.