من بديهيات الأمور القول إن الفترة التي فصلت بين يوم البعثة النبوية الشريفة ويوم واقعة الطف الرهيب لم تتجاوز الثلاثة وسبعين عاماً. فترة عمر شخص عادية جداً لم تكن كافية لإنضاج عقلية فردٍ سويّ متّزن راغب في تطوير نفسه فضلاً عن إشباع فكر أمة أو مجتمع، خاصة كالمجتمع الجاهلي المشبّع بالعادات والتقاليد والقيم القبلية المتحجرة والمتخلفة كثيراً حتى عن أقرانه، يكفيك أن تفصح السماء عن جريمته الشائعة مما يجعل القرآن يستنكرها برهبة مخيفة.. يقول سبحانه وتعالى: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ) (التكوير:8 ـ 9) مجتمع لا يرحم فيه وليدة بريئة يقتلها وهي لم تكن المسؤولة عن وجودها في هذه الحياة.. مجتمع كهذا يبعث به ومن رحمه نبي الرحمة المهداة ثم ليأتي النص الذي سيكفل الله تعالى به حفظ كتابه المنزل ودينه المكفل ونبيه المرسل (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ..) (الحجر:9) ثم (بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة:67) ثم (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (يوسف:21) هكذا، إذن، ولم يكن هكذا لولا قصر الفترة كأحد المتحديات التي تقف إلى جنب سواها مهددة لإنقاذ عقيدة السماء برسالتها الخاتمة بمشيئته جل وعلا. مرحلة قصيرة العمر لا ينضج فيها رجال النوع ونساؤه إلا باختيار وإرادة ربانية سابقة كي يحافظ فيها أمثالهم على عقيدتهم حتى لحظة لحاقهم بربهم في الملكوت الأعلى. هؤلاء الناس هم أمثلة النوع الأسمى في كل المقاييس، ليس من لائق سماتهم الدنو من الرذيلة. هؤلاء أناس هم بالدرجة التي تلي درجة المعصومين. أما سواهم فأولئك هم من السنخ الآخر.
إذن فترة قصرت، لرسالة بعثت، وزلازل أثناءها قد وقعت، فهي بين ستّر، ثم جهر، ثم هجرة، بعدها فتح، تخلله زلزال (حنين)، وفي الفتح دخل الناس في دين الله أفواجا بإرادته سبحانه ليتعلموا الدين لاحقاً إن أرادوا هم ذلك عن قناعة لاحقة أو رغبة ساحقة، رجال ونساء أسلموا وبعض قد استسلموا وبعدها يرحل صاحب الرسالة قريباً بعد أن كمل الدين وتمت النعمة ورضى الله به ديناً لعباده، فمن ارتد أو انحرف بعد ذلك فعليه وزره فما على الرسول إلا البلاغ، وقد بلغ(صلى الله عليه وآله) وأوفى وصدق وأجزى.
اتسعت المساحة عقب رحيله بعد مخاض كبير تزاحم فيه الناس على الموقع الذي أرادوا أن يقودوا الناس من نقطته، مع جهل بعواقب ستأتي لتزلزل كثيراً من أقدام لم تزل ضعيفة في ثباتها على أرضية هذا الدين الفتي! كان من نتاج ذلك أن يؤول الأمر فيما بعد لأبناء من رأى في دين الله ملكاً عظيماً محسوداً عليه (لكنها النبوة لا الملك يا أبا سفيان)(1).
توسعت رقعة الدين الجغرافية بعد أن جرف الطوفان الإسلامي كل من أمامه على أرض العقيدة، فاختلط الغث بالسمين، والدين عظيم الحجم، رائع المضمون، واسع المفهوم، قليل الفهم والتفهم (فالناس أكثرهم همج رعاع وقلة متعلمون على سبيل نجاة وندرة علماء ربانيون) فسلام على من صنف هذا فأنصف ذلك هو أمير المؤمنين عقيد الإيمان ولي الرحمن تعالى
علي(عليه السلام)(2).. هكذا كان واقع الدين والمتدينين به فهم بين من شملهم القول الإلهي (لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات:14) وبيّن من هم (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) (الأحزاب:23) هؤلاء سيثبت لنا الزمن لاحقاً هم الذين صمدوا وثبتت أقدامهم وانتظروا وما بدلوا تبديلاً حتى جاء وعد الله فكانت كلمتهم التي أعلنوها في الطف في العاشر من المحرم سنة
61 هج.
لم يكن هؤلاء ممن لم يمتحن قلبه في الإيمان ليكون فريسة سهلة للذئاب المتربصة من أجل الوثوب على مواقع ظنوها هم وآباؤهم الأولون أنها ملك.. لقد عاد الأب الأول (أبو سفيان) ليخاطب (حمزة عم الرسول) وهو يمر بقبره فيقول: (يا أبا عمارة إن الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيوف قد صار إلى غلمان بني أمية)!!(3) نعم، وعلى هذا يقول الغلام الأموي (يزيد بن معاوية) متمثلاً قول ابن الزبعرى:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
لاستبانوا واستهلوا فرحـاً
ثـم قـالـوا يا يزيـد لا تشـل
لعبت (هاشم) بالملك فلا
خبر جاء ولا وحي نزل!(4)
هذا كان نتاج التزاحم، ليأخذ الناس مواقعهم، فمن فئة يكون الأمراء! ومن أخرى يكون الوزراء! وليكن ما يكون فيما بعد.. فالأهم كما يبدو ليس (الأفضل) بل الموقع المفضل وللوزر الموزور سيبقى المؤزر يتحمل!
وصحيح قد برزت رموز عقائدية متبصرة غير مستبصرة لاحقاً بين طالب للحق مخطئاً له، وطالب للباطل مصيباً له، بمكر وخداع لكن النوعين على سواء قد سببوا للأمة وبنيها وللدين وأهله وللأجيال الضياع والهلكة والتخلف ليسد عليهم لاحقًا عدو عقائدي أزلي من نوع آخر، وسيبقى كذلك حتى حين!
والصحيح الواقع أن الناس قد تركت عبر العصور اللاحقة بين حاكم ظالم وبين محكوم مظلوم.. ذلك لسبب واضح هو أن العهد الذي أصابوه هو ليس عهد الله الذي يصيب ولا يصاب (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124).
إن الحس العقائدي السليم يقودك إلى ما قاله سلمان المحمدي: أما والذي نفس سلمان بيده : لو وليتموها عليًّا لأكلتم من فوقكم ، ومن تحت أقدامكم(5) أي من خيرات السماوات وكنوز الأرضين.. ولكن..!!
بدأ الظلم مبكراً بعد رحيل الأمين(صلى الله عليه وآله) واستمر حتى اليوم ولكنه قد بلغ ذروته في مأساة الطف التي شهدت الفيصل التاريخي بين فريقين، فريق الحق العقائدي يقوده سبط النبي المرسل(صلى الله عليه وآله) الذي خرج (طلباً للإصلاح في أمة جده) بعد أن فسد الأمر وصاح الناس الغوث، ثم غدروا، لكن وجب على الحسين(عليه السلام) الإجابة لأنها مسؤوليته التي لا يمكن لسواه التصدي لها بوجوده بعد قيام الحجة للتصدي وأخذ زمام الأمور.
جاء للإصلاح فأجابوه بالصدود.. كلمتهم عيونه الباكية من أجلهم.. فشهروا السيوف بوجهه.. طالبهم أن يعودوا إلى أنسابهم ليروا هل يحل لهم قتله إن كانوا عرباً كما يزعمون فأجابوه بأنهم الأعراب الذين لا يفقهون في الدين ومن معنى أنسابهم شيئاً!!
لم يأت أمراء الرذيلة (يزيد وابن زياد وابن سعد) إلا بدين الردة والتنكر ليقاتلوا به أمراء الفضيلة بدءًا من الحسين(عليه السلام) وانتهاء بصحبه الأجلاء (حبيب ومسلم بن عوسجة وزهير والمؤمن الواعي الحر الرياحي وأقرانهم)، ورثة الرسالة المحمدية أقران (سلمان وأبي ذر ومالك الأشتر وكميل بن زياد وعمار بن ياسر وميثم التمار وحذيفة بن اليمان وخزيمة ذو الشهادتين وجابر بن عبد الله الأنصاري… و… و… سواهم من الثلة النادرة.
فمن أراد الحق والعقيدة فالطف برجاله معياره الأدق.. ففيه أناس في غاية الوضوح دون أي كلل أو ملل ودون الحاجة إلى جدل، فالشمس طالعة لتريك الناس في رابعة النهار على ماهيتهم.. فأهل الحق معروفون وأهل الباطل واضحون.. وطريق الصراط واضح وهو المستقيم الذي لا يقبل الانحراف.
ذهب الناس مذاهبهم لكن الأسى يبقى ليقول عبر التاريخ نحن الأمة التي قتلت ابن بنت نبيها فأضاعت نفسها بيدها وأضاعت الأجيال من بعدها.
فسلام عليك سيدي أبا الشهداء، وسلام على تلك الكوكبة من أصحابك، وهدانا الله لمودتكم ففيها معرفة السبيل المشرق بنوره فهو منهاج ورثتموه عن جدكم المصطفى(صلى الله عليه وآله).
وسيبقى الطف بواقعته معيارنا الأبدي حين نعشق طريق العقيدة الحقة.. طريق التحرر والخلاص فهو صك الأمان لأنه صورة لصحيفة الإيمان..
نشرت في العدد 50
(1) قال أبو سفيان مخاطبًا العباس عم النبي(صلى الله عليه وآله): لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيمًا ، فأجابه العباس : ويحك يا أبا سفيان إنّه ليس بملك إنّما هي النبوّة. (سيرة ابن هشام/ج4 ص849).
(2) صنف أمير المؤمنين(عليه السلام) الناس بقوله: (الناس ثلاثة : فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم..) (نهج البلاغة ج4 ص35).
(3) أبناء الرسول في كربلاء/ خالد محمد خالد ص29.
(4) تاريخ الطبري/ج8 ص188.
(5) الاحتجاج /الطبرسي ج1 ص151.