Take a fresh look at your lifestyle.

موقف الفقه الإمامي ِمن (ما لا نص فيه)

0 598

        يعيش الواقع الاستنباطي في عموم الدائرة الإسلامية مشكلة تجدد الوقائع الحياتية تحت قانون التطور مع تناهي النصوص التشريعية، مما حدا بالحركة الاجتهادية في كافة المذاهب الإسلامية إلى إيجاد مخرج استنباطي لهذه المشكلة، وقد أخذت بقية المذاهب الإسلامية بمصادر تشريعية أخرى غير النص القرآني والحديثي والإجماع، ومع أنهم لم يتفقوا مع الإمامية في استقلالية دليل العقل كمصدر من مصادر التشريع، فإنهم أخذوا بالقياس والاستحسان والمصلحة وسد الذرائع وفتحها، والعرف..، كأدلة أو مصادر في ما لا نص فيه من الوقائع الحياتية المتجددة والموضوعات المستحدثة.
أما في حدود دائرة الاجتهاد الإمامي، فإن ثمة مخارج وضعها أصوليو الإمامية بغية التأسيس المنهجي لمعالجة القضايا المستجدة في الواقع المتغير، وكانت تلك المخارج ذات صيرورة وتطور عبر التاريخ الأصولي ـ الفقهي الإمامي، بدأت منذ التنظير المنهجي لدليل العقل عند الإمامية والتأسيس له معرفيًّا من خلال مباحث العقل العملي أو المستقلات العقلية، وانتهاءً إلى ما يعرف بمنطقة الفراغ التشريعي وصلاحيات الفقيه المجتهد، في العديد من المسائل المستحدثة.
وقد كانت مهمة المجتهدين ملء منطقه الفراغ بالأحكام الاجتهادية والتنظيم بعد أن لم يكن في الواقعة نص.
إنّ موضوعات الأحكام أو متعلقاتها كانت هي أفعال المكلفين على ما هي عليه في زمانهم من محدودية وبساطة طبقاً لبيئتهم آنذاك، فالقوانين الواردة في النقل مثلاً لا تتجاوز أحكام استئجار البشر، أو بعض الحيوانات، أو بعض الزوارق، أما أحكام الطائرات ومطاراتها، والبواخر وموانيها ومرورها في أجواء الغير وبحارهم، وأجور القائمين عليها، فهي موضوعات مستحدثة شأنها شأن استنساخ الإنسان، وأطفال الأنابيب، أو النظر للأفلام السينمائية والتلفزيونية عامة والمخلّة بالأخلاق خاصة، والألعاب الإلكترونية، والتجارة الإلكترونية، والحقوق الفكرية عمومًا، ونشر المؤلفات واستغلال العلامات التجارية وكل ما يشمله مصطلح الملكية الأدبية والفنية والصناعية خصوصاً… إلى غير ذلك من نظم حديثة(1)، مما لم نجد لها وعنها ذلك البيان الجلي في القرون الأولى من بدايات الديانة الإسلاميّة وتشريعها.
ومنطقة الفراغ هذه وصلاحية الفقيه في سدّها من مقتضيات حفظ النظام، (إن المعروف من الإسلام أنه يملأ الفراغات اللازمة الملء لحفظ النظام ونفي الهرج والمرج، أي إن كل ما يكون عدم ملئه موجبًا لاختلال النظام يملؤه الإسلام بطريقته الخاصة)(2).
وتأسيسًا على ذلك ظهرت ثمة مظاهر اجتهادية بصدد معالجة إشكالية تناهي النصوص ولا تناهي الوقائع، وأبرزها:

أولًا: ظاهرة الإمضاء الشرعي
الإمضاء بحسب اللغة كأن يقال: (أمضى الحكم والأمر أي أنفذه)(3)، والإمضاء بمعنى التنفيذ والخلق كما عند أبي الهلال العسكري(4).
وكذلك معناه عند صاحب معجم لغة الفقهاء إذ يقول: (الإمضاء أو أمضى الحكم أو الأمر: أنفذه)(5).
أما في الاصطلاح الفقهي، فالإمضاء غالبًا ما يرد على ألسنة الفقهاء في محل الاستدلال الفقهي، ولم يوجد من عرفه إلا أن التعبيرات الفقهية توحي بمعناه وهو مما لا حاجة إلى تعريفه كمصطلح، إلا أنه من خلال كونه ظاهرة في التشريع الإسلامي يحتاج إلى وقفة تأمل في دواعيها وتداعياتها.
وتتشكل هذه الظاهرة من خلال أن التشريع الإسلامي في جانبه التنظيمي المتعلق بإدارة حياة الإنسان، قد وقف على جملة من السلوكيات التي أخذ البشر يتداولونها، وهذه السلوكيات تختلف نوعًا وكمًا كذلك من حيث الأهمية، فالإنسان مدني بطبعه ويميل إلى تشكيل علاقات مع أفراد المجتمع على مختلف أنواع تلك العلاقات بحسب حاجاته الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية.
والإمضاء الشرعي هو سكوت وتقرير الشرع لحالة أو سلوك فيه مصلحة مادية أو معنوية، وخصوصًا في باب المعاملات، إذ تشكل دائرة المعاملات حزمة من الإمضاءات، فقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)(6)

ما هو إلا إمضاء لفعل البيع، إذ إن البيع كفعل موجود قبل نزول التشريع، ولم يكن للتشريع إلا أن جعل له اعتبارًا يقتضي صحة الفعل وفق معناه العرفي، ويؤكد ذلك السيد أبو القاسم الخوئي(قدس سره) بقوله: (إن الإمضاء الشرعي إنما تعلق في عالم التشريع بنحو القضية الحقيقية بالاعتبار الصادر من شخص خاص مع تحقق قيود مخصوصة ومن جملتها وجود مظهر خاص في مقام إبراز الاعتبار)(8)

، بمعنى أن الإمضاء ما هو اعتبار، وما يتعلق بهذا الاعتبار مفهوم عام كعموم مفهوم البيع، من دون النظر إلى كونه صحيحًا أو فاسدًا، إذ صحة البيع غير منظورة في عملية الإمضاء كما يبين ذلك السيد علي الشاهرودي(قدس سره) بقوله: (وما يتعلق به الإمضاء الشرعي هو الطبيعي، وهو لا يتصف بالصحة والفساد، والمتصف بهما الفرد بملاحظة انطباق الطبيعي عليه وعدمه)(8)، والطبيعي هو طبيعي المفهوم من دون ملاحظة ما يطرأ عليه من قيود أو أوصاف، والصحة والفساد إنما تنطبق على أفراد ذلك الطبيعي.
ويشير سماحة آية الله العظمى الشيخ الفياض إلى أن (نسبة المعاملات إلى الإمضاء الشرعي في إطار أدلته الخاصة نسبة الموضوع إلى الحكم)(9)، بمعنى أن الإمضاء لما كان يدل على عدم الردع والمنع فهو من جهة أخرى يعد حكمًا بالجواز وما نسبة المعاملات إليه إلا موضوعات بما أنها أفعال وسلوكيات مطردة.
ومن نماذج الإمضاءات الشرعية:
البيع المعاطاتي: فيدل على صحته: (وجوده من لدن تحقق التمدن والاحتياج إلى المبادلات إلى زماننا، بل الظاهر أن البيع أقدم زماناً وأوسع نطاقاً من البيع بالصيغة…وكانت متعارفة في عصر النبوة وبعده بلا شبهة، فلو كانت غير صحيحة لدى الشارع… لكان عليهم البيان القابل للردع)(10).

مستويات الإمضاء الشرعي
لما كان الإمضاء يتضمن توافقًا بين عالم التشريع وبين عالم التكوين، أو بين منظومة الأحكام وبين منظومة الأفعال، فإن هذا التوافق يظهر على عدة مستويات:
1- الإمضاء المرصود في النص: وهو الإمضاء الذي تعلق بموضوعات في عصر النص، كما في إمضاء البيع وبقية المعاملات.
2- الإمضاء الملازم للنص: وهو الواقع في توسيع نطاق الدليل من خلال مناسبات الحكم والموضوع، أو ما يعبر عنه بتنقيح مناط الدليل.
3- الإمضاء الملحق بالنص: وهذا الإلحاق يتم من خلال ملاحظة بعض خصوصيات الموضوع التي يشترك فيها مع موضوعات أخرى لها أحكامها الشرعية المنصوصة، وهو التكييف الشرعي لكثير من الموضوعات المستحدثة كما هو مصطلح عليه في الدراسات الفقهية المتأخرة.

أدوات الإمضاء الشرعي
تقوم فكرة الإمضاء على أداتين مهمتين في الواقع الاستنباطي، وهما العرف والسيرة العقلائية، فالموضوعات التي يمضيها الشرع إنما تكون قابلة للإمضاء في حالة كونها من الأمور العرفية أو العقلائية، بمعنى أن العرف والسيرة العقلائية يمثلان المدخل والطريق للإمضاء الشرعي، فلا يوجد إمضاء لموضوع معين ما لم يكتسب هذا الموضع طابعًا عرفيًا أو عقلائيًا.
نظرًا إلى التطابق والانسجام بين عالم التشريع وعالم التكوين، وكيف أن هذا التطابق عامل أساس في حفظ النظام العام، فإن الإمضاء من مقتضيات ذلك التطابق وبالتالي من مقتضيات حفظ النظام، فالإمضاء الشرعي لا ينبغي أن يفهم في إطار كون التشريع ينجر إلى واقع ضاغط فيضطر إلى القبول بعناصر الواقع كأعراف وسير عقلائية، بل الحق هو أن التشريع منذ البدء قد اهتم بحفظ النظام العام وإمضاء ظواهر الحياة في حدود كونها طبيعية تنسجم مع الفطرة.

ثانياً: ظاهرة التكييف الشرعي
من حيث المفهوم يعد التكييف الشرعي مستوى من مستويات الإمضاء الشرعي إلا أنه برز مستقلًا من حيث المصطلح، لذلك تم رصده على أنه ظاهرة من ظواهر تعاطي الفقه مع ما لا نص فيه.
فبالنظر إلى الفواصل الزمنية بين النص وبين الواقعة المستحدثة التي لا يجد لها الفقيه نصًا شرعيًا مبينًا لحكمها، فإن متطلبات الواقع وما تنطوي تحته من مستجدات تحتم على الفقيه موقفًا شرعيًا يحدد مشروعية الواقعة المستجدة من عدمها، وفي ضوء هذه الحاجة الملحة والتي هي من مصاديق حفظ النظام فقد لجأ الفقهاء إلى عملية التكييف الفقهي.
(إننا أمام موقفين في عملية التكييف الفقهي للبنك اللاربوي أولهما هو عندما يتم التخطيط لبنك لا ربوي ضمن تخطيط شامل للحياة وفق الرؤية الإسلامية، وثانيهما: هو التخطيط للبنك بصورة مستقلة عن مرافق النظام الإسلامي وتحت النظام الفاسد وهذا يحتم علينا أن نبحث البنك اللاربوي بشكل مختلف عن الموقف الأول..)(11)، ويتضح من هذا القول مقتضى حفظ النظام العام في تكييف معاملة مالية أصبحت محل ابتلاء المكلف.

ثالثاً: ظاهرة الأصل العملي
الأصل العملي هو ما يرجع إليه عند العجز عن تحصيل الأدلة الكاشفة عن الحكم الواقعي وتركز الشك(12)، أو هو: (الحكم الظاهري المحتاج إليه في مقام العمل من دون ارتباط له بمقام الألفاظ، فكل حكم ظاهري كان مجراه باب الألفاظ فهو أصل لفظي. وكل حكم ظاهري كان مجراه عمل المكلف وتعيين وظيفة له بالنسبة إلى عمله فهو أصل عملي)(13)، ويكون في حالة عدم حصول الفقيه على دليل يدل على الحكم الشرعي وبقاء الحكم مجهولًا لديه، فيتجه البحث في هذه الحالة إلى محاولة تحديد الموقف العلمي تجاه ذلك الحكم المجهول بدلًا عن اكتشاف نفس الحكم.
والأصول العملية لا تثبت متعلقاتها، لأنه ليس لسانها لسان إثبات الواقع والحكاية عنه، وإنما هي في حقيقتها مرجع للمكلف في مقام العمل عند الحيرة والشك في الواقع وعدم ثبوت حجة عليه وغاية شأنها أنها تكون معذرة للمكلف(14).
وقد امتاز الفقه الإمامي بهذا المنحى عن غيره، لكن لم يكن هذا المنحى بهذه الدرجة من الوضوح منذ البدء، بل أخذت تتبلور وتتضح شيئًا فشيئًا، إلى أن ظهرت بشكل دقيق على يد الأستاذ الوحيد البهبهاني(قدس سره) ومدرسته، ثم تحددت بعده على يد الشيخ الأنصاري(قدس سره)(15).
والأصل العملي بما يوفر من مساحة أمام المكلف تجاه الواقعة المجهولة أو المشكوكة فهو يسهم في حفظ النظام من حيث كثرة تلك الوقائع .

نشرت في العدد 50


(1) ظ: البهادلي، أحمد : منع الحمل وإجهاض النطفة، وظ: الصغير، محمد حسين : فقه الحضارة . للاطلاع على بعض النماذج .
(2) الحائري، كاظم: القضاء في الفقه الإسلامي:1/ 3 .
(3) إبراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر ـ محمد النجار، المعجم الوسيط، ت: مجمع اللغة العربية: 2/670
(4) العسكري، ابو الهلال: معجم الفروق اللغوية: 1/24
(5) قلعجي، محمد: معجم لغة الفقهاء : 1/89
(6) البقرة: 275
(7) الخوئي: أبو القاسم، أجود التقريرات: 2/ 137
(8) دراسات في علم الاصول: 2/24
(9) الفياض، محمد اسحاق، محاضرات في أصول الفقه تقريرًا لأبحاث السيد الخوئي: 5/9.
(10) الخميني، روح الله الموسوي،البيع، 1/59.
(11) الصدر، محمد باقر، البنك اللاربوي: 21، ط 2012، العارف.
(12) الحكيم، محمد تقي، الأصول العامة للفقه المقارن: 306 ،
(13) المشكيني، علي، اصطلاحات الأصول:50.
(14) ظ: المظفر، محمد رضا، أصول الفقه: 2/8
(15) ظ: الأنصاري، محمد علي، الموسوعة الفقهية الميسرة: 3/493.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.